الروائي واسيني الأعرج: كل كتابة ترتبط بجرح ما‏

14-05-2009

الروائي واسيني الأعرج: كل كتابة ترتبط بجرح ما‏

يعتبر الروائي الجزائري واسيني الأعرج من أهم الروائيين العرب اليوم، وقد افتك هذه المكانة ‏الكبيرة في المشهد الثقافي العربي بإبداعاته الغزيرة التي تغوص في الواقع الجزائري بكل تفاصيله ‏وتناقضاته، بلغة فيها الكثير من الحرفية والعجائبية والبساطة أيضا. الروائي الجزائري واسيني الأعرج

شخصياته حالمة ورومانسية ‏ومنفلتة وصادمة وأسلوبه يمزج بين الجدية والسخرية. لذلك لا غرو في أن تجد رواياته وكتاباته ‏العديدة قبولا لدى القراء والنقاد على حد السواء.

ومن هذه المؤلفات نذكر "جسد الحرائق" ‏‏1978، و"طوق الياسمن" 1982، و"نوار اللوز" 1983، و"الليلة السابعة بعد الألف" 1993، ‏و"سيدة المقام" ،1995 و"حارسة الظلال" 1996، و"شرفات بحر الشمال" 2001، و"كتاب ‏الأمير" 2005، وأخيرا الرواية الصادرة عن دار الآداب سنة 2009 تحت عنوان "سوناتا لأشباح ‏القدس" والتي كشف لنا بعض أسرارها في هذا الحوار الصريح.‏

واسيني الأعرج أيضا متحصل على عديد الجوائز نذكر منها الجائزة التقديرية من رئيس ‏الجمهورية سنة 1989 ،وجائزة قطر العالمية للرواية 2005 ،وجائزة الشيخ زايد للأداب عن ‏روايته "الأمير" سنة 2007. وقد ترجمت أعماله إلى الكثير من اللغات الأجنبية مثل الألمانية ‏والانجليزية والفرنسية والاسبانية والإيطالية. ‏

كان في زيارة خاطفة لتونس بدعوة من سلسلة "ترافلينغ" لتوقيع كتابيه "هكذا تحدث واسيني ‏الأعرج" و"الكتابة الروائية عند واسيني الأعرج" والكتاب الأخير صادر عن منشورات كارم ‏الشريف والكتابين من تأليف صديقنا الكاتب المتميز كمال الرياحي، فتحية للصديقين، وتحية ‏للكاتب الكبير واسيني الأعرج الذي كان متواضعا وهادئا و رصينا في إجاباته وكذلك صريحا إلى ‏أبعد الحدود.‏

‏* لننطلق من روايتك الأخيرة "سوناتا لأشباح القدس"، لماذا اخترت الاشتغال على موضوع ‏القضية الفلسطينية؟ هل هي محاولة للاقتراب من القارئ العربي ودغدغة أحاسيسه أم هي ‏خصائص المرحلة الراهنة وما يعيشه العالم العربي من أحداث؟
‏- أولا، أريد الإشارة إلى أن هذه الرواية قد كتبت قبل أحداث غزة الأخيرة وربما من هذا الجانب ‏هناك دغدغة لأحاسيس القارئ، لكن مع ذلك أعتقد أن هناك إحساسا داخليا بوجود قضية.

وهذا ‏الإحساس لا يرجع الى أن هذه القضية هي قضية عربية وانما لأنها قضية إنسانية وهي قضية ‏عادلة في جوهرها ولكن للاسف مورس عليها وضدها شيء غير عادل، وبالتالي أنا حينما أكتب ‏عن فلسطين أكتب طبعا عن الهاجس العربي وعن التمزق وعن أحاسيسي القومية كإنسان وجد في ‏مكان وزمان معينين ، ومع ذلك أنا أكتب عن قضية تتجاوز المساحة العربية لأن القضية قضية ‏استعمار وظلم وهضم حقوق.

وأنا أعتبر أن الكاتب ضمير من الضمائر الحية- وليس شرطا ان ‏يكون الضمير الأوحد- لذلك من حقه أن ينتفض على هذا الظلم ويعبر عن رأيه بكل حرية، وما ‏يضاف إلى هذه القضية هو أنها قضية قومية إذن فالهاجس مزدوج ومشترك.‏

هذا أولا وثانيا أنا بدأت أكتب عن الموضوع منذ ثلاثة أو أربعة سنوات تقريبا، ولم تكن فلسطيني ‏هي المقصودة فقد بدأت مشروعا آنذاك- وانتهيت منه الآن- مع دولة قطر حيث طلب من ‏مجموعة من الكتاب العالميين أن يكتبوا عن التاريخ العربي منظور إليه روائيا، وتضم هذه القائمة ‏عشرة كتاب من فرنسا واسبانيا وبريطانيا وأمريكا اللاتينية وطبعا من العالم العربي.

