المصادفة وجبران خليل جبران

29-10-2010

المصادفة وجبران خليل جبران

عندما نتصارع مع لغز "المصادفة" قد نعجز عن تقديم شرح مناسب ولكننا لا نستطيع أنْ نُنكر أننا أدركنا قوانين بعيدة عن الفهم الإنساني. وكلما وعينا أكثر نصبح أشدّ إدراكاً لوجود صِلة بين العيش الصحيح والحظ الحَسَن. وإذا تعمّقنا بقدر كافٍ نُدركُ أنَّ الحظ ليس طيباً ولا عاثراً، وأنَّ المهم هو الطريقة التي نتعامل بها مع حظنا (الطيب أو العاثر). ويقول المثل السائر : "على المرء أنْ يستغل نصيبه إلى أقصى مدى". وتتجلّى في هذا القول فكرة أنَّ الآلهة لا تساوي بيننا سواء في الفضل أو في الضرر.

   إنَّ ما أودّ أنْ أوضّحه هو أننا بقبولنا قَدَرنا لا ينبغي أنْ نعتقد أنَّ هذا ما قُدِّر لنا أو أنَّ الله يُولينا اهتماماً خاصاً، بل أننا باستجابتنا إلى أفضل ما فالصورة من أعمال المصور الفرنسي Joel Vogt  التي خص بها موقع  أوكسجينينا قد نتناغم من القوانين السامية، قوانين الكون المُبهمة، ولا صِلة لها بالخير أو الشر، أو بك أو بي.

   هذا هو الاختبار الذي وضعه يهوه العظيم لأيوب[1].

   يمكنني أنْ أستمر إلى ما لا نهاية في إيراد أمثلة عن هذه المُصادفات و "المعجزات"، كما أُعطي الحق لنفسي بتسميتها، التي ظهرتْ في حياتي. لكنَّ الأرقام لا تعني أي شيء. لو أنَّ واحدة فقط تظهر، لكانت لها الشرعية الصاعقة نفسها. والحق، إنَّ ما يُحيّرني أكثر من أي شيء آخر، في الشؤون الإنسانية، هو مقدرة الإنسان على تجاهل أو تجاوز أحداث أو حوادث لا تتلاءم مع نمط تفكيره، مع منطقه غير المُفنَّد. والإنسان المتحضِّر في هذا المجال بدائيّ في ردود أفعاله مثل ما يُسمّى بالإنسان الهمجي. وما لا يستطيع تفسيره يرفض أنْ ينظر إليه مباشرة. إنه يُراوغ القضية باستخدام كلمات مثل حادثة، شذوذ، تصادف، تطابُق، ما إلى ذلك.

   ولكن في كل مرة يحدث "شيء" يهتزّ. إنَّ الإنسان لا يشعر بالألفة في الكون، على الرغم من الجهود التي يبذلها الفلاسفة وعلماء الميتافيزيقيا لتوفير علاج مُهدِّئ. لا زال الفِكر مُهدِّئاً للأعصاب. والسؤال الأعمق هو لماذا. وهو سؤال مُحرَّم. وطرحه بحد ذاته يقع في خانة التخريب الكوني. والعقوبة هي – مصائب أيوب.

   في كل يوم من أيام حياتنا تُقدَّم إلينا براهين على الصِلات المترابطة الهائلة، والأكثر تعقيداً بين الأحداث التي تتحكَّم في حياتنا والقِوى التي تحكم الكون. وخوفنا الذي ينبع من ملاحقة ومضات البصيرة التي قد تُثيرها هو من أننا قد نتوصل إلى معرفة " ما سيحدث " لنا. والشيء الوحيد الذي يُسمح لنا بمعرفته منذ الولادة هو أننا سنموت. ولكن حتى هذا يصعب علينا قبوله، على الرغم من يقينه.

