غسان الرفاعي يكتب عن زنبقة جنيف

07-10-2007

غسان الرفاعي يكتب عن زنبقة جنيف

أعلمني الدكتور «مندوب ش» صديق الدراسة في جنيف، والاستاذ في جامعة بغداد، والمقيم مؤقتاً في باريس، بصوت مرتجف: عندي خبر حزين لي ولك: لقد رحلت الدكتورة «بشرى ب»، لا أدري كيف: أهي سيارة مفخخة؟ أم قنبلة موقوتة؟ أم رصاصة طائشة؟ أم سكتة قلبية؟ لم أتمالك نفسي، وانخرطت أبكي، وتذكرت، يا الله، كم هي قاسية هذه الذكرى!.

ـ1ـ ‏

جنيف عام 1960 ‏

ـ كان مجتمع الطلاب العرب في جنيف في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات أشبه ما يكون بطنجرة بخارية، تتكدس فيها كل صنوف اللحم والخضر، ومرفوعة على النار، ولكن لا يجرؤ أحد على فتح غطائها. وكان مقهى «الماركيز» القريب من الجامعة ـ وقد سميناه مقهى «الحضارات المندثرة» بسبب تردد العرب والفرس والاغريق عليه ـ يشهد معارك طاحنة بين الطلاب العرب، أين منها حلبات المصارعة أو الملاكمة، ولكن الصفاء كان يعود بسرعة، فتتم المصالحات والمعانقات، بين تصفيق الجمهور وهتافاتهم، بل تساقط دموعهم بعض الأحيان. ‏

ـ المفارقة أن معظم الطلاب الذين كانوا يتابعون دراساتهم في جنيف ينحدرون من أسر غنية أو ميسورة، ويعيشون حياة مترفة بعض الشيء، بالاضافة الى الطلاب الذين كانوا يرسلون في بعثات حكومية. ولكن التطرف السياسي لدى الجميع كان لافتاً للنظر، وكان كل واحد منّا ينصب نفسه منظِّراً للمستقبل العربي، ومنحازاً إما للماركسية البدائية، أو القومية الشوفينية، أو السلفية المتحجرة، وقد برز من صفوفنا عدد من الشخصيات المرموقة لعبت أدواراً سياسية أو اقتصادية مثل الدكتور عبد الرؤوف الكسم والدكتور محمد محفل والدكتور محمد الخطيب والدكتور مصطفى السيد، والمرحوم عاطف دانيال الذي أقام امبراطورية مالية تمتد من نيويورك الى باريس وجنيف، وعيسى الشيخ راضي الذي كان له دور في الثورات العراقية المتعاقبة. ‏

ـ 2 ـ ‏

ـ في ذكرى العدوان الثلاثي على مصر، تنادى الطلاب العرب الى اجتماع عاصف في مقهى «كريستال» في لوزان، وقد فوجئت باختياري لإلقاء الكلمة الرئيسية في هذه المناسبة. ترددت، بل لعلّي خفت: فلم أكن مسيّساً بما فيه الكفاية، وكان مزاجي أقرب الى الفوضوية أو البوهيمية، وكنت أفضل أن أهيم على وجهي في الأزقة مع الفنانين والمهمشين على حضور الاجتماعات والاستماع الى الخطب الرنانة، ولكنني، بعد الاصرار، قبلت، وفي الموعد المحدد ألقيت كلمة نارية، قوطعت بالتصفيق الشديد. وكان مما قلته: «الجماهير العربية بزعامة جمال عبد الناصر» ستقتحم البيت الأبيض، وستسحب ساكنه من غرفة نومه». وقد حملني هذا الخطاب الساذج الى رئاسة رابطة الطلاب العرب في الانتخابات التي جرت بعد أسبوع، والتي فازت فيها قائمة تضم آنسة عراقية متطرفة. ‏

