شعرية الأذى في ديوان منذر مصري الأخير

25-04-2008

شعرية الأذى في ديوان منذر مصري الأخير

يبدو منذر مصري في كتابه الشعري الجديد (من الصعب أن أبتكر صيفاً) شديد الانحياز الى ذاته، لا بالمعنى الذي يعبّر عن الأنانية أو ما شابه، إنما بالتأكيد على أن لا شأن له بخيبة القارئ أو عدمها، لذا يبدو أيضاً، وكأنما قد قطع علاقته مع قارئه، حتى ذلك القارئ الذي قد كرّسه عبر مجموعاته السابقة. إذ يغيب أي ملمح للتواطؤ مع ذلك القارئ بإلغاء المساحات التي كانت تخصّص، هنا أو هناك، كأيقونات نصيّة، غالباً ما يستخدمها الشعراء، وينشغلون بها، كطعوم تجذب القارئ الى شِعاب النصّ، والتي قد تكون شِراكَه على الأغلب.
وكأنما منذر مصري قد تنبّه أيضاً بأن الإغواء، الذي قد يخلقه التوازن الاكروباتي في النص، قد بات سرّاً مفضوحاً يعني المهارة فحسب... مهارة تفقد القدرة على الإدهاش مع تكرار التجربة. ولهذا السبب تبدو المحاولة واضحة، لإعادة النص إلى محيط، أو جوار، التجربة، بالإبقاء على القليل من دم الولادة، أو أثر، بالكاد يرى، من المشيمة. ويتبدى ذلك، على الأغلب، في شحن العادي وتصعيده، ليس لغوياً، أو بلاغيّاً، بل بإظهاره عاديّاً لمرّة واحدة: (وكأسلوب استجدّ بي/ أسمح للأشياء أن تبقى/ حيث وقعت/ فقد اكتشفت/ بالصدفة/ أنه مكان ملائم/ أن أدع المقص/ على الأرض/ قرب قائمة الكرسي اليمنى/ بمتناول يدي.) ص .45
تحوّلٌ ما طرأ على بنية نص المصري في هذا الكتاب. فهو لم يعد تلك الومضة التي ينتجها الاحتكاك في لحظة التجربة، أو ذلك البنيان السردي يمضي محتالاً على البقاء بين حرارة الشفة وبرودة الأسطر، أو الصفحات. كما أنه ليس ذلك الناتئ المفارق الذي يُعاد تأهيله في الصف أو النسق على أنه ناتئ ومفارِق. يضاف إلى ذلك اختفاء النص، كتشظّ ناتج عن انفجار تسلسليّ للعنوان.
الكادر
والنص هنا، على غير العادة في تجربة منذر، يقترح آلية جديدة في التشكّل تعتمد الكادر، أو المناخ، الذي يجمع ما يتراءى، للوهلة الأولى، بأنه لا يجتمع. حيث يعمل هذا الكادر، الذي يتمثل غالباً بالمقطع الأول، والذي تبدو بقية المقاطع مستقلة عنه، كما عن بعضها، على ربط المقاطع بخيوط غير مرئية، مع بعضها أولا، ومعه ثانياً. وأحياناً تعتمد تلك الآلية على تقطير السرد، حينما لا يوجد الكادر، حيث تتقاصر الجُمَل، لينتهي المقطع بمفردتين، أو مفردة واحدة، أشبه ما تكون بالشهقة بعد احتباس النَفس.
وفي اقتراح الكادر، يحقق النص واحداً من شروط الشعرية اللازمة، هو الخلاص من عناء المسؤولية عن القول كمشروع قبلي يريد التحقق. إذ يتحوّل النصّ الى مجموعة من التماسّات التشكيلية، أو المشهديّة، المحكومة بسببية خفيّة، والتي يُنتج قوله كمحصّلة لها وليس العكس. الأمر الذي يجعل من النصّ أشبه ما يكون بعرض مسرحي، المُخرج فيه هو الهندسة الفراغية للمنصّة.
ومن الملاحظات التي لا تمرّ من دون دلالة هو خلوّ النصوص من علامات الترقيم، حيث نجد غياباً تامّاً للفاصلةِ، وشحّاً في النقطة، التي لا نلحظها إلا في نهاية المقطع. والدلالة التي أراها هي فتح هامش الحوار مع النصّ، أقصد إعادة إنتاجه بالتلقي، إلى أقصى ما يحتمل. والمتلقي هنا، هو الذي يشحن النصّ بزمنه النفسي، ويمنحه بُعدَه الإيقاعي. وهذه التشاركية الملحوظة أمر جديد على النص عند منذر مصري، دون التطرق إلى حكم القيمة بشأنها.
عناوين النصوص جاءت، على غير العادة عند منذر، تقليدية في علاقتها مع النص. ومنها (سطر على خوائه يُحسَد ـ هل تحبينني أكثر إذا أحببتك أقلّ ـ أندم على جرائمي دون أن أرتكبها ـ أنا هنا.. لأنني لست في مكان آخر. .....) وهذه العناوين هي بالأساس فِكر مركزية ومؤثرة في بنية النص.
الأذى هو الفن الوحيد المتبقي لدى منذر مصري... الأذى الذي أوصله الحبّ إلى أن يكون فنه الوحيد:
