حي تشرين بؤرة خارجة على القانون

08-10-2006

حي تشرين بؤرة خارجة على القانون

أُبيّ حسن- دمشق:  حقاً انه من الغرابة بمكان أن الصفات التقدمية والنضالية التي رافقت مجيء حزب البعث العربي الاشتراكي عبر مراحل تاريخه في الحكم, قد انطلت أسماءً على أسوأ أحياء دمشق السكنية, فمن حي "النضال" إلى "التقدم" و"العروبة" و "التضامن" ولن ننسى حيي "البعث" و"تشرين" وغيرها من أحياء مخالفة تطوق العاصمة دمشق, هي, ومثيلاتها, ما بات يعرف بأحزمة البؤس. اللهم لاشماتة!
قد يكون السؤال الذي يواجه الداخل إلى "حي تشرين" للوهلة الأولى هو: ما الذي يجمع بين الحي والاسم الذي نُسب اليه (غني عن القول إنه إما تشرين "التصحيح" أو "التحرير")؟ وفي أحسن الحالات تفاؤلاً سيتساءل: ما الذي تحقق من "وعد" تشرين للحي المذكور كي يمنح "شرف" حمل اسمه؟
هو حي ملاصق لحي القابون الشهير شمالي العاصمة دمشق, يتخلله شارع رئيسي يقارب طوله 2 كيلو متر, وعلى امتداد هذا الشارع ثمة سوق فيه معظم لوازم الحياة. يقطن الحي حوالي الثلاثمائة ألف مواطن سوري, جلّهم من الفقراء والطبقات المسحوقة من ذوي خلفيات ريفية أو قادمة للتو من الريف السوري, كالعمال وطلبة المعاهد أو من يؤدون الخدمة الإلزامية للعلم.
 بدأ الناس بعمران الحي المذكور وسكنه مع "إشراقة" سبعينات القرن الماضي, ذلك عندما باشر عدد من جنود ومساعدي الجيش في الوحدات العسكرية القريبة من المنطقة بناء منازل عشوائية مالبثت أن انتشرت كالفطر, إلى أن صارت مع تقادم السنين وتتالي شهور تشرين حياً سكنياً يعج بالفوضى والأوساخ والسكان والأطفال بثيابهم الرثة ووجوههم الحالكة إلى درجة  تحسبهم للوهلة الأولى مشردين لامأوى يأويهم.
يتمتع الحي المذكور بالخدمات الحكومية المتعارف عليها والتي أمست بدائية مقارنة بتقدم الحياة وتطورها, كشبكة كهرباء تتعرض للسرقة من قبل بعض ساكني الحي, وشبكة مياه (من عين الفيجة), وكذلك خدمة الهاتف, وان كانت أحياناً تشتبك خطوط الهاتف بخطوط الكهرباء القريبة من أسطح المنازل وشرفات بعض البيوت. تزامن دخول هذه الخدمات البدائية إلى حي تشرين مع تواجد الطبقة الوسطى على خارطة الجغرافية الاجتماعية والاقتصادية في سوريا أواسط ثمانينات القرن الماضي, وباعتبار أن سَكَن الحي صار أمراً واقعاً كان من المحال على السلطات المعنية تجاهل أمر تخديمه بتلك الخدمات التي باتت بدهية!
 من جانب آخر, وبافتراض أن الحي لم يكن يشهد الاكتظاظ السكاني و الاتساع الذي يشهده الآن لم يكن قاطنوه بحاجة إلى حاضنة تحتضن أطفالهم ولا حتى إلى مدرسة ابتدائية, وقد يكون, وهو الأرجح, أن أهل الحي وبسبب من تدني مستواهم الاجتماعي والثقافي لم يكن يعنيهم وجود دور الحضانة و المدارس قدر مايعنيهم وجود المسجد! ربما هذا مايفسر لنا بناء مسجد للصلاة منذ تأسيس الحي!..الآن أمسى عدد المساجد قرابة الخمسة, وباعتبار أن ثمة أصولية دينية كامنة في خلايا المجتمع(حتى الآن ماتزال تحت السيطرة المجتمعية والأمنية) كان من المحال أن تبنى المساجد دون صبغة طائفية..
