طــه حســين مطلــوب حيــاً وميتــاً

22-02-2013

طــه حســين مطلــوب حيــاً وميتــاً

 

«إنني رجل فقير جداً، اشتغل بهندسة السكة الحديد الأميرية بوظيفة فاعل، ويوميتي 70 مليماً ومتزوج بيتيمة الأب، وأم زوجتي تبيع ترمساً، ولي شغف بقراءة الصحف في عهد النهضة المصرية الأخيرة، وبينما كنت جالساً أقرأ جريدتكم الغراء بكيت، وعندما سألتني زوجتي عن سبب بكائي أخبرتها عن التبرع لتمثال نهضة مصر، ولم يكن معي نقود سوى 200 مليم فقــالت زوجتي إنها تتبرع بمئة مليم أيضاً، وقالت أمها مثلها، وكــذلك فعل أخوها البالغ 15 سنة، ولي طفل عمره سنة ونصــف وفرت له أمه 50 مليماً فأحضرتها...أرجو أن تتقــبلوا منا هذا المبلغ القليل لتوصيله إلى أمين صنــدوق تمثــال نهضة مصر..».
هذه واحدة من الرسائل التي أرسلها مواطنون عاديون إلى المثال محمود مختار أثناء الاكتتاب الشعبي في أعقاب ثورة 1919 لعمل تمثال نهضة مصر، الرسائل التي نقلها الناقد الراحل بدر الدين ابو غازي في كتابه «المثال مختار» تكشف كيف كان اعتزاز المصريين بالفن باعتباره «وسيلة للإعلان عن القضية المصرية بطريقة تلفت الأنظار أفضل من غيرها»، وكذلك من أجل إقناع العالم بأن مصر لا تزال تعنى بالفنون الجميلة، فهي ساعية إلى استعادة مجدها القديم»، كما جاء في مقالات جريدة الأخبار وقتها في الدعاية للتمثال. والمدهش أيضاً أن خطباء الأزهر كانوا يقفون كلٌ عقب كل صلاة جمعة يدعون للتبرع لإقامة التمثال. وهذا التكاتف جعل مختار يكرر دائماً: «لست صاحب التمثال بل الشعب هو صاحبه».
حدث هذا في وقت لم تكن قد تأسست بعد جماعة الإخوان المسلمين ولا انتشرت الحركة الوهابية وهيمنت وحرمت التماثيل. كيف وصلنا إلى مرحلة هدم التماثيل كما جرى لتمثال طه حسين منذ أيام، وتنقيب تمثال أم كلثوم؟ كيف انتقلنا من مرحلة اكتتب فيها الشعب من اجل إقامة تمثال إلى مرحلة تدمير التماثيل؟
يوضح الدكتور عماد ابو غازي حفيد المثال مختار: «ما جرى يشبه الفرق في بداية العشرين عندما أصدر الإمام محمد عبده فتوى قال فيها إن الفن حلال ينمي المشاعر والروح الإنسانية، والنحت والتصوير والموسيقى والغناء لا حرمة فيها وأن هناك فرق بين إقامة التماثيل للتعبد، وإقامتها كعمل فني وجمالي».
هذا ما جري بين زمنين وعهدين..كيف وصلنا إلى ذلك؟ ولماذا تعمّدت هذه الشخصــيات تحديــداً طه حسين وأم كلثوم في مصر..المعــري في ســوريا، وبلعــيد في تونس؟
يوضح الباحث الدكتور شريف يونس: «يبدو لي إن هذه التصرفات ناتجة عن عمليات شحن شباب الإسلاميين لفترة طويلة ضد هذه الشخصيات وغيرها، على اختلاف زمانها ومكانها. المشروع الإسلامي هو في أساسه مشروع ثقافي استبدادي يقوم على فرض أفكار معينة وتعميمها بالقوة. وهو في صيغته الدولتية يرمي لاستعمال الدولة في هذا الغرض. لكنه لا يقتصر في أدواته على الدولة، لا عملياً ولا نظرياً. بالنسبة لمن قاموا بمثل هذه العمليات المحدودة، الفكرة هي «تغيير المنكر» باليد. وهو أمر متاح في ظروف اضطرابات الثورات. وحتى مع وجود حكم إخواني، فإن عملا كهذا يمكن أن يصدر من أطراف إسلامية أخرى، يضيف يونس: «يبدو تصرف هؤلاء غبياً وعجيباً. فلا طه حسين ولا المعري يعيشان في الثقافة من خلال تماثيلهما، ولا هما مقدسان مثلا. لكن بالنسبة للعقليات التي قامت بهذه التصرفات، تدور كل القضايا في سياق القداسة/ النجاسة، إن جاز التعبير. ويبدو لهم إن النيل من التمثال هو نيل من الأفكار والتاريخ. أو ببساطة هذا هو ما أتيح لهم الآن، ولو استطاعوا محو تراثهما لمحوه. لكنهم غالباً لا يعرفون شيئا عن هذا التراث، سوى أنه بشكل ما تراث فاسد، مثله مثل كل تراث لا ينبع من عقائدهم المغلقة، بما في ذلك معظم التراث الإسلامي نفسه. الخلاصة إن هذا الفعل على تفاهته إنما يكشف عن البنية الاستبدادية العميقة للحركات الإسلامية وكراهيتها الغريزية لفكرة الثقافة نفسها بما تنطوي عليه من جدل وصراع وإبداع، بحثاً عن سكونية واحدية تتفق مع عقولهم التي نحتها لهم مشايخهم على هذا النحو».
ومن جانبه يري القاص والكاتب احمد الخميسي أم كلثوم التي أخفوا رأسها هو الذي أنشد: «أصبح عندي الآن بندقية»، إن وجهها الذي غطوه هو وجه فلاحة مصرية بكت عيناها على نكسة 67، وانشغلت بجمع التبرعات للمجهود الحربي متضرعة لله عز وجل أن ينصر أم الدنيا، بينما كانت رؤوس بعض الشيوخ محنية تشكر على الهزيمة التي حاقت بنا، هم أنفسهم الشيوخ الذين نسمعهم من شاشات التلفزيون من يتوعدنا جهاراً نهاراً بنسف الأهرامات وأبي الهول.
يضيف الخميسي: «الموضوع أبعد من نسف التماثيل والنصب التذكارية أو إخفاء رؤوسها، لأن أصحاب هذه النظرة يمدونها لتشمل تحريم كافة أشكال التعبير الفني من تصوير ونحت وأدب وموسيقى ومسرح وسينما. وهذا يعني من ضمن ما يعني إهدار كل توثيق بصري وسماعي لثورة 25 يناير، وكل توثيق مماثل لتاريخ الشعب المصري وحياته الاجتماعية، وثوراته، بل وإهدار تاريخ الفن الإسلامي ذاته الحافل بالكثير من رسوم الطيور والحيوانات في عصور سلاطين بني عثمان التي تملأ متاحف الفن الإسلامي في العالم».
طه حسين سيظل مطلوباً حياً وميتاً من فئة تدّعي امتلاكها الحقيقة المطلقة، فقد هاجم كما يقول الدكتور حازم أحمد حسني الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية - بعنف ما رآه في زمانه سفهاً لا يستقيم، وكتب في صحيفة «المقطم» ساخراً: «يقول الوفديون لا رئيس إلا سعد كما يقول المسلمون لا إله إلا الله»!! كتب طه حسين هذه الكلمات في «أيام» لم تكن فيها قبة برلمان يُرفع تحتها الأذان، ولا كان فيها «شيوخ» فضائيات ينشرون الحنبلية التيمية الوهابية في مصر، ولا كان فيها مادة ثانية بالدستور يتقاتل عليها الناس، بل وكان فيها زعيم اسمه سعد تهتف باسمه جحافل الجماهير! فماذا تراه كان يكتب اليوم وقد تغيرت الأيام، وصار الخلط فيها بين ما تقول به الزعامات الدينية في الشوارع وبين مقولة «لا إله إلا الله» واقعاً نعيشه لا مجرد مجاز يسخر به صاحب «الأيام» ممن يفسدون على مصر وعلى المصريين أيامهم بتقديس ما لا يجوز تقديسه؟!