(من الصعب علي/ أن أبتكر صيفاً/ أشد لزوجةً من فخذيك/ ذلك أني بلغت من الحب/ ما جعل/ فنّي الوحيد/ هو/ الأذى.) ص .14 وهنا نشتم رائحة سادية ما، لكنها سرعان ما تتبدد، إذ يتكشف أن الأذى ليس مبدأ اللذة أو منتجها، بل هو اللذة ذاتها، كسرد التفاصيل المعتمة، والاحتكاكات التي لا تثير اهتماماً، والعلاقات التي تتشبه بالعبور، على أنها السيرورات التي ليست سوى حياتنا.
ما لا يقال، وما لا يحدث، هو ما يقال ويحدث في هذا الكتاب. ليس بقصد الفضح والارتكاب، كمهمات على النص إنجازها، إنما كنتيجة لتدوير القول أو الفعل، إشباعاً لإحساس ضاغط بأن الذي لم يُقل، والذي لم يحدث، أكثر فتنة وإغواء. بل أكثر حقيقيةً:
(تصادف أنيّ كنتُ/ جناحاً من الحنان/ تحت وطأة إغواء لا يقاوم/ أن أكون/ حقيقياً/ كعملة أصكها من ذهب خالص/ تزييفاً لعملة ذات ختم/ صكت/ من خليط أشدّ المعادن/ خساسة .) ص.17
والميل الى التزييف، على قاعدة المقطع السابق، يشكل واحداً من المفاتيح الهامة لتذوّق شعرية النصوص، ذلك أنها تقوم على مناهضة المتعارف عليه بتقطيرها للأحاسيس، وتخليصها من كلّ شائبة عامّة، حيث تغدو انتهاكاً، ليس بريئاً أبداً، للتكرار والترهل:
(لم يكن بودي أن/ أحدثك عن أشياء/ (ماذا يجدي ذلك!)/ كنت أريد أن تحدثك الأشياء عني/ حتى أنه مرّ في خاطري/: (بشفاه الآخرين أستطيع تقبيلك.) ص .53
ذلك التكرار الذي يعيدنا الى خط البداية دوماً، وكأنما الحياة، بعبثيتها المفرطة، مجرّد أفعال مجانيّة، أو مجموعة لا تحصى من الضرائب المدفوعة عن أرباح زائفة :
(يشبه هذا شيئاً قلته لك/ من قبل/ لأن ما يحدث/ يعود ويحدث/ ثم يعود ويحدث/ ثمّ يعود ويحدث/ دون أن تأتي تلك اللحظة/ التي نعرف فيها/ ما نحبّ/ وما/ نكره.) ص .134
يخال لي أحياناً بأن منذر مصري يكتب الشعر كمصل، أو مضاد حيوي، لمقاومة القدرية التي تأخذ بالمصائر الى المجهول، حيث يعيد إنتاج تلك القدريّة كسؤال لا مهرب من الإجابة عليه. والجميل أن الإجابة في مكان آخر دوماً: (نأخذه دون حاجة/ نعيده دون أسف/ نأخذه لأنه محتم علينا إعادته/ ولو كان زائداً/ كملح/ إذا ما تركناه زمناً/ في رطوبة القبو/ ينمو .) ص .135
وفي المُختلِف الخلاص... هذا ما يؤكده منذر مصري، في الحبّ كما في الحرب. في اختبار الأحاسيس كما في اختبار اللغة: (فقط لو كان باستطاعتي/ أن أحبّك أقلّ/ أو كان في استطاعتي/ أن أحبّك / أكثر/ فأرضى أن أتقاسم/ مع الآخرين/ حليب/ فمك.) ص .97 أو كأنما الشعر تخليص للمعنى من صدأ التداول، وإعادته إلى الذات باعتبارها المصدر الأول والأخير للمعاني. وتحديداً في ما يخصّ الحبّ، كمعنى أثير في الوجود. فالكتاب الذي بين أيدينا هو كتاب حبّ بامتياز. إنه الحبّ الذي ينبض حياةً بين كائنين حقيقيين. إذ فيه من الحماقة أضعاف ما فيه من الحكمة: (سألتك: هل تحبينني أكثر/ إذا أحببتك أقل؟/ ملقياً بكل ثقلي/ على رقتك/ فأجبتِ إني بهذا لا أسهل عليكِ/ كما كنت تأملين مني/ تركي.) ص .35 وفيه من الخزي ما يجعل الانتصار أقلّ قيمة من الهزيمة، بل تحت خطّ المسعى: (ذلك أني آثرت معكِ/ انهزاماً مجيداً/ عوضَ مجرّدِ/ انتصارٍ/ لن يسمح لي أحد/ أن أدعيه لنفسي.) ص .75 ومن الخيبات ما يجعل الثقة بأن أيّ تحقق ليس سوى تحفز لخسارة قادمة: (كان عليّ أن لا أعقد/ على مجيئك كلّ آمالي/ كان عليّ أن أكون أكثر تحسّباً/ وأبقي عندي أملاً واحداً/ على الأقل/ لأراهن به على خسارة أخرى/ قادمة لا محالة/ لأنك هذه المرّة/ على غير عادتك/ قبلت بسهولة/ ... دعوتي.) ص .95
وهكذا يمضي منذر مصري في صوغ شعريّته الخاصّة محوّلاً، ببراعة كبيرة، كلّ مفردات الحياة إلى موضوعات شعريّة. ومقترحاً إعادة النظر في ما استقرّ من مفاهيم وتعريفاتٍ، كنا نعتقد أنها قد أنجزت تحديد ملامح قصيدة النثر عموماً وقصيدته خصوصاً.
(من الصعب أن أبتكر صيفاً)
المؤلف: منذر مصري
شعر
رياض الريّس للكتب والنشر ـ يروت ـ 2008

ياسر اسكيف

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...