   إنَّ " ما يحدث " دائماً يحمل هذه السِمة بكونه غير مُتوقَّع، بأنه آتٍ من الخارج، بأنه لا يُقيم أي اعتبار لرغباتنا، ولخُطتنا، وآمالنا. ولكنَّ الذين " تحدث " لهم أمور قد يكونون من فئتين مختلفتين. واحدٌ قد يعتبر هذه الظواهر عادية وطبيعية، وآخر يعتبرها استثنائية وشاذة وتُهين عقله. واحد يستجيب من ذاته الصادقة، والآخر من أناه الوضيعة. الأول، صاحب الفكر الدينيّ الحقّ، لا يجد حاجة إلى إقحام كلمة الله. والآخر، المتطرّف دينياً، على الرغم من أنه قد يُسمي نفسه مُشكّكاً أو مُلحِداً، فسوف يُنكر بقوة وجود عقل في الكون أعظم من عقله المحدود. إنَّ لديه تفسيراً لكل شيء ما عدا العصيّ على التفسير، وأسلوبه في التخلُّص من الظواهر العصيّة على التفسير هو التظاهر بأنها لا تستحق الفوز بانتباهه. وفي عالم الحيوان أخوه هو طائر النعامة.

   دعني أختم الموضوع – في الوقت الحاضر – بشاهد من كتاب استلمته تواً. الكتاب أعارني إياه رجلٌ كنتُ أفضّل أنْ أُشير إليه (بتهوُّر) على أنه آخر إنسان في العالم يمكن أنْ يجذبه مثل هذا الكتاب. والصِلة بين كلمات المؤلف وذلك الرجل قد لا تبدو جليّة للوهلة الأولى. لكنهنا موجودة فلعلاً، وسبب اقتطافي هذه الفِقرة هو أني أعتبرها واحداً من أفضل الأجوبة التي يمكن إعطاؤها عن السؤال الذي لابد أنه بدأ يتشكّل في ذهن القارئ. إنها مأخوذة من كلمة الاعتذار التي ترافق سيرة حياة الشهير جبران خليل جبران[2].

   " بعد طول تردُّد قرّرت أنْ أكتب هذا الكتاب. ذلك أني أؤمن بأنه ليس في إمكان أي إنسان أنْ يُعطي وصفاً أميناً، وكاملاً للحظة واحدة من حياته بكل معانيها المعقّدة وترابطها اللا محدودة بالحياة الكونية. إذن كيف يمكن للمرء، مهما كان موهوباً، أنْ يضع بين دفّتيّ كتاب حياةَ شخصٍ آخر، سواء أكان أحمق أو عبقرياً! بهذا المعنى إنَّ كل ما يرويه الناس عن آخرين تحت عنوان "قصة حياة" هو، في اعتقادي، أشبه باقتحام سطح ذلك البحر الذي هو الحياة الإنسانية ؛ أما الأعماق فتبقى عصيّة، والآفاق أنأى من أنْ تبلغها أية ريشة قلم، أو فُرشاة أو لون. وحتى يومنا هذا لم نتمكّن من كتابة "قصة حياة" أي إنسان أو أي شيء مهما كان. ولو أننا تمكّنا من كتابة قصة حياة إنسان واحد كاملة، لاستطعنا أنْ نقرأ فيها تاريخ البشر جميعاً ؛ ولو أننا سجّلنا بصدق قصة شيء واحد فقط، لاكتشفنا فيها قصة الأشياء كلها "       

--------------------------------------------------------------------------------

[1] - في العهد القديم، أنزل الله على سيدنا أيوب مصائب كثيرة ليختبره لكنَّ أيوب بقيَ على ثبات إيمانه بالله.       - المترجم

[2] - " جبران خليل جبران : سيرة حياة "، تأليف ميخائيل نُعيمة ( إصدار نيويورك : المكتبة الفلسفية، عام 1950) (مترجم عن العربية)                             - المؤلف

_____________________________

من كتاب "بيغ سور وبرتقالات هيرونيموس بوش"

الصورة من أعمال المصور الفرنسي Joel Vogt 
للتعرف على المزيد من أعماله http://www.joelvogt.com/
                                                                                                                               هنري ميللر

                                                                                                                               ترجمة:أسامة منزلجي

المصدر: موقع أوكسجين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...