زنوبيا رغم كلّ شيء

06-04-2016

زنوبيا رغم كلّ شيء

 

بيوت تدمر تفضح أسرارها: كانوا هنا
... وهذه أيضاً عربة أطفال.
قد تكون الخامسة التي نراها مرمية في الطريق من قلعة تدمر، إلى وسط المدينة. ماذا تفعل عربات الأطفال هنا؟ نسأل، فتأتي الإجابة أقرب إلى التكهن: «يحمل عليها العسكر أغراضهم».

وما هي هذه الأغراض التي تتسّع لها كرسي طفل رضيع، ويحتاج إليها عسكري؟ هذه المرة لا نسأل، بل نحاول أن نحزر ونحن ننظر إلى العربة المركونة أسفل قلعة تدمر، فيما تدور دجاجة حمراء حولها.
لا أحد هنا مهتم بالدجاجة، وسط زحمة القادمين إلى القلعة. كلّهم جاؤوا ليشهدوا على تحرير المدينة بعد عشرة أشهر من سيطرة تنظيم «داعش» عليها. تحرير له طعم مختلف، بسبب «القيمة» التي يوليها العالم الغربي لمدينة تدمر. القلعة متضرّرة بعض الشيء بفعل القصف الذي تعرّضت له، ما يعوّق الدخول إليها. لكن يمكن الإطلالة منها على المدينة الأثرية، التي لا تزال أعمدتها ترتفع راسمة الطريق من مدافنها، إلى معبد بل، وبينهما المدرج الروماني.استخدمت ساحات المدينة لعرض أفلام عن التنظيم أمام الأطفال (تصوير: هيثم الموسوي)
تصعب السيطرة على المشاعر أمام مشهد مماثل، وتصبح الطريق التي تفصل القلعة عن المدينة أطول من تلك التي قطعت من بيروت إلى حمص. لا يحول الدخان الأسود، المتصاعد من تفجير العبوات الناسفة التي زرعها «داعش» في كلّ مكان تقريباً، دون المخاطرة. نسير على «دعسات» السيارات التي سبقتنا، يقول السائق ضاحكاً، فيما تطير بنا سيارته فوق أحد المطبات، فيملأ رمل الصحراء الذي يغطي سيارته عيوننا. يضحك أكثر، وهو يقفز فوق مطبّ ثانٍ قبل أن يخبرنا بهدوء: «في أحيان كثيرة تخفي هذه المطبات عبوات ناسفة». ويدلّ بأصبعه إلى أكثر من حفرة خلّفها تفجير العبوات في وسط المدينة.
كانت المدينة خالية من المدنيين ولم يبق فيها إلا أشجار النخيل والأعمدة