وقد طلب ‏من هؤلاء الكتاب أن يفكروا في كتابة نص روائي يبدأ من اتفاقية "سايكس بيكو" إلى اليوم، وقد ‏أخذت 3 سنوات للعمل وكتبت الرواية التي ستصدر تحت عنوان "سراب الشرق" في نهاية ‏‏2009 ضمن مشروع كبير يحمل اسم "جائزة قطر العالمية للرواية" وفي هذه الرواية تحدثت عن ‏الرحلة العربية من الحرب العالمية الأولى وانفصال العرب عن الإمبراطورية العثمانية حتى ‏الوضع الحالي وما آلت إليه الأحلام العربية، وسيصدر الكتاب في جزئين من الحجم الكبير وفي ‏خمس لغات عالمية وهي الفرنسية والانجليزية والاسبانية والألمانية والعربية طبعا.

وقد شعرت ‏وأنا أكتب هذا العمل بأنني مررت فوق سماء فلسطين وكانت المادة المتوفرة عندي مادة كبيرة ‏وكنت أفكر وأنا أكتب الرواية، في كتابة رواية أخرى مستقلة تماما فدخلت في غمار رواية ‏‏"سوناتا لأشباح القدس" ولهذا هناك عامل موضوعي مرتبط بمادة الكتابة وهناك عامل انساني ‏ثقافي حضاري.

وأنا في النهاية كتبت عن شخصية يمكن أن توجد في أي مجتمع، شخصية "مي" ‏الفنانة التشكيلية ولكنني موقعتها في منطقة معينة ومكان محدد هو فلسطين للحديث عن القدس ‏وعن هذا الجانب الظالم، وقد تحدثت عن محرقة أخرى غير المحرقة المعروفة ضد اليهود التي ‏أرفضها وأرفض أن يمس الإنسان فقط على أساس عرقي أوديني أو ثقافي، هذه هي محرقة ‏فلسطين التي أسميها المحرقة الصامتة وقد أردت أن أنبه الرأي العام العربي والعالمي إلى هذه ‏القضية.‏

‏* وما حكاية "مي" هذه الفنانة التشكيلية وعلاقتها بفلسطين؟
‏- قصة "مي" هي طفلة صغيرة خرجت سنة 1948 من فلسطين مع والدها وذهبت إلى أمريكا ‏بعد اغتيال أمها وبقية أفراد عائلتها، لتتربى عند خالتها في نيويورك نظرا لانشغال الأب بالعمل ‏في منطقة بعيدة.

وتكبر موهبة الرسم مع "مي" التي تصبح فنانة تشكيلية أمريكية معروفة وتبدو ‏لها فلسطين بعيدة نظرا لأنها غادرتها طفلة صغيرة، وفجأة تصاب "مي" بمرض سرطان الرئة ‏فتكتب مذكراتها، والرواية كلها هي عبارة عن هذه المذكرات ومعاناتها مع المرض وفي نفس ‏الوقت وبالتوازي مع هذه المعاناة هناك مقاومة الموت واستعادة لصورة فلسطين وفي الأخير ‏حينما تشرف على الموت تطلب من ابنها- بعدما رفضت السلطات الإسرائيلية أن تدفن في ‏القدس- أن يحرق جثتها ويذرها في القدس وهي مصرة على هذا الجانب الرمزي في حياة الأفراد ‏والأمم حتى تثبت ولو رمزيا أنها موجودة، وتتحقق أمنيتها وتنتهي الرواية بهذا النفس الحزين ‏ولكن في الوقت نفسه هناك إصرار على الحياة.‏

‏* أيضا هناك النفس الرومنسي الحالم؟‏
‏- طبعا، لأنه بالنسبة إليّ الكتابة التي لا تدفع الانسان الى الحلم و الى نوع من الرومنسية هي ‏كتابة قاصرة وتصبح مثل الصخور جامدة ولكن في الوقت نفسه لست مع الكتابة الإيهامية التي ‏تبتعد عن الحقيقة الموضوعية المعاشة ،هي حقيقة قاسية ومع ذلك ليست هناك قوة تمنع أي إنسان ‏من أن يحمل وطنه في داخله كقوة رمزية من خلال اللون ويقدم هذا اللون للآخر ويمكن ان تكون ‏قد قدمت لفلسطين أكثر مما قدمه الساسة.