يوضح: تقديس ما لا يجوز تقديسه... هذا هو سر الأزمة التي تعيشها مصر هذه الأيام، كما هو سر الأزمة التي عاشها في زمانه صاحب «الأيام»؛ ففي «الشعر الجاهلي» قرر طه حسين أن يضع الحدود العقلية التي تفصل بين التاريخ والقصص، وبين الأصيل والمنتحل، وبين المعقول والمنقول، وبين المعلوم بالضرورة والمفروضة على الناس معرفته بغير ضرورة؛ وكلها قضايا اختلطت الأمور فيها بأن صار المقدس مطية من لا برهان عنده، وبأن صار العقل حافظاً لا مبدعاً، والضمير مثقلاً لا متحرراً؛ وحتى بعد محنته مع «الشعر الجاهلي»، وتحوله للكتابة في الإسلاميات، ظل شيخنا وفياً لعقله النقدي. كل المقدس انتحالاً كان يتداعى بفعل ما أملى الشيخ على كاتبه، ثم وصل إلينا ما أملاه مكتوباً نطالعه، فيعيد بما رتب من الكلمات ترتيب الأفكار في رؤوسنا وربط المعاني في ضمائرنا؛ وليس من حديث يروي عنده إلا وأخضعه للنقد، إن مباشرةً في دراسات نقدية تخاطب العقل، أو تسللاً إلى الضمير بنحت رواية أدبية، أو خليطاً بين النقد والرواية في غير دراسة تاريخية».
يضيف حسني: ينبغي التأكيد على أن الأساس الذي تركه لنا طه حسين، وتركه لنا غيره من آباء ثقافتنا المؤسسين، إنما يقوم على الربط بين ماضينا وحاضرنا وصولاً إلى متن المستقبل، لا على الربط بين ماضي غيرنا وحاضرهم وصولاً إلى هوامش التبعية التاريخية لغيرنا؛ ومن ثم كان من الضروري أن نبدأ في البحث عما لم يعره طه حسين اهتماماً كبيراً، أعني مستقبل «الثقافة المدنية» في مصر، لا مجرد مستقبل الثقافة فيها؛ فثقافة مصر على عهد طه حسين، رغم كل ما شابها من قصور ومن كوابح، إنما كانت ثقافة مدنية، أو هكذا افترض طه حسين وهو يبحث في مستقبلها؛ فالمدينة في اللغة هي الهجرة من البدو، أو هي المهجر الذي ينتهي إلى المقام فيه من هجر البادية، ولهذا سميت يثرب بمدينة الرسول، وهو ما يعني ضمنياً أن الرسول إنما كان يعتبر مكة من البدو وإلا ما كان قد جعل من يثرب مدينته! مصر تسير اليوم في الاتجاه العكسي، فهي تهاجر إلى البدو لا منه، ومن ثم صارت الثقافة المدنية هاجساً دينياً في مصر كما هي هاجسها السياسي».
الدكتور علي مبروك استاذ الفلسفة في جامعة القاهرة يرى من جانبه تكرار هدم التماثيل في مراكز الثورة ليس مصادفة ولا ضربة حظ، بل مقصود، وإذا كان الشاعر نزار قباني يقول إننا «لبسنا قشرة الحضارة وظلت الروح جاهلية» فإن الإسلاميين المحدثين يريدون تجريدنا من هذه القشرة، شعارهم لنكن خارج هذه الحضارة الإنسانية، وهذا مجرد مؤشر على نوع الممارسة التي يمارسونها في كل المجالات لا في الفن وحده».
يرى مبروك أن كل النماذج التي قصد الإسلاميون تدميرها متفقة على أن تكون جزءاً من الحضارة الإنسانية، الحس الإنساني لدى المعري وضعه في مكانة تليق به كشاعر ومفكر إنساني لا يخص ثقافة محددة، وكذا الأمر بالنسبة لطه حسين الذي كان مشروعه الهام محاولة ليخرجنا من جهالات القرون الوسطى، وانتقد التدين الزائف، كما أن شكري بلعيد ينتمي إلى تيار تقدمي يساري يمثل عداءً لهذا التيار الديني». هذه التيارات الدينية ضد الروح التي ظهر بها الإسلام في بداياته، ومن يقرأ كتب تفسير الولي سيدرك تعدد الأفكار وثراءها، ولم يكن عبثاً أن تخرج هذه الثقافة المنفتحة شاعرا مثل المعري. هؤلاء أصبحوا خطراً على الإسلام ذاته، وتفكيرهم سيمتد إلى المجالات كافة، وخاصة السياسي والاجتماعي، وهذا هو الخطر الأكبر.
محمد شعير (القاهرة) : السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...