بُعيد التلاشي التدريجي للطبقة الوسطى لصالح الطبقة الدنيا أو التي تعيش تحت خط الفقر, كثرت هموم الحي ومشاكله, وباتت هذه المشاكل بالتفاقم طرداً مع ازدياد نسبة البطالة في البلاد مترجمة نفسها بحالات انتحار يقدم عليها الشباب (العام الفائت والذي قبله شهد الحي حادثتي انتحار شباب), وكذلك شهد انفجار قنبلة يدوية كانت تعبث فيها إحدى الفتيات داخل أحد المنازل دون علم منها بماهية القنبلة, هذا فضلاً عن رواج تجارة الحشيشة التي تدفع ببعض مدمنيها من الشباب للإقدام على السرقة بغية تأمين ثمنها, وكذلك يشهد الحي رواجاً في بيوت الدعارة التي تسببت بأزمة سير حقيقية في شارعه الرئيسي(الضيّق أصلاً), ولعلها مفارقة طريفة أن ترى أحدث أنواع  السيارات كتلك التي تحمل نمرة سعودية أو إماراتية من نوع "المرسيدس" و"البي أم دبل يو" تتهادى في الحي قاصدة بيتاً للدعارة أو منزلاً للنوريات, خاصة في فصل الصيف.
ومن الطبيعي جداً أن تجد محلاً لبيع العطور أو الإكسسوارات (يتبع لشخص ما) تجلس فيه فتاة بعمر الورد, غير انك ستتفاجأ عندما تعرف من الجيران أن هذا المحل ليس سوى تمويه لتجارة الدعارة, وان صاحبه يشرف على شبكة من النساء قد لاتستثني حتى زوجته وأخته! ومن نافل القول إن غالبية ممتهني الدعارة هم من أصحاب السوابق على الصعيد الجنائي ومن هواة المشاكل في حياتهم العامة.
استفحلت تجارة الدعارة في الحي لأكثر من سبب منها: تدني المستوى المعيشي والفاقة التي يعيش في ظلها الكثيرون, و كذلك بسبب انعدام الوعي الاجتماعي والانحلال الأخلاقي الذي يزداد زحفه طرداً مع ازدياد وطأة الحاجة وغلاء المعيشة, وثمة سبب آخر, إذ من المتفق عليه انه بعيد طرد النوريات من حي التجارة (سرت شائعة حينذاك أن الذي أجلاهم عن حي التجارة الشهير في دمشق أوائل تسعينات القرن الماضي هو الرائد باسل الأسد بعد أن احتج قاطني التجارة على النوريات) لجأن إلى الحي مما ساهم في ازدياد نسبة الدعارة فيه, وبقدر ماصار وجود النوريات عبئاً للبعض من حيث انعدام الراحة والسكينة لمجاوريهم قدر ما أصبح باب رزق لبعض المهن لاسيما مهنة الكوافير, فبسهولة تجد أن كوافيرا لا على التعيين معظم زبائنها نوريات يأتين إليها في أواخر الليل قبيل ذهابهن للملاهي الليلية حيث أماكن عملهن! سبق أن أفادني احد الزملاء (تعمل زوجته كوافيرا) إن جلّ زبائنها من النوريات, ليردف قائلاً: "لاشك ساهموا في الحراك التجاري والاقتصادي للحي"!.
يشبه الحي من جهة النمط اليومي للحياة وسلوكها "حارة كل من ايدو ايلو" التي شهدناها في الأعمال التلفزيونية للممثل السوري دريد لحام, فلا تستغربْ في حال سقط شيء على رأسك وأنت تسير فيه, إذ بعد قليل من الوقت ستدرك بأن إحدى ربات البيوت كانت تفرغ منفضة السجائر من محتوياتها(أعقاب السجائر وقشور البزر) أو سيدة أخرى تنظف سجادة منزلها فوق المارة (طبعاً عن غير قصد), أو أن يرمي طفل حجراً من على سطح منزلهم ليسقط على رأسك دون أن يكون بمقدورك فعل شيء سوى حك رأسك ولعن الحظ الذي أتى بك إلى هذا الحي! ومن المألوف جداً أن تلتقي (أو تسمع أن) شباباً وفتياناً عاطلين عن العمل يمتهنون سرقة الأشياء الوضيعة كالثياب عن مناشر الغسيل والأحذية المستعملة من أمام غرف المستأجرين (أو من داخلها بعد خلع أبوابها. وسرقة الموبايلات (في مرحلة لاحقة), وماشابه ليبيعوها في سوق الحرامية الكائن وسط العاصمة في شارع يحمل اسم "الثورة", أو بغية بيعها إلى أحد المحلات المختصة (في حال كانت السرقة جهاز موبايل أو مسجل سيارة الخ....) في صدد تأمين الحشيشة وأنواع أخرى من المخدرات (سمعنا عنها, لكن لم نشهدها).. سألت احد الشباب الفارين من خدمة العلم وعمره لايتجاوز 22 سنة: "ما الذي يدفعك إلى هذا المنحى؟" أجاب وببساطة: "أنها البطالة وعدم وجود فرص للعمل, جد لي عملاً".