‏* بطلة الرواية فنانة تشكيلية تبحث عن ذاتها وهويتها فهل هي رمز للإنسان العربي الذي يبحث ‏هو الآخر عن هويته؟ وهل تختزل هذه الرواية القضية الفلسطينية في حق العودة؟
‏- لا أعتقد هذا، لأن الرواية هي جزئية صغيرة من حياة الكائن الفلسطيني ومن حياة الإنسان ‏العربي بصفة عامة، لأننا أمام قضايا كبرى مثل حق الإنسان في أن يعود إلى أرضه وأن يحلم ‏بالاستقرار، حق الإنسان في أن ينتج فنه في بيته وحقه في أن يموت في المكان الذي يختاره في ‏هذا العالم حتى لو لم يكن أرضه، فلو كانت الإنسانية عادلة لما تحدثنا عن هذه الحدود لأن والكون ‏واحد فما ضر أن أختار أين أعيش وأين أموت؟!!‏

ولهذا أؤكد أن الرواية لها أفق إنساني وحاولت أن تخرج قدر المستطاع من الخطاب السياسي ‏الجاهز والمباشر، لتنسج علاقات أخرى إنسانية وثقافية و حضارية .من هنا فالرواية ليست ضد ‏اليهود كيهود أو ضد أي ديانة معينة مسيحية كانت أم إسلامية أم يهودية، ولكن هي ضد كل ما ‏يؤخذ بالقوة وضد العنف. وطبعا في النهاية لكل قارئ الحق في التأويل والقراءة المفتوحة وأنا لا ‏أستطيع أن أؤول أنا أكتب فقط وأتحدث عن آليات الكتابة وعن الظروف التي كتبت فيها هذا ‏النص أو ذاك مثلما يقول إمبرتو إيكو.‏

‏* هل تعتبر هذه الرواية مرحلة جديدة في كتابات واسني الأعرج، بانتقالها من الجرح الجزائري ‏إلى الجرح العربي؟
‏- هذا كذلك رأي نقدي وأنا لا أستطيع أن أحكم على نفسي بأنني انتقلت من مرحلة إلى أخرى، ‏لكن فعلا من حيث الموضوعات أنا انتقلت من الموضوعات العامة إلى التاريخ وهذا قد كان قبل ‏هذه الرواية حيث دخلت موضوعات التاريخ بقوة أكبر وبحب أكبر وبصعوبة وتعب أكثر وكان ‏ذلك في رواية "الأمير" ورغم أن هذه الرواية تتناول شخصية حقيقية هي شخصية الأمير عبد ‏القادر الجزائري إلا أنها تنسج علاقة بين الفن الروائي والتاريخ واستحسنت هذه التجربة في ‏رواية "سراب الشرق" وعمقت هذه العلاقة في رواية "سوناتا لأشباح القدس" لأن هناك جزءا ‏كبيرا يتعلق بمدينة القدس وتاريخها.

أما الشخصية الرئيسية فهي شخصية متحركة أنا من خلقها ‏من مدارات قد يكون جزء منها حقيقيا ولكنها في النهاية هي شخصية مخيالية. ولهذا سمحت لي ‏ظروف الكتابة بأن أخرج من دائرة التاريخ وأدخل في دائرة أوسع من خلال المخيال ومن هنا ‏الانطلاقة تكون من التاريخ كديكور أساسي، وتكون محطة الوصول الواقع اليوم.‏

‏* تعتبر الرواية التاريخية رواية صعبة التناول والنجاح، فكيف يستطيع واسيني الأعرج توظيف ‏التاريخ لخدمة الواقع اليوم دون الانسياق وراء الكم الهائل من المعلومات التاريخية؟‏
‏- في البداية لا بد من الاتفاق لأنني لدي أطروحة ورأي خاص في الرواية التاريخية لأنه حتى ‏هذه الرواية، ليست رواية تاريخية بمنطق والترسكوت أو جورجي زيدان أو...