ـ كانت الآنسة «ب» زنبقة مجتمعنا الصغير الذي تمزقه الصراعات السياسية الحقيقية أو الموهومة، يتغلغل أريجها في تطرفنا الطفولي، فيبدده وتغزونا ابتسامتها الوديعة فتزول خلافاتنا، ونعتذر عن إساءاتنا. كان يعمر قلبها تصوف وطني يحرجنا ويجرحنا، وينتظم تفكيرها أسلوب في الاقناع يفتت عنادنا، ويلغي مقاومتنا. ولطالما شعرنا بالخجل وهي تحرضنا، وتستصرخنا وتهيب بنا أن نكون في مستوى تطلعات شعبنا. ‏

ـ وكان حلمنا الأكبر الذي لم نجرؤ على الافصاح عنه أن يقع اختيارها على فارس بين صفوفنا ليكون رفيق دربها ولكن شروطها كانت مرهقة. ولعلها كانت مستحيلة؛ إذ ينبغي أن تتوافر في المرشح ثلاثة شروط، أولها: أن يكون تقدمياً ملتزماً، وثانيها: أن يكون مناضلاً جريئاً وثالثها، أن يكون زاهداً في متع الدنيا. وكان من المتعذر أن تتوافر هذه الشروط فينا: فقد يكون تقدمياً، ولكنه أضعف من أن يكون مناضلاً، وقد يكون مناضلاً ولكنه لا يزال طامعاً في متع الدنيا، وقد يكون زاهداً ولكنه رافض للتقدمية، وهكذا بقينا ندور في فلكها، دون الحصول على رضاها. ‏

ـ 3 ـ ‏

واتصل بي الاستاذ زهير قباني ـ وكان مدير مكتب الجامعة العربية في جنيف ـ في ساعة متأخرة من الليل، وقال لي بادي الاضطراب: ‏

ـ «اريد أن أراك في الصباح لأمر مهم!». ‏

وتطيرت، ماذا عساه يريد مني هذا الارستقراطي الدمشقي العريق، ولكنني وعدت أن ألقاه في مقهى البلازا، في صباح الغد، وحينما رأيته قال لي بافتعال: ‏

ـ «سيصل الرئيس شكري القوتلي الى جنيف في الغد إنه ليس في زيارة رسمية، وهو متعب ويريد أن يستريح. ‏

ما أرجوه منك هو أن تنظم له استقبالاً في المطار مع زملائك الطلاب!». ‏

ونظرت إليه وأنا لا أخفي ارتيابي: ‏

ـ «مع زملائي الطلاب، ولكن لماذا؟». ‏

قال: «شكري بك جريح من الداخل، لقد أهانه السراج، ثم إنه رئيس البلاد حتى إشعار آخر!». ‏

صمت ثم قلت له: «القرار ليس لي، إنه للجنة الادارية، سأعرض الأمر» واجتمعنا وتداولنا في هذا «المأزق الوطني» وبعد مناقشة ساخنة قررنا المشاركة وإعداد استقبال لائق للرئيس شكري القوتلي، لأنه رئيس بلد كبير، ولأنه ديمقراطي، ولأنه انسان طيب، ووطني غيور. ‏

ـ4ـ ‏

ـ لم يصدق الرئيس القوتلي عينيه مساء اليوم التالي، نزل من الطائرة، متغضن التقاطيع، شاحب الوجه، ولم يكن يخطر على باله أن حشوداً تنتظره في المطار لتحيته. هطلت دموعه ـ رحمه الله ـ وتهدج صوته ثم قال بصوت مبحوح أجوف: ‏

ـ «من كان يظن أنني سأرى هذه الوجوه الشابة؟ بارك الله، بارك الله. يكبر الوطن بكم يا أولادي». ‏

وحينما أخذنا ننشد «موطني، موطني» خانته أعصابه، وتدفقت دموعه، وأخذ يقبلنا واحداً واحداً، وهو يشرق بالدمع ويردد: «من كان يظن أنني سأرى هذه الوجوه!..» ‏

