سليمان العيسى و «النُّعيرية» عندما تصبح قرية الشاعر ذلك المُشتهى البعيد والساحر

23-02-2012

سليمان العيسى و «النُّعيرية» عندما تصبح قرية الشاعر ذلك المُشتهى البعيد والساحر

الانتقال إلى الأمكنة الجديدة، غالباً مايُقدم للمنتقل إليه فضاءات جديدة، لاتعدو مع الوقت أن تجد لها مطرحاً في أوراق الذاكرة وسجلاتها، وهكذا مع كل اكتشافٍ جديد، وفضاءات مختلفة، تتسع رفوف الذاكرة.

عندما يصل «الحبل» في أدراج هذه الذاكرة إلى ذروته، يأتي المخاض بالنتاج الإبداعي، أي تصير الذاكرة مهيأة لولادة ماتكتنزه سرداً إبداعياً، وحتى وإن لم يكن صاحب الذاكرة مبدعاً، فإنه يفجّر ذلك المخزون من خلال طرق مختلفة، وبالتأكيد فإن الكتابة على اختلاف أجناسها وأشكالها، وحتى الفنون البصرية، ستمتحُ من هذه الذاكرة، حتى يكاد يكون الإبداع ذاكرياً بالدرجة الأولى. ‏

النبع الثّر ‏

وهنا يكون السؤال ماذا لو تمّ هذا الانتقال قسراً وتهجيراً من ذلك «النبع الثر» الذي هو المنبت الأول، وماذا لو كان المهجّر شاعراً، وهو ليس شاعراً عادياً، وإنما هو شاعر استثنائي بحجم مبدع كسليمان العيسى، هنا سيصير لـ «النعيرية» ضيعة الشاعر، ولـ «بساتين العاصي» الحارة التي ولد فيها، صور ومشاهد أخرى.. هنا لكل حجر قصة، ولكل شجرة توت حكاية، هنا الأشياء محملة بالذاكرة التي تفتح أدراج الحكايا سرداً وشعراً، و.. لعل كتاب «النُّعيرية.. قريتي» الصادر للشاعر العيسى مؤخراً عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، أحد أصداء هذه القرية الكثيرة التي تعددت كتابات الشاعر عنها، فهي الحديث المشتهى والحلم الذي تسرب من بين الأصابع كحفنة رمل، لايمل الشاعر الحديث عنها كتابة وقصائد وحوارات، و..مسرحيات، وماشاء له من أجناس إبداعية، يسجلها، كمحاولة أخيرة لتخليد ذلك الحلم الأخضر، الذي يزيد اشتعالاً كلما مرّ الوقت، ويزداد لذةً كنبيذ معتق في أحد الأقبية، كمحاولة للتشبث بمعالم تكاد أن تندثر، وإظهاره حتى ولو على الورق. ‏

و.. من هنا – ربما – تأتي عودة الشاعر للكتابة للأطفال، ليبقى ذلك الحلم القروي متقداً أبداً، ولايعرف نسياناً في ذاكرة.! ‏

عالم على الورق ‏

تقول ملكة أبيض – زوجة الشاعر- في تقديمها للكتاب: لعل أول مابدأ به الشاعر بعد عودته للكتابة، مسلسل شعري بعنوان «أحكي لكم طفولتي ياصغار» وقصة طويلة عن الطفولة بعنوان «وائل يبحث عن وطنه الكبير» وخلالهما يتحدث العيسى عن سنواته العشر التي قضاها في قريته النعيرية الواقعة شمالي سورية على نهر العاصي، فالطفولة هي القرية – النعيرية- التي تضم خمسة أحياء: حارة الجبل، حارة البطمة، الزيرة الفوقانية، الزيرة التحتانية، و.. حارة بساتين العاصي مسقط رأس الشاعر، التي تؤوي منزله، وقطع أرض صغيرة تزرعها أسرته وتجني ثمارها، وبضع شجرات منها شجرتا تين وتوت اللتان كتبا عنهما الكثير، كما أفرد الكتابة لبضع أشجار زيتون ورمان، و..حتى البقرة والخروف..! ‏

القرية.. العصافير التي نصب لها الكمائن، الشبابة وليالي الأعراس، وهكذا حين قرر الأصدقاء أن يجمعوا كتاباً يتحدث عنه أوصاهم: ‏