الرواية التاريخية ‏هي الإجابة عن سؤال معاصر من منطلق الاستمرارية وليس من منظور اللحظة الحاضرة، أنا ‏حينما كنت أكتب رواية "الأمير" كان السؤال الذي شغلني هو سؤال صدام الحضارات الذي كانت ‏ضحيته العراق وفلسطين وصار منطق القوة هو السائد، لذلك أردت أن أبرز وجهة نظري ليس ‏من منطلق فكري مباشر وإنما من خلال الوسائل المخاتلة للرواية التي تمر عبر الخيال واللعبة ‏الفنية.

وقد وجدت غايتي في شخصية الأمير التي تمثل في لحظة من اللحظات التاريخية هذه القوة ‏الحوارية بين رجل شرقي متدين مسلم وصوفي فيما بعد وإنساني متفتح على الآخرين، وبين رجل ‏دين مسيحي تبشيري وفي الوقت نفسه عاشا التجربة وجمعتهما الظروف وصار كل واحد يدافع ‏عن الثاني لدرجة أن الحوار الذي نشأ بينهما خلق مجالا عجيبا للحب وهذا هو النموذج لحوار ‏الحضارات والديانات.

فرغم وجود الاختلاف هناك قوة حوار و تواصل. ولهذا أقول إن الرواية ‏التاريخية ليست نسجا للمعلومات التاريخية و إلا فإن القارئ سيختار الكتاب التاريخي ولكن ما ‏يميز الرواية التاريخية هو إدراج المادة التاريخية في أفق إنساني حضاري حالي حتى يستطيع ‏القارئ أن يقرأها دون ملل.

ولكل ذلك فإن سؤال ما ادا كان مآل البشرية متجها إلى العنف ‏والحروب هو سؤال مركزي ولكن الإجابة ستكون بالنفي لأن البشرية مآلها الحوار والتعايش ‏والسلام وإلا سينتهي العنصر البشري.‏

‏* ونحن نعيش في هذه المرحلة الإنسانية الخطيرة التي هي أقرب إلى الصدام منه إلى الحوار، ‏كيف يستطيع الإبداع العربي أن يلعب دورا مهما في تقريب وجهات النظر في رسم صورة جيدة ‏عن الثقافة العربية؟
‏- بصراحة حسب رأيي نحن الآن لا نعيش صدام الحضارات لأن هذا الصدام مدمر ينبني على ‏التعصب للأديان والأعراق وكل الخبث الذي أنتجته البشرية، والأديان منظور إليها بشكل قاصر، ‏وأنا أعتقد أن فترة الرئيس بوش التي يسيطر فيها هذا المنطق قد ولت وانقضت ولأن الشعب ‏الأمريكي ليس شعبا غبيا فإنه انتخب الرئيس الحالي باراك أوباما الذي يعتبر لحظة فاصلة ‏وإحراجا للمنطق الأمريكي المهيمن.

وما أردت قوله أن هناك على مر التاريخ رجالا حاسمين في ‏اللحظات المناسبة. وأما دور الإبداع والإبداع العربي تحديدا فهو لا يحل المشكلات الكبرى ومع ‏ذلك فهو قادر بوسائله وإمكانياته على خلق مادة جيدة للحوار والآخر ليس شرطا أن يكون عدوا ‏بمنطق الايديولوجيا المهيمنة، الآخر موجود فينا بأشكال مختلفة ونحن نستهلك ثقافته يوميا وكل ما ‏يحيط بنا من سمات حضارية هي من نتاج هذا الآخر ونحن أدرجناها ضمن ثقافتنا اليومية، إذن ‏المشكلة هو كيف أخلق هذا التوازن وكيف أقلل من نبرة العداوة وكيف أجعل من كلامي كلاما ‏مسؤولا.

أحاول أن أتوجه إلى الآخر بمنطق الحوار حتى يتعرف إليّ ويفهم قضاياي مثل القضية ‏الفلسطينية التي تحدثت عنها، لأن هذا المنطق الاقصائي للعرب والرغبة في الوصول إلى كل ‏شيء يمكن أن يؤدي بهم إلى فقدان كل شيء. وحتى لو كنا مظلومين كعرب فليس لنا خيار سوى ‏اختيار جسر الحوار. ودائما يبقى الإبداع قناة مهمة وحيوية ودائمة ولا ترتبط بمصالح وهاجسها ‏الإنسان أينما كان.‏