ويبدو أن الاستقبال العاطفي البسيط الذي أعددناه له قد أثر فيه الى حد كبير، إذ اتصل بي زهير قباني مجدداً في اليوم التالي، ليعلمني أن الرئيس يدعو اللجنة الادارية الى غداء خاص معه. ولم ينس أن يقول لي بصوت خفيض: أرجوك بلغ الآنسة «ب» أن الرئيس متعب، ولا يتحمل مناقشات وحوارات سياسية ساخنة. أنا أعرفها، أنا أعرفها..!»،. ‏

وعدته خيراً، بعد أن شكرته. ‏

ـ 5 ـ ‏

ـ وتحلقنا حول مائدة الرئيس القوتلي، في فندق متواضع في زوريخ، يستشرف أكمات متلاصقة مغطاة بالثلج، وشجيرات أرز مغروسة على امتداد الأفق، وكان معنا الى جانب الهيئة الإدارية للرابطة، ابنة الرئيس الكبرى، وكانت تدرس الفنون الجميلة في روما وسليم اليافي سفير سورية في برن ـ وقد أصبح فيما بعد الأمين العام المساعد للجامعة العربية ـ وزهير قباني مدير مكتب الجامعة العربية في جنيف. ‏

كان الرئيس يتحدث، بادي الانشراح، عن رحلته الى الاتحاد السوفييتي ومحادثاته مع المسؤولين السوفييت، وكيف نجح في تعبئتهم ضد «أشرار» العدوان الثلاثي على مصر، وفجأة توقف، ونظر الى شجيرات الأرز وقال: ‏

ـ «نحن نتحرك في كل الاتجاهات، يظن البعض أن مشاكلنا قد تحل بالتفاوض مع الغرب: هذه وجهة نظر. ‏

ويظن بعض آخر أنه ينبغي المراهنة على الشرق: هذه وجهة نظر اخرى. وهناك آخرون يصرون على الحياد الفعال: وهذه وجهة نظر. المهم اننا نتحرك. من كان يظن أننا سنتخلص من الاستعمار وننال الاستقلال، من كان يحلم أن يكون فارس الخوري رئيساً لمجلس الأمن. نحن نتحرك والحركة بركة». ‏

وحانت مني التفاتة إلى الآنسة «ب» فوجدتها متحفزة، غاضبة، في عينيها تحد لا يخشى الافتضاح، وحركة يديها توحي بانفجار وشيك، نظرت إلى الرئيس، مرفوعة الرأس وقالت: ‏

ـ «ماذا تقول يا سيادة الرئيس؟ يخونون فنقول: وجهة نظر، يتآمرون، فنقول: وجهة نظر، يتواطؤون، فنقول: وجهة نظر، هؤلاء لا يستحقون إلا السحل في الشوارع والشنق على أعواد المشانق». ‏

وتكهرب الجو، وطفا توتر لم نكن ننتظره، ولا على استعداد لمعالجته. ‏

صمت الرئيس القوتلي ـ رحمه الله ـ ثم نظر إلى الآنسة «ب» وقال: ‏

ـ «وهذه وجهة نظر، إنها دليل آخر على تحرك شعبنا ومجتمعنا، في غضبك صحة وعافية، إننا نتحرك، وفي الحركة بركة..». ‏

وظل هذا اللقاء مع الرئيس القوتلي حديث مجتمعنا الصغير، فترة طويلة من الزمن، أكبر الجميع شجاعة «زنبقة جنيف»، وتجاسرها على إيصال رسالة الثورة المتصاعدة من كل مكان إلى رئيس تقليدي، لم يعد يستوعب التطور الذي حدث في المجتمع العربي الحديث، كما عاب علي الجميع «رخاوتي الدمشقية» وصمتي. ‏

ـ 6 ـ ‏

باريس، بارك كورنونوف 1994 ‏

لكم كان يسعدني أن أشارك في الاحتفالات والمهرجانات التي كانت تقيمها صحيفة «الأومانيتيه» سنوياً، ترسيخاً لانتصارات الأممية، ونضال الطبقة العاملة في كل مكان، كانت تتوافد جماهير غفيرة من كل الأعمار، والقوميات والأصقاع، لتغني وترقص، وتعرض لوحاتها من «الفلكلور الشعبي» ولتهتف من أجل انتصار الثورة الأممية المجيدة. ‏