اذكروا أني عشقت الأرض ‏

أحببت الحياة ‏

وترّشفت ثمالات الغروب ‏

وأنا أبحث عن أولى زغاريد الصباح.. ‏

هنا سيفصّل سليمان العيسى بكل مفردة من مفردات المكان بلغة ريفية تشم من خلالها رائحة التراب، ورائحة العشب، سيزيد في الوصف تفصيلاً ورسماً بالكلمات من دون أن يعنيه الأمر إن جاء شعراً أو نثراً، لكنها في كلا الحالين ثمة لوحة شعرية تتناول مشاهد من حياة الطفل الشاعر في قريته، وفي مدينة أنطاكية حين ذهب إليها للالتحاق بالمدرسة الابتدائية. ‏

زغاريد الصباح ‏

«النعيرية.. قريتي» كتاب بفصلين، الأول الشعر، وخلال هذا الفصل، يصوّر الشاعر مفردات القرية وناسها، حيواناتها وبساتينها قصائد وأناشيد ومسرحيات غنائية تتجاوز الخمس عشرة قصيدة لكن من منظور الذاكرة الطفلية، وبالتوجه غالباً للأطفال عسى أن يحملوا معه بعضاً من حمولات الذاكرة، فإلى الصديق الذي قال له: أنت شديد الرجوع إلى ملاعب الطفولة، يخاطبه: ‏

لماذا الطفولة؟ ‏

لماذا الجذور؟ ‏

لماذا عناقيدُ الدالية؟ ‏

لماذا حصى الساقية؟ وحارتنا.. أمّ وحيي التي ‏

لم تكن ذات يومٍ ولا زاهية ‏

لماذا يعود إليها زمان الهرم ‏

يعود ليعصر بعض النغم ‏

إذا شاخ عودٌ وجفت لهاة؟ ‏

هكذا وفي يمينه قلب طفل يقص الحكايا واصفاً التينة، والساقية، وضفاف النهر والأرجوحة، و.. خيمة على الشجرة، وملامح أم وأب، تكاد تبدو أطلالاً عن منازل يفتش عنها في ركام الطفولة: ‏

أفتش عنها في ركام طفولتي ‏

جداول شعرٍ.. مالهن نضوبُ ‏

تُحاصرني حيناً.. طيوفاً ملحّةً ‏

فتطفو على الأهداب ثم تغيب ‏

ولم يختلف فصل النثر عن فصل الشعر، الفصل الثاني للكتاب، إذ راح الشاعر يواصل كتابة طفولته وذكرياته التي لاتزال تنبض في أعماق وجوده، بلغة النثر الذي يحمل أجنحة الشعر، لكنه يظلّ أكثر حرية وانطلاقاً برأي الشاعر نفسه. ‏

و.. في فصل النثر أيضاً، سيبقى الشاعر أسير دفتر الطفولة، وحواكير النعيرية، يقدم مشاهدها، وصورها من خلال سردٍ أقرب إلى القصص القصيرة، لكنه السرد السيري – السيرة الذاتية- مع ذلك فإن السيرة الذاتية ليست مرآة صاحبها فقط، أو مايريد منها صاحبها ولها أن تقدمه، لأننا لانكاد نرى في السيرة إلا مايريد «وعي ولاوعي» الراوي إظهاره، وربما في أحيان كثيرة لانرى فيما نقرأ، أو يخال لنا أننا لا نرى في المرآة إلا أنفسنا، فنحن على الأرجح – كما يقول محمد كامل الخطيب- إنما نقرأ في سير الآخرين سيرنا كما نرغب أن نكون، أو كما نرغب أن نكتبها، واصفين تجاربنا وحيواتنا، تاركين عبء «نرجسية» وصراحة السيرة الذاتية على الآخرين، إنها ببساطة تحويل مرآة الآخر إلى بديل لمرآة الذات، و.. ربما يكون ذلك ضرباً من المكر النفسي والعقلي.. في هذا الفصل من النثر يحكي في قصة «وائل يبحث عن وطنه الكبير» قصة طفولته وتطوافه، في أرض الله الواسعة، لكنها الضيقة، لاسيما و«النعيرية» ليست من هذه الأرض، يذكر في تقديمها: قصة طفولتي.. أهديها إلى الأطفال في كل مكان.

علي الراعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...