‏* وهل تعتقد أن المثقف العربي- سواء في الداخل أم في الخارج- يقوم برسالته الإبداعية ‏الحوارية هذه؟
‏- المثقفون العرب منقسمون إلى فئتين، هناك مثقف مسيّس بالمعنى الغوغائي وهو يرفض كل ‏شيء ولا يستمع إلى أحد لأنه يعتقد أنه الوحيد الذي يملك الحقيقة كاملة والآخرين على خطأ وأن ‏الغرب هو جهنم والشيطان نفسه، وكل هذا الخطاب يخدم العدو أكثر مما يخدم مصالح العرب لأنه ‏يعطي مبرر لكسرك وأنت هش لا تملك قوة المقاومة. هناك أيضا خطاب ثقافي ديني منغلق لأنه ‏ينظر إلى الآخر منذ البداية كعدو يجب تدميره، إذن يجب أن أشحن نفسي لكي أواجهه وهو في ‏الحقيقة في حالة ضعف كبيرة.‏

وفي المقابل هناك فئة ثانية من المثقفين وهناك خطاب عربي بدأ يقطع مع هذا الخطاب ‏الإيديولوجي الحماسي الديني و بدأ ينشئ خطابا آخر أكثر عقلانية وتواصلا، وهذا الخطاب ليس ‏بالضرورة يجعلنا نتخلى عن حقنا وإنما هناك في العالم من يريد الاستماع إلى خطابنا الحواري. ‏وكلما كان هناك تعقل وتوازن ومصداقية في الحوار اقتربنا أكثر من الوصول إلى غاياتنا.‏

‏* هناك من يقول إن الترجمة هي أقصر الطرق للحوار مع الآخر، فهل قدرتنا على عدم فهم ‏الآخر تعود إلى عدم اعتنائنا بالترجمة ؟
‏- صحيح أن مشكل الترجمة موجود في العالم العربي وأننا لا نترجم ولا نتابع، كل هذه حقائق ‏موضوعية لا بد من الإقرار بها، ولكن الحقيقة الكبرى حسب رأيي هي غياب إستراتيجية واضحة ‏للترجمة ،فحتى لو ترجمنا أعمال الدنيا كاملة مادا سنفعل بهده الترجمة وكيف سنستغل هذه الكتب ‏في سياق ثقافي وحضاري يدفعنا إلى الأمام، إذا لم نكن نملك إستراتيجية حول ما نريد ترجمته ‏كما وكيفا. لذلك فالوجه الظاهر هو قلة الترجمة ولكن الوجه الخفي والمهم هو غياب الإستراتيجية ‏التي ستجعل عملية الترجمة تنتقل من الفوضوية إلى الهيكلية التي تخدم عملية التنمية ككل.‏

‏* تحدثت منذ قليل بحماس عن الرواية التاريخية فهل تميل إلى هذا النوع من الرواية؟ وهل ‏تعجبك بعض التجارب العربية التي سلكت هذا الطريق على غرار تجربة أمين معلوف مثلا؟
‏- طبعا أمين معلوف هو ولا شك تجربة متميزة، لكنه اعتمد على جزئيات من هذا التاريخ ‏واستغل لحظات معينة مثلا في رواياته "ليون الإفريقي" أو "سمرقند". وهذا التصور وارد وله ‏أنصاره، أما بالنسبة إليّ فالتاريخ لا قيمة له من هذه الناحية.

التاريخ هو إجابة عن سؤالي أنا ‏كمواطن يعيش في بداية القرن الحادي والعشرين وخارج هذا الإطار لا يعنيني، التاريخ هو سندي ‏الفكري والثقافي والفلسفي وفي حياتي اليومية وعلاقاتي بالمحيط وفي الوقت نفسه علاقاتي ‏بالامتداد، لأنني كمواطن وكثقافة وكبلد لم أنشأ من فراغ وإنما كنت نتيجة لصيرورة تاريخية ‏فكيف أساهم في تطوير هذه الصيرورة؟

ولهذا لا نستطيع أخذ التاريخ في جزئية معينة وإنما نأخذه ‏كمسار كامل وحينما اشتغلت على الأمير عبد القادر اشتغلت على القرن التاسع عشر بكامله وهذا ‏صعب، أنا لا أنكر ميلي الى هذا النوع من الرواية ولكنه نوع متعب وصعب ولهذا أنا في روايتي ‏الجديدة التي اشتغل عليها الآن ابتعدت عن هذا النمط وعدت إلى نمط الكتابة التي تشبه "شرفات ‏بحر الشمال" وذلك لأنها أسهل ولأن قراءها أكثر وأخيرا لأنها حالة من التنفيس بعد عدة أعمال ‏شاقة .‏

