محطات .. إعلامية

16-10-2013

محطات .. إعلامية

الجمل- د. مالك سلمان:

ليست لدي أية أوهام حول "موضوعية" الإعلام, ولا حتى حول موضوعية أي خطاب آخر؛ فقد تعلمتُ من "علم السرديات" و "تحليل الخطاب" اللغوي و "ظاهراتية" إدموند هوسيرل, وتجربتي المتواضعة في التواصل مع أنواع مختلفة من البشر, أن الخطابَ, بكافة أنواعه, وما يسمى "العالم الموضوعي" محكومان دوماً برؤية "ذاتية", بزاوية الرؤية, وموقع الرائي, وإيديولوجيته, وكل ما يحدد بناه النفسية والاجتماعية والسياسية. كما أنني لست غريباً عن مفهوم "التضليل الإعلامي" وآلياته اللغوية والتصويرية والقوى المحركة له, من تمويل, إلى أجندات, إلى آخر ما تعرفونه. لكنني أعرف, في الوقت نفسه, أن المضامينَ العميقة لأي خطاب عادة ما تكون مغلفة باستراتيجيات وتقنيات معقدة لا تفصح عن نفسها بسهولة, بل تحتاج إلى تحليل دقيق لبُناها وآليات عملها.
لكن ما يثير دهشتي هو كل هذا العُري, كل هذه الصفاقة, كل هذه البذاءة التي يصفعك بها الخطاب الإعلامي اليوم, والتي لا يمكن إنتاجها إلا على خلفية مفاهيمية تفترض غباءَك المطلق, وجهلك التام: باختصار, إنه فعلٌ ينطلق من موقف غاية في البذاءة الأخلاقية.
* * *
أفتش في رفوف مكتبتي المنزلية المتواضعة عن كتاب صغير للمفكر الفرنسي جان بودريلار بعنوان "نشوة التواصل" أذكر أنني قرأته منذ سنوات. وأخيراً أراه محشوراً على أحد الرفوف بين كتابين ضخمين: الأول يحوي مختارات من كتابات الماركيز دو ساد؛ والثاني دراسة حول نشوء الفاشية الأوروبية. فكرت: هكذا هي الأشياء الثمينة دوماً؛ مخفية, وبحاجة إلى جهد للوقوع عليها.
أنفض الغبار عن الكتيب الصغير, أفتح الكتاب على الصفحة 22, وأترجم النصَ التالي:
"لم نعُد نشارك في دراما الاغتراب, بل وصلنا إلى نشوة التواصل. وهذه النشوة بذيئة. والشيء البذيء هو كل ما يلغي التحديقَ, والصورة, وكلَ أشكال التمثيل. فالبذاءة لا تقتصر على الجنسية, لأن هناك اليوم إباحية في المعلومات والتواصل, إباحية في الدارات والشبكات, في الوظائف والأشياء في وضوحها, وتوفرها, وتنظيمها, ودلالتها القسرية, وقدرتها على الأداء, وارتباطها, وتعدد قواها, وفي تعبيرها الحر ... "
* * *
بدأت أشعر بتحسن ملحوظ. دائماً أشعر بالتحسن عندما أمَهدُ للشتائم. يعتريني شعور غامض أقرب إلى "النشوة" التي تسبق "التواصل" .. بكافة أنواعه!
* * *
قبيل بدء العملية العسكرية في حي الرمل الجنوبي في اللاذقية منذ حوالي عام ونصف (بهدف استئصال مجموعات مسلحة دخلت إلى الحي), طالعني "خبر عاجل" على إحدى الفضائيات العربية مفاده أن "كتائب الأسد" تحاصر المتظاهرين في "المدينة الرياضية" في اللاذقية. أول ما تبادر إلى ذهني هو: لماذا يذهب الناس إلى "المدينة الرياضية" الواقعة على أطراف اللاذقية لكي يتظاهروا؟ ولكن لا يوجد مسجد في "المدينة الرياضية", كما لم يكن يومَ جمعة. ثم عرفتُ في مساء ذلك اليوم أن الجيش طلب من المدنيين الخروج من الحي والتوجه إلى "المدينة الرياضية" حفاظاً على حياتهم من الاشتباكات المتوقعة في الحي, بعد أن جهز لهم ما يحتاجونه بما في ذلك "حفاضات" الأطفال. أعرف ذلك لأن امرأة اشتكت إلى أحد أصدقائي الأطباء قائلة إنها لا تعرف كيف تستخدمها لأنها, لفقرها الشديد, تستخدم قطع القماش في "تحفيض" طفلها.
احزروا ماذا يوجد في "المدينة الرياضية" في اللاذقية! "المركز الإذاعي والتلفزيوني" في المدينة, الذي لم يجد من اختصاصه, ربما, تغطية ما يحدث في عقر داره, أو ربما لم يتلقَ الأوامر للقيام بذلك.
وبقي الخبر العاجل الذي بثته المحطة النشطة جداً معلقاً على شاشة التلفاز ... وفي الذاكرة.
وفي مساء اليوم نفسه, يطلع العثماني إيردوغان على إحدى الشاشات الفضائية الغربية ليؤكدَ, بكل بذاءة وصفاقة, أن السفنَ الحربية السورية تقصف الرمل الجنوبي من البحر.
لكن أحداً في اللاذقية, ومن بينهم سكان المنطقة والمناطق المجاورة, لم يرَ سفناً بحرية بالقرب من الشاطىء الجنوبي, سواء في وضعية "القذف" – كما تسمي حماتي "القصف" – ولا في وضعية الاسترخاء.
كما أن أحداً في الإعلام السوري لم يكلف نفسَه عناءَ الذهاب إلى المنطقة لتكذيب الخبر الذي لفقه الإيردوغان بكل بذاءة وهو يضع ساقاً على ساق ويعدلُ ربطة عنقه.
هامش:
هذا المركز الإعلامي نفسه, في اللاذقية, وجدَ الحافزَ الوطنيَ اليوم (أول أيام عيد الأضحى) ليجمع خليطاً غرائبياً من الناس ويضحي بهم, في أحد مقاهي "أورانج مول" في الهواء الذي كاد أن يأتيه الطلق, ضمَ عدداً من أهالي الشهداء في المدينة؛ والباحث الموسيقي الأستاذ زياد عجان (بحجة تكريمه .. أيضاً)؛ والممثل جرجس جبارة؛ وممثلة أخرى لم أتمكن من معرفة اسمها؛ وكاتبة لم أعرف اسمها أيضاً