وكنت أتجول بين الخيام والأكشاك التي أقامها المشاركون، ومعظمهم من الحالمين الرومانطيقيين، فيحلو لي أن أجري حوارات معهم، وأن أطلع على المنشورات السرية التي كانوا يصدرونها في بلادهم، ولطالما رقصت معهم، وتذوقت مأكولاتهم الشعبية، ورائحة الشواء تفعم الأنوف، والبالونات الملونة تنفجر، محدثة دوياً خاصاً. ‏

لفتت نظري خيمة صغيرة مزروعة في مكان قصي من أرض البارك، مزينة باللافتات والأعلام العربية والعراقية، وتناهى إلى سمعي غناء عتابا متوحشة، فاقتربت من الخيمة، ثم دخلتها بحذر، فوقعت عيناي على امرأة مقتعدة على الأرض، وقد فرشت أمامها منشورات وكتباً، ولم يكن يظهر منها إلا كتفاها، وشعرها الموخط بالشيب، وابتدرتها قائلاً: ‏

ـ «يا سيدتي، هل لي بنسخة من هذه المنشورات؟». ‏

رفعت رأسها، ونظرت إلي، وقالت بصوت يكاد أن لا يسمع: ‏

ـ «هل أنت عربي؟». ‏

وتفرست في ملامحها، ثم تفرست، وندت مني صرخة: ‏

ـ «أهذا أنت يا زنبقة جنيف؟» ‏

واضطربت، وأشاحت عني، فاستنهضتها برفق وارتميت على كتفها، وأنا أنحب بصوت خفيض، ولم أستطع أن أتمالك نفسي. ‏

ـ «ماذا حدث يا زنبقة جنيف، هذا الحزن، هذا الوجه!». ‏

وبينما كنت أغرس أظافري في جسدي، وأعض على شفتي سمعتها تتمتم: ‏

ـ «وماذا تنتظر بعد 15 عاماً في سجن نقرة سليمان؟». ‏

وقلت، وأنا أرتجف، حزناً، شفقة، غضباً، قرفاً: ‏

ـ « هذا مستحيل، هذا مستحيل، يا زنبقة جنيف، والآن ماذا تفعلين، بعد كل هذه السنوات من العذاب والألم؟». ‏

وبرق في عينيها شيء من العنفوان وقالت: ‏

ـ «أكمل المشوار، أوزع المناشير، وأستمر في النضال!». ‏

ووجدتني أخرج من طوري، وأدق رأسي على عمود الخيمة المعدني حتى نزفت، وأصرخ بكل قوة ووجع أصرخ: ‏

ـ «تناضلين، في سبيل من؟ ولماذا؟ لقد خدعوك، وكذبوا عليك، لقد تقرح عمرك وعمرنا معك، ونحن نحلم بوطن كبير يقوم على العدالة والمساواة والحرية، فلم تحصلي إلا على الدولة البوليسية وعصابات المتخمين وطوابير المرتشين، لقد قاومت، وتعذبت، وناضلت من أجلهم، ولأجلهم، وهاهم يسخرون منك، ويتصدرون الموائد في مقاهي الشانزيليزيه، بعد أن تورمت حساباتهم، وشمخت سياراتهم، إنهم يسكنون القصور، وتحيط بهم النساء الطريات المغندرات، وأنت لقد جعلوا منك ومنا صناديق قمامة! لا يا زنبقة جنيف، لقد سقطنا كلنا، تشققنا، تعهرنا، تفسخنا، وملأت البثور وجوهنا». ‏

وتلعثم على وجهها مزيج من الكبرياء والتحدي والقسوة وقالت: ‏

ـ «أنا لا أعمل لهم، أعمل لأنه لا بد من العمل، من متابعة المشوار، سأستمر ولو بقيت وحدي في الميدان». ‏

ودققت رأسي على عمود الخيمة، وانحنيت أقبل يديها: ‏

«يا قديسة، يا زنبقة جنيف، نحن لا نستحقك!». ‏

غسان رفاعي

المصدر: تشرين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...