‏* وماذا سيكون موضوع هذه الرواية على وجه التحديد؟‏
‏- الرواية اخترت لها اسما مبدئيا هو "امرأة الظل" وقد استرجعت شخصية "مريم" الموجودة ‏في أغلب نصوصي، وأنا دائما كنت أشتغل على هذه الشخصية وأتصرف في ملامحها وتفاصيلها ‏فمرة أقتلها ومرة أحييها ومرة أخرى أجعلها تقع في الحب، ولكن في هذه المرة تنقلب اللعبة ‏وتصبح شخصية "مريم" هي الفاعلة وتصرح بأنها هي التي ستحكي قصة هذا الكاتب وهذا ‏الرجل والراوي الذي طالما تحكم فيها، أردت أن ألعب لعبة المرايا ولست أعرف هل أنا جدير ‏بذلك أم لا؟ وهي لعبة خطيرة نوعا ما.

فيها من الخيال الكثير وفيها أيضا بعض من السيرة الذاتية ‏ولكن الخوف كل الخوف من القراء الذين قد يأخذون ما أقوله عن نفسي وعن مريم، كحقيقة وهي ‏منذ البداية تقول أن اسمي ليس "مريم" ولكن الكاتب من أصبغ عليّ هذا الاسم وأنا سأقص عليكم ‏قصته بكل التفاصيل.

وهذا كله ضمن مدار الرواية ولكن قد تكون الكذبة الإبداعية محكمة ‏الصياغة لدرجة تصديق القارئ. ورغم متعة اللعبة الفنية الا أنك لا تستطيع ضمان ردة فعل ‏القارئ الندي له حق التصرف كما يشاء. ومن المفروض أن تصدر هذه الرواية مبدئيا في شهر ‏جويلية ضمن مشروع مجلة دبي الثقافية التي تصدر كتابا أو رواية كل شهر مع المجلة مجانا.‏

‏* يحضر في بعض رواياتك هذا المزج الجميل والعجيب بين اللغة كوسيلة فنية للتبليغ ‏والمضمون من خلال النفس الرومنسي والحالم، فهل نحن أمام واقعية سحرية عربية؟
‏- هذا الحكم والتوصيف يبقى من مشمولات النقد وأنا أؤمن بمساحات النقد وبدور الناقد، ولكن ‏أستطيع أن أقول إنني أجتهد ضمن نسق لغوي معين، اللغة بالنسبة الي ليست موروثا جاهزا إنما ‏هي موروث ثقافي يجب أن يكون لي اسهام فيه كعربي وإلا سأصبح مجرد مستهلك.

ثم أنا من ‏ذهبت نحو اللغة العربية ولم تأتني هي، وكان يمكن أن أكون كاتبا "مفرنسا"- وإلى اليوم أكتب ‏باللغة الفرنسية كذلك وهذا ليس عيبا- ولكنني في الوقت نفسه لدي حالة عشق للغة العربية وأعبر ‏عن هذا العشق بتجديد هذه اللغة من حين لآخر.

وثانيا النظام الروائي ليس نظاما جاهزا لذلك لا ‏بد من الاشتغال عليه من خلال استغلال الناتج والموروث الثقافي المحلي وكذلك استغلال الناتج ‏والموروث الثقافي الإنساني وحينما أقرأ باللغة الفرنسية والانجليزية والاسبانية أطلع على هذا ‏الموروث وأصبح في حالة تماس مع بقية الحضارات والثقافات، فكل هذه العلاقة ستترك فيّ أثرا ‏وهذا سينعكس على ما أكتبه إيجابيا ويعطيه أفقا آخرا.