بؤس الحياة في الحي المذكور تركت بصمتها الواضحة على أهم مكون من مكوناته البشرية, وأعني الأطفال الذين لامكان لديهم يلعبون به سوى الشارع, فلا حديقة ولا أماكن ترفيه, لاسينما ولامسرح لاشيء سوى الشارع غير المنظم والذي يزيد بؤسهم بؤساً, فيتعلمون فيه كل ماهو مسيء ومشين, ولاغرابة في أن لا يلمس أحدنا في ملامح أطفال هذا الحي البراءة المفترض أنها سمة الطفولة! لاسيما بعد أن يسمع نوعية شتائمهم لبعضهم بعضاً! وسيكون واقع الحال مفجعاً عندما تعلم أن أب هذا الطفل يجلس على شرفة صغيرة مطلة على الشارع يدخن سيجارة أو ينفث في نرجيلة وكأن أمر هذا الطفل (طفله) والثقافة التي يتلقفها لايعنياه بشيء, وقد تكون والدته جالسة قريبة منه على مصطبة إسمنتية جانب الشارع مع عدد من النسوة من غير أن تبدي كثير اهتمام بتربية طفلها. ساعتذاك ليس بإمكانك سوى الشعور بالقلق والخوف من مستقبل بلد هؤلاء هم عينة من أطفاله (صناّع مستقبله) وزاد معركة "المصير"!
 أمر تنظيم الحي ليس بالمعجزة, وقد سمعنا مراراً أن شركات خليجية تعهدت أمر بنائه وتنظيمه بإشراف الحكومة السورية, غير أن الأهالي هم من يمانعون خوفاً من أن يُلقى بهم على قارعة الطريق, كما ادعى بعض من سألناه, أو خشية من أن  لايكون التعويض متناسباً وطمع زيد أو عمرو منهم, وهو الأرجح! ومنهم من برر ممانعته للتنظيم في الخوف من أن يكون المسكن البديل في ريف محافظة دمشق بعيداً عن العاصمة ومكان العمل على نقيض الحي القريب نسبياً من مركز العاصمة. مهما يكن الأمر وفي حال كان تنظيمه معجزة, فبالتأكيد أن بناء دور للحضانة ورياض الأطفال ومدارس ابتدائية, وإيجاد بعض وسائل الترفيه الحضارية التي تحتضن أطفاله في ساعات اللهو لتنمي لديهم حسهم الإنساني ناهضة بذوقهم وأخلاقهم التي هدّها التخلف والفقر قطعاً ليس بالمعجزة.
قد تكون كل الأسباب سابقة الذكر صحيحة, وما هو صحيح أيضاً أن المواطنين ليسوا صادقين دوماً في شكواهم, كما أن السلطات ليست جائرة بحقهم دائماً كما يحلو لبعضنا أن يعكس الصورة غالباً, بدليل أن في الحي جيش من عمال النظافة الذين يشرفون على نظافته من أقصاه إلى أقصاه صباحاً ومساءً, لكن ما أن ينتهي عامل النظافة من مهمته حتى يعود الحي بشوارعه العديدة أكثر اتساخاً مما كان عليه قبيل تنظيفه! ومن المؤكد أن الذي يجعله على هذه الحالة التي تدعو للرثاء والبكاء هم قاطنوه, لا متابعو "مسيرة" و "نهج" "تشرين" الذين عجزوا بدورهم عن أن ينهضوا بواقع "حي تشرين" وسواه من أحياء اختلفت في مسمياتها النضالية والتقت في تخلفها عن ركب الحضارة المدنية, فهل ياترى "حي تشرين" وأشباهه هو ما سبق أن وعدنا به "تشرين"؟ نرجو أن تكذبنا الأيام ولو بعد حين.

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...