نوقف السيارة في ساحة يتوسطها عمود حجري، اعتقدنا بداية أنه هو الذي علّق عليه عالم الآثار خالد الأسعد في شهر آب الفائت، بعد إعدامه. كان لهذا الاعتقاد وقعه في نفوسنا. ننزل بخفر من السيارة، ونحن لا نصدّق أننا في المكان نفسه الذي شهد تلك الجريمة. ولا يزول هذا الإحساس، حتى بعدما نعرف أنه علّق على عمود كهربائي في مكان آخر. فالمدينة كلّها شهدت جرائم مختلفة، وارتكابات مؤلمة بحق أهل المدينة الذين هجروها. منهم من فعل ذلك قبل دخول «داعش» وفي خلاله. ومنهم من لحق بـ«داعش» في المعركة الأخيرة. والنتيجة واحدة، نحن في مدينة مهجورة. لا يوجد فيها مدني واحد قادر على إخبارنا بشيء، رغم أنها كانت تحتضن نحو 75 ألف نسمة سابقاً، بقي منهم تحت سيطرة «داعش» قرابة 15 ألفاً.
لم يبقَ إلا أشجار النخيل، والأعمدة. ووسط هذا الفراغ، لا تعود المقارنة صعبة بين مدينتين غير مأهولتين... ترى أيّهما المدينة التاريخية: تلك صاحبة الأعمدة الصفراء؟ أم هذه، صاحبة المباني السكنية التي تحمّل أرقاماً كتبت بالأسود؟
الوفود الصحافية التي تكمل سيرها باتجاه المدينة الأثرية تتكفّل بالجواب. أما هنا، فلا شيء يثير اهتمامهم.
الحفر تملأ الطريق، التي يتوسطها رصيف... كان جميلاً. رائحة البارود تملأ المكان، وكذلك اللون الأسود الذي يتصاعد من أكثر من مكان. ترتفع عيوننا معه، فنقع على جدران مفتوحة لبيوت لم تستطع المحافظة على أسرار أهلها. أسرّة وكنبات، ولوحات ومكتبات وطناجر و... كلّها أطلّت برؤوسها من الجدران المبقورة، لتقول: كانوا هنا.
كان هنا طفل، حاز شهادة تقدير من مدرسته، فاحتفظ بها تحت فرشة الكنبة الزيتية في غرفة الجلوس. أما في غرفة النوم، فـ«روشتة» امتحان طويلة، ومكتوبة بعناية وبألوان مختلفة، تضحكنا، نحن الذين نتنقل بين غرف البيت بخجل، وشعور ثقيل بالعار لأننا نتلصّص على حياة أناس لم يعودوا هنا ليمنعونا... أو ليقدّموا لنا كوب ماء بعد رحلة سفر طويلة.
من تكون سيدة البيت التي رتّبت فناجين القهوة بهذا الشكل الجميل؟ وماذا كانت تعدّ من طعام، قبل أن تغادر على عجل تاركة «مرطبان» الكبيس الزهري على المجلى الرخامي؟ وأيّ شريط كاسيت كانت تسمع ابنتها، «جزء عمّ» أم راشد الماجد؟ هل أبكاها «سي دي» هاني شاكر كثيراً؟ أم أن الكتاب الديني الجديد، الذي يحمل شعار «داعش»، حماها من تجربة مراهقة حزينة؟
لا أحد هنا ليجيب عن كلّ هذه الأسئلة، ولا عن السؤال الأصعب الذي واجهناه عند مرورنا بمقبرة المدينة المجروفة. لم جرفوها؟ وكيف سيعرف أبناء المدينة قبور أهاليهم عندما يعودون؟
امتحان صعب، سيعجز حتى صاحب البيت الذي تدلّ كتبه على أنه مدرّس، عن حلّه. تراه وضع طلابه يوماً أمام معادلة بهذه الصعوبة. هل سيخبرهم بعد عودته أن تاريخ تدمر يجب أن يكتب مجدداً؟ وأن زنوبيا ليست القصة الوحيدة التي تستحق أن تروى؟
تراه عرف ذلك، فرمى الكتاب المصوّر عن آثار مدينته بعيداً عن البيت؟
نجد الكتاب على الرصيف أسفل الشرفة، وإلى جانبه عربة أطفال سادسة. نحمله معنا إلى متحف تدمر الذي قطعت رؤوس تماثيله، ومن ثم إلى المدينة الأثرية التي نخضعها للمقارنات بين قبل وبعد. وعندما نصل إلى المدرج الروماني، نخفّف الوطء.
«باقية وتتمدّد» كتبوا على أحد جدران المدرج الروماني، وطلبوا المغفرة لأحدهم. وكذلك فعلوا على جدار آخر. وبين الجدارين، نفذوا جريمتهم على مرأى العشرات.
هنا أعدموا. هنا حيث صدحت أصوات المطربين مراراً. وها نحن نقف تماماً حيث كانوا. الضحايا الذين رحلوا، والضحايا من الأطفال الذين أطلقوا النار على ستة وعشرين شخصاً.
لا آثار للدماء في المكان، لكن رائحة بشعة تنبعث على بعد أمتار من حفرة، تدلّ عليها أسراب من الذباب الكبير الحجم. قد تكون هذه مقبرة جماعية، وقد تكون فردية. لم نستطع أن نعرف. كلّ ما استطعنا أن نعرفه في خلال هذه الزيارة القصيرة أن الحرب وحدها هي القادرة على تحويل عربة طفل إلى وسيلة نقل لمسلّحين. وأن التاريخ حين يكتب، يمحو قصصاً كثيرة تبدأ مع طفل كان يجلس في عربة، وفتى حرص على جمع شهادات التقدير، ولا تنتهي مع مسنّ أعدم لأنه أمضى حياته يحافظ على... التاريخ.

مهى زراقط

 


معركة «وحدة سوريا»
في الطريق إلى تدمر، تمرّ «سوريا» سريعاً. من الأخضر المزروع بإتقان في ريف القصير، إلى معامل الفوسفات وخطوط النفط والغاز في الصحراء المترامية.
سوريا بألوانها تصل إلى «لؤلؤة البادية». الغبار المنبعث وحرائق الألغام المنفجرة، تفشل في إخفاء مملكة زنوبيا. لا يعكّر جمالية القلعة أعلى الجبل سوى «قصر موزة» القطري الموازي.

«الملكة» عادت، لكن عودة غريمتها «الأميرة» غير مؤكدة، إذ قد يتحوّل قصرها الفارِه، بأعمدة غرفه الشاهقة وبركته الاصطناعية، إلى مقارّ أمنية. من يدري، قد تكون هذه ضريبة الانفتاح على آل ثاني. سوريا دفعت من أبنائها مقابل السلاح والمال القطري، مقابل بناء أسطوري لم يجد مهندس مكاناً مماثلاً في الدوحة ينفذه.
أبعد من رمزية حماية «زنوبيا سوريا»، ومن الدمار الجزئي الذي أصاب «زنوبيا الدوحة»، تتخطّى مسألة تحرير تدمر الأهداف الآنية في حماية الآثار التاريخية وقطع خطوط إمداد أساسية لتنظيم «داعش». السيطرة على المدينة تشكّل نموذجاً ناجحاً لعمليات الجيش السوري والحلفاء ضد «داعش» بعد عمل مشابه (بدور روسيّ أقلّ) ضد «القاعدة» وأخواتها في ريف حلب الجنوبي.
في معركة البادية، قسّمت محاور القتال بين عناصر الجيش والقوات الرديفة والحلفاء بغطاء جوي روسي. الاشتباكات لم تصل إلى داخل الأحياء. تقدّمت كل مجموعة من محورها حسب الخطة المرسومة لتُطبق على المدينة. الكلام عن «تسليم وتسلّم» يُضحك العالمين في الميدان. القتال الشرس كان ما قبل إعلان تحرير تدمر في مناطق مثلث تدمر، والبيارات، والدوّة، وجبلَي الطار والهايل والمقالع. عشرات الشهداء من جنود وضباط سقطوا في المعركة.
هي عقارب الساعة تعود إلى الوراء، فبعد مدينة القريتين يتواصل الاستعداد العسكري في البادية وصولاً إلى دير الزور والحدود العراقية.
هذه المرة لن تُختصر العمليات، كما يؤكد قادة ميدانيون، على استرجاع ما سقط، بل يتعدّاه إلى العمل على تقزيم وجود «داعش» في سوريا، صاحب «الدولة» الممتدة في الحواضر. يُعمل على طرد التنظيم من «العصب» الذي يشكّل صورته وقوته، وإرجاعه إلى حالة المجموعات والخلايا المنتشرة في الأطراف.
استعادة «قلب سوريا»، أخيراً، تعني أنّ «الدماء» ستسير إلى باقي الجسم شمالاً وشرقاً و...
في أيلول الماضي، خرج رجب طيب أردوغان ليقول إنّ «الأسد يريد تأسيس سوريا صغيرة تبدأ من دمشق وتمتد عبر حماه وحمص إلى اللاذقية، وهي منطقة تشكّل 15% من مساحة سوريا... تسيطر عليها وتدعمها قوى سيادية معيّنة (يقصد روسيا)».
الرئيس التركي وشركاؤه من «أصدقاء سوريا» لم يتورّعوا عن استغلال كل فرصة للتأكيد أنّ الدولة السورية الحالية تعمل على تقسيم البلاد، بعدما فرغوا من معزوفة إسقاط النظام.
في دير الزور، أمس وخلال شهور طويلة سابقة، يقاتل المئات من الجيش السوري في محيط «داعشي» يصل إلى الأنبار العراقية. هؤلاء لا يؤمنّون حقول نفط ولا مطاراً محاصراً غير قابل لاستخدام. مجموعات تُستنزف يومياً في أقاصي الشرق السوري لسبب واحد: حضورنا هنا يعني التمسّك بـ«وحدة البلاد»... وما معارك البادية إلا لوصل الجسم بالرأس.

إيلي حنا




التدمريون في تغريبتهم: البشر قبل الحجر
«عادت تدمر أخيراً، ثم القريتين قبل أيام. وتفرّق الأهل والجيران كلّ في مكان، ما بين حمص والرقة والأراضي التركية، ومناطق أُخرى مجهولة»، يقول أبو منصور، الرجل الخمسيني. عادت المدينة بالنسبة إليه، رغم أنها لا تزال فارغة من أهلها. يقول إنه يتحيّن فرصة العودة السريعة إلى بيته وذكرياته. «لو كانت بيوتنا قد سوّيت بالأرض، ننشئ خياماً ونقيم فيها. كلّنا عائدون».

أكثر ما يتناقله التدمريون، الخارجون من ظلمات «دولة الخلافة»، من حكايات مؤثرة عاشوها خلال الشهور العشرة الاخيرة، هو خبر إعدام عالم الآثار السوري خالد الأسعد الذي رفض الخروج من تدمر، مع دخول عناصر «داعش» إلى المدينة. ينقلون عنه قوله: «ما عاد في بالعمر شي يستاهل الطلعة»، بحسب شهود على عملية الإعدام التي جرت بتهمة «تمثيل النظام في المؤتمرات العالمية، وإدارة متحف الأصنام في تدمر الأثرية». غير أن السبب الحقيقي للاغتيال يعود إلى رفض الأسعد دورة «الاستتابة» التي فرضها المسلحون على الأهالي والموظفين الحكوميين، إضافة إلى رفضه الإدلاء بأية معلومات تدلّ على أماكن محتملة لدفن آثار وكنوز تاريخية، ما أدى إلى اعتقاله 28 يوماً ثم إعدامه.
حالياً يجري البحث عن جثمان الاسعد من أجل دفنه بشكل لائق. ويقول ابنه محمد إنّ مكان الجثمان معروف، لكنهم لم يصلوا بعد إلى من يدلّهم إليه: «بعض من أهالي تدمر أخفوا الجثمان، عن طريق دفنه في مكان مجهول، غير أننا فقدنا الاتصال معهم، بعد هرب الأهالي مع احتدام المعارك» علماً أن جثمان الأسعد دفن في مكان، ورأسه في مكان آخر. لذا لا يفوت الأسعد الابن الثناء على جهود بعض الأهالي في مواساة العائلة، إذ أتوا إليه بنظارة والده المحطمة، تعبيراً عن أسفهم وحزنهم على القامة العلمية للشهيد.
يجري البحث عن جثمان العالم الأسعد لدفنه بطريقة لائقة

ويذكر الأسعد الابن، الذي يعمل رئيساً للديوان في متحف تدمر الأثري، أنه زار تدمر في الأيام الأخيرة مرات عدة، بهدف حصر الأضرار والمبادرة إلى طلب تشكيل لجان من العاصمة لتقييم الآثار وجردها، وإغلاق المتحف سريعاً، للاستفادة من الوقت في خلق ترتيبات تتعلق بترميمه، وبقية المعالم الأثرية الأُخرى. ويلفت الرجل إلى الفرق الذي لاحظه مع العودة إلى المدينة بعد تحريرها، قائلاً: «كل شي فرق عليي... كنت مفكر لاقي والدي ووالدتي وبيتي. لكني لم أجد أحداً. 75 ألف نسمة ما عادوا موجودين في المدينة، بانتظار وحدات الهندسة لتفكيك الألغام التي خلّفها داعش وراءه في كل مكان، للعودة سريعاً إلى المدينة، فور تقديم المحافظة الخدمات الضرورية لعودة الأهالي».
حكايات عديدة خرجت إلى النور مع وصول عدد من الأهالي لتفقد بيوتهم وأرزاقهم. معظمهم موظفون حكوميون اضطروا إلى المغادرة، عقب عمليات بحث عناصر «داعش» عنهم، لإلحاقهم بدورات استتابة لـ«العودة عن ردّتهم عن الدين».
تختصر نسرين الحسن حكاية سقوط المدينة قبل عام بجملة وحيدة: «أمضينا صلاة العصر مع الدولة السورية، وأمسينا مع صلاة المغرب تحت حكم تنظيم داعش». المدرّسة الثلاثينية، ابنة المدينة العتيقة، لم تستوعب الصدمة في تلك الليلة، ولاسيما أنها كانت مطلوبة لمسلّحي التنظيم، باعتبارها موظفة حكومية تعمل في مجال المصالحة الوطنية، أيضاً، داخل المدينة، خلال سنوات الحرب. أربعون يوماً أمضتها نسرين في مدينتها، بعد سقوطها، متخفية بين بيت وآخر، إلى أن قطعوا رأس القاضية غادة جمعة، عندها أعلنت والدة نسرين عدم قدرتها على تحمّل انتظار وصول الدور إلى ابنتها.
«لم يركزوا كثيراً على البحث عني. كان لديهم مطلوبون أكثر أهمية، وعلى رأس القائمة عالم الآثار الأسعد»، تقول نسرين، قبل أن تستعيد الليالي «السوداء» التي أمضتها في المدينة: «حاولوا استمالة الناس عبر المال والمساعدات. دخلوا إلى مبنى كانت تتمركز داخله وحدات الهندسة لتفكيك العبوات الناسفة، وصادروا التموين منها ووزّعوه على الأهالي، إضافة إلى مساعدات الهلال الأحمر». تتابع: «كسبوا تأييد الناس بوسائل الترغيب والترهيب. واستخدمت ساحات المدينة لعرض أفلام عن تنظيم داعش و(انتصاراته)، عبر شاشات عرض ضخمة أمام أطفال المدينة لغسل أدمغتهم».
نسرين هربت من المدينة في الأسبوع الثاني من شهر رمضان الماضي، مرتدية النقاب. تروي: «صليت الصبح وطلعت بالباص... ونجوتُ بأعجوبة، إذ لم ينتبهوا إليّ». أما أقاربها، الذين ساعدوها على التخفي، فذهب كلّ منهم إلى وجهة مختلفة عن الأُخرى، هرباً من أيام الحرب الأخيرة، قبيل تحرير المدينة على يد الجيش. تقول السيدة التدمرية: «خرج عمي إلى الرقة، قبل يومين من دخول الجيش، ثم تابع باتجاه المنصورة. أما العجائز، فقد أخرجهم عناصر التنظيم إلى السخنة، فيما كانت الرقة وجهة نساء المدينة. ناس صارت بالرقة وناس بتركيا وناس قدرت توصل على حمص». وتختصر نسرين مأساة تدمر بالقول: «تدمر انطمرت 7 مرات، بفعل الزلازل، وهلأ إذا حفروا بيلاقو آثار... بس الإنسان اللي راح أهم من الاحجار».
كلام يؤيده فداء، مهندس اتصالات، مقيم في حمص، منذ ما قبل الحرب. وعلى الرغم من عدم إقامته في المدينة التاريخية أبداً، غير أنه عاش مأساة المدينة مع أقاربه وجيرانهم، وتابع نزوح بعضهم وقدّم خدمات لبعضهم الآخر. لم يعش الشاب التدمري المأساة بشكل مباشر، إنما تابع عن كثب أحوال أهله ومصائرهم، بانتظار السلام المقبل ليعود إلى مسقط رأسه. والدته تتواصل مع أقاربها بشكل يومي للاطمئنان الى أحوالهم، وتتبع أخبارهم، بانتظار لحظة العودة، علّها تزور مدينتها القديمة مجدداً.

مرح ماشي



جريمة غير كاملة
كالعادة يداعب هواء الصحراء مدينة تدمر. كأن شيئاً لم يكن. فالزمن لم يتوقف يوماً هنا. يتأرجح الهواء بين الأعمدة الممتدة على طول الطريق الروماني. يلطّف الجو في المدرج، فليملم جراح مأساة المجزرة التي حصلت هناك. يتموّج بين أحجار معبد بلْ ليلملم دموع الواقفين على الأطلال للبكاء. تتزاحم وفود الجيوش التي تصل إلى المعبد لترى هول الفاجعة التي حلّت به.

جنود سوريون وآخرون روس، ومستشارون عسكريون إيرانيون، وأفغان، يدخلون الى حرم المعبد ليتعرفوا على المعلم الاثري الذي فجّره تنظيم «داعش». التفجير دمر 90% من المبنى. الصخور المفتتة، متراكمة على الأرض بالقرب من مدخله الذي بقي شامخاً في مكانه. بعض الجنود السوريين من الحرس الجمهوري يقولون إن تدمر «لم تعد معلماً أثرياً عادياً فقط، فهي الآن أرض مقدسة لانها رويت بدماء زملائنا الذين أعدمهم داعش في الموقع الاثري».التفجير دمر 90% من معبد بِلْ (تصوير: هيثم الموسوي)

مأمون عبد الكريم: ترميم معالم تدمر سيكون بمثابة علاج لآلام الشعب

هم لا يفرّقون بين المعبد وبين المسرح، لكن ما يعرفونه أنه بات للموقع وجه جديد وهوية معاصرة تعيش مع تلك التاريخية له.
وكأنهم بهذه الجملة يختصرون معضلة يقف أمامها اليوم العالم المتخصص بموضوع الآثار، من منظمة اليونسكو العالمية التي أدرجت سنة 1980 مدينة تدمر على لائحة التراث العالمي، إلى المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا. الكلّ يسأل: ماذا سيحصل اليوم في أهمّ وأضخم معلم اثري في المدينة.
المدير العام للآثار السورية، الدكتور مأمون عبد الكريم، الذي إعترفت له المنظمات الدولية بحياديته، وبعمله الدؤوب في المحافظة على الآثار من دون اي تمييز بين المناطق السورية، يؤكد أن الدمار الذي طاول تدمر «ليس مروعاً لدرجة تخسر فيها المدينة نفسها». بل يذهب أبعد من ذلك ويؤكد أنه «يمكن ترميم وإعادة إعمار معبد بلْ بفترة لا تتجاوز الخمس سنين من العمل المستمر».
الجولة الميدانية على الموقع الأثري أبرزت بشكل واضح حجم الأضرار على الآثار. فقد خلّف القصف على القلعة أضراراً جسيمة طاولت المدخل الأساسي، إذ دُمّر كل من الجسر الذي يصل القلعة بالطريق والبرج بطابقيه الاثنين. يبرر الجيش الدمار بإنفجار عبوات ناسفة ولكن الواضح أنه ناجم عن قصف بالمدفعية الثقيلة من «نيران صديقة».
ولم تشفع للمتحف، علامة «الدرع الأزرق» (منظمة لحماية الآثار خلال الحروب) التي وضعتها السلطات السورية على بابه لحمايته من الاقتتال في فترات الحرب، إذ عمل تنظيم «داعش» على تكسير التماثيل وتهشيم الوجوه المنحوتة على النواويس. وفي محاولة منه لتخبئة نموذج نحت لأفراد عائلة، أَلصق ناووسين ببعضهما بعضا، ولكن المسؤول عن التهشيم، انتبه إلى المخبأ وكسر نحت الرؤوس حيث هي، فتهاوت الوجوه على الأرض منتظرة من يعيد ترميمها. ويقول عبد الكريم إن «الأضرار في المتحف جسيمة مما لا شك بذلك، ولكن يمكن ترميم القطع لأنها لم تكسر بالكامل».
ومن الواضح أن الانفجار الضخم الذي دمّر معبد بل، زعزع مبنى المتحف، ما تسبّب بضرر كبير جداً أصاب شبكة الانارة والبنية التحتية. ليكون نقل القطع الصغيرة من متحف تدمر الى متحف دمشق، قبل وصول «داعش» إلى المدينة، أكبر عملية إنقاذ شهدتها الآثار.
أما بالنسبة لقوس النصر، فقد صمدت أعمدته أمام التفجيرات ليتضرّر أعلى القوس فقط... لذا، فالترميم لن يكون صعباً بل قد يكون مماثلاً لما كان قد أنجز من ترميم في ثلاثينيات القرن الماضي بعد اكتشاف المدينة.
نقل القطع من متحف تدمر الى متحف دمشق كان أكبر عملية إنقاذ شهدتها الآثار

تبقى المقابر التدمرية التاريخية التي فُجّرت، والتي يمكن القول إنها معالم فُقدت بعدما حوّلها التفجير إلى كومة من الاحجار... حجم الأضرار قد لا يكون مهولاً بالنسبة لضخامة مدينة تدمر وامتدادها، ولكنه أعطى المدينة التاريخية قيمة جديدة ووجهاً جديداً فهي باتت معلماً حيّاً.
يطرح ترميم معالم تدمر الاسئلة عن خطة إعادة الاعمار التي ستعتمدها سوريا في السنين المقبلة، وتلك التي ستفرضها عليها منظمة اليونسكو. فموقع التراث العالمي هو اليوم معلم جرت فيه أحداث قتل ودمار، وهو شاهد على إرادة تنظيم في إبادة حضارة. فهل سيتغاضى المعنيون عن هذه الوقائع، ليعملوا على إعادة إعمار مبنية على قاعدة أن الاحداث الاليمة لم تحدث فيها قط؟ أم ستخلد ذكرى افراد الجيش الذين أعدموا في المسرح الروماني؟ إذ لا يجوز التغاضي عن آلام الشعب وذكرياته في زمن الحرب من مبدأ ان الحياة اقوى من الموت.
يرى الدكتور عبد الكريم أن ترميم معالم تدمر سيكون بمثابة علاج لآلام الشعب «لأنه سيعيد له الامل وسيلملم جراحه، ويؤكد له أن داعش لم يحصل على مطلبه بتدمير الآثار والشعب، الذي سيستعيد بالبناء مكانته وعنفوانه وقدرته على المقاومة». يبقى أن إعادة ترميم تدمر ستمثّل سابقة في المحافظة على الآثار المدمرة على يدّ «داعش» وأي قرار في شأنها سيلاقي صدى لاحقاً في المواقع المدمرة الأخرى مثل نمرود ونينوى.
* ممثلة «الدرع الأزرق»

جوان فرشخ بجالي



الآثار و«تسييسها»
عُرف مبدأ «تسييس التاريخ والآثار» في العالم مع نشأة الحركات القومية التي ارتكزت على المعالم الأثرية لتعطي لنفسها عمقاً تاريخياً وتشريعاً بالوجود. ويؤثر تداخل السياسة في الآثار كثيراً على علاقة الشعوب بتاريخها، وعلى نظرتها الى نفسها. لذا، تعمل الجامعات منذ أكثر من ثلاثة عقود على دراسة هذا المصطلح المسمى «تسييس الآثار».

يمكن القول بأنّ الحرب القائمة فيأضرار قلعة تدمر تحول دون الدخول إليها (تصوير: هيثم الموسوي) تدمر حالياً هي بإمتياز عملية «تسييس للآثار» يقوم بها الطرفان المتحاربان.
بالنسبة إلى تنظيم «داعش»، فهو اختار أن يبرز قوته وجبروته من خلال هدم المعالم الأثرية. فانتقى أكبر المعالم في المدينة الأثرية، وأكثرها رمزية ليفجّرها. هكذا دمر معبدَي بل وبعل شمين، ثم هدم قوس النصر ليؤكد أن لا نصر آخر في تدمر بعد نصره. وليكمل مجزرة محو التاريخ، لم يوفّر المقابر التدمرية الفريدة من نوعها في العالم. فحوّلها الى ركام. ولأنه لا يكتفي بالحجر إنتقل الى البشر. فاستخدم المسرح الروماني ليبرز «عرضه المسرحي الحيّ» في عملية إعدام 26 جندياً من الجيش السوري أمام حضور شعبي يشهد من على المدرجات هول ما يحصل. ولم يقف الإرعاب عند هذا الحدّ، بل أعدم ونكّل بجثة من يعده أهل المدينة «حامي الآثار»، وهو العالم خالد الاسعد (الذي يبحث أبناؤه عن جثته) بعدما دمّر كلّ مقتنيات المتحف التي تبرز الوجوه.
يستمد «داعش» سلطته من الخوف، فيعرض «انتصاراته» على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى شبكة الانترنت.
انتقى «داعش» أكبر المعالم وأكثرها رمزية ليفجّرها

هكذا تكبر رقعة الخوف، لتمتد من تدمر الى العالم. ويبدو واضحاً أن عمليات التدمير لم تكن تأتي بشكل عفوي، بل كانت ممنهجة ومدروسة في التوقيت. فكلما خفّ الكلام عن «داعش» في وسائل الاعلام، برزت عملية تفجير جديدة لإعادة التنظيم إلى الواجهة.
ومع اللعب على هذه الأيديولوجيات السياسية، يأتي اللعب على تلك الدينية منها، فيبرّر «داعش» عمله بأقاويل وبدع دينيه يبتكرها، في حين أنه يخبّئ عملية إتجاره بالآثار. فليس هناك ما يثبت أبداً أن عمليات التفجير المبرّرة سياسياً وايديولوجياً، لا تخبئ تحت أنقاضها عملية سرقة للآثار بهدف بيعها في السوق بأسعار خيالية لأنها الشاهد الأخير على معالم تدمر. هكذا يكون تسييس «داعش» لتدمير الآثار مربحاً له على كلّ الأصعدة.
عملية تدمير الآثار في تدمر جاءت على شكل صفعة على وجنة العالم الغربي، الذي يعدّ حضارة تدمر جزءا من حضارته، إذ تتميّز «عروس الصحراء» بتلاقي ثقافات العالم القديم اليونانية والرومانية بالمحلية منها. ومعالمها الأثرية من معابد ومسرح، وطريق معبّدة مزيّنة بالأعمدة، تشبه إلى حدّ كبير المعالم الرومانية حول البحر المتوسط. فأتت عملية المطالبة بالمحافظة عليها مضنية. وبما أنه لا بدّ من ان يحمل تدخل القوات الروسية في سوريا بعضاً من دور الغرب في المحافظة على الآثار، كان لا بدّ من تحرير آثار تدمر من جبروت «داعش».
هكذا يمكن الافتراض أن المعارك التي شهدتها المدينة، لم تسعَ الى تحرير سكانها. هؤلاء أدركوا ذلك وهربوا مع «داعش» خوفاً من القتل بسبب مبايعتهم للتنظيم الإرهابي. كما أن المعارك جرت بعيداً عن الموقع الاثري للمحافظة عليه، وهذا ما أكدّه ضباط من الجيش السوري التقيناهم في المكان، وأكدوا أن «الأوامر كانت بعدم الاقتراب من الموقع مهما تطلب الامر».
انتهت المعارك بانسحاب قوات «داعش» من تدمر، ودخول السلطات السورية إليها، لتبدأ معها مفاوضات عالمية حول ضرورات ترميم تدمر وإمكانيات ذلك. وهذا ما يمثل فرصة للنظام السوري لكي يؤكد للعالم الغربي أنه يلتقي معه على مبدأ المحافظة على الآثار والتراث والتاريخ، ما يمكّنه من الدخول مجدداً إلى العالم الذي طرد منه. هكذا يكون الطرف الأول قد بنى قوته بالهدم، والثاني بالإعمار والمحافظة. وفي الحالتين كانت الآثار والتاريخ هما الرهينة.

جوان فرشخ بجالي

 

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...