إذن كل هذه الانشغالات من الناحية ‏الأدبية، مضافة إليها انشغالاتنا الحياتية الصعبة في عالمنا العربي، تعطي نموذجا وعينة ويمكن ‏أن نسميها الواقعية السحرية أو الواقعية الرومنسية وهذا يبقى في النهاية من مشمولات النقد وأما ‏الكاتب فمهمته إحكام بناء نص.‏

‏* عادة ما ترتبط الكتابة بحرج ما فبأي الجراح ارتبطت الكتابة عند واسيني الأعرج؟
‏- هي في الحقيقة ارتبطت بعديد الجراحات وليس بجرح واحد، أولا هناك جرح فقدان الوالد ‏واستشهاده في 1959 في الثورة الوطنية وبالتالي بقيت هذه الصورة ماثلة في ذهني ولهذا كل ‏الروايات الأولى التي كتبتها كانت تدور حول الثورة الوطنية وحول استشهاد الوالد تحديدا من ذلك ‏روايتي الأولى "جغرافية الأسماء المحروقة" في البداية والتي لم تنشر في كتاب وبقيت منشورة ‏في مجلة آمال.‏

وكذلك الأعمال التي تلتها فيها ظلال الوالد مثل "وقائع رجل غامر صوب البحر"، هذا الجرح ‏الأول، أما الجرح الثاني العنيف فهو جرح فترة التسعينات حينما تكتشف في لحظة من اللحظات ‏أنك يمكن أن تفتقد وطنا هكذا بكل سهولة في حين أنني كنت أظن أن هذا الوطن فيه من الصلابة ‏ما يكفي لمواجهة الظاهرة الإسلامية والإرهاب و...، هذان الجرحان في حياتي أساسيان في ‏كتاباتي وهناك جرح ثالث هو جرح الخيبة وهذا جرح كبير لأن كل هذه التضحيات من المفروض ‏أن تقود البلد إلى التقدم واحتلال مراتب عليا وخروجه من دائرة التخلف ولو جزئيا.

ولكن هذا ‏للأسف لم يتحقق بسبب غباء حكامه لأنه في لحظة من اللحظات لم تكن هناك أي رؤية ‏إستراتيجية وبقينا داخل فرحة خطاب الانتصار وتمجيد الثورة وهذا ليس سيئا ولكن لا يجب أن ‏يأخذ حيزا أكثر مما يستحق، ففي فترة ما يفقد هذا الخطاب الإيديولوجي التعبوي معناه، هناك جيل ‏ولد بعد الاستقلال لا تعنيه هذه الثورة وما يعنيه هو لقمة العيش وتحسين وضعه الحياتي وهذا ما ‏يجب أن يتوجه إليه الخطاب لا تمجيد التاريخ والماضي.

هذا جرح كبير لأنني أنتمي إلى بلد ‏ورقعة معينة ولا يمكن أن أنظر إلى نفسي خارج هذه الدائرة، بالإضافة إلى الجرح العربي ‏ووضعنا القاسي وكيفية تجاوز الظروف الحالية المتردية. كل هذه الجروح أكتب من داخلها ولا ‏أقبل النزعة الانتصارية الفارغة ولا أقبل كذلك النغمة الانهزامية لأن كل الشعوب تصل إلى ‏لحظات من الانكسار ومع ذلك لها إمكانية تجاوز من كبوتها.‏

‏* رغم أنك من جيل يكتب أغلبه بالفرنسية، إلا أنك اخترت الكتابة باللغة العربية فهل هو تأكيد ‏على العودة إلى الجذور وتمسك بالهوية؟
‏- لا أدري إن كان دلك وفاء للجذور والهوية ولكنه في منبعه متأت من وفاء للجدة، فقد كانت ‏جدتي فخورة بأصلها الأندلسي وعائلتي تنتمي الى المورسكيين وقد كانت تحدثني دائما عن ‏ضرورة الإطلاع على التراث الأندلسي وهذا ما يستوجب مني تعلم العربية، وقد كان عندي تعلق ‏روحي كبير بهذه الجدة حد التقديس فذهبت إلى اللغة العربية عبر الكتاب والمدرسة فيما بعد.

ومن ‏هنا كانت هذه العلاقة في البداية نوعا من حالة الوفاء ثم صارت حالة من الاختيار، وهذا الاختيار ‏لا يعني عداوة تجاه اللغة الفرنسية. وبعض الكتاب من جيلي مثل الطاهر حاووت وغيره اختاروا ‏الكتابة باللغة الفرنسية وصاروا معروفين في الحقل الثقافي الفرنكفوني. أنا اخترت هذا المسلك ‏وأنا سعيد به وهو ليس مسلكا مسيسا بل هو مسلك إنساني وثقافي ووفاء للجدة.

وفي النهاية أنا ‏عندي علاقة عشقية باللغة وأحاول أن أميز لغتي عن بقية الكتاب وأحفر بطريقتي في مفرداتها.‏

عبد المجيد دقنيش

المصدر: العرب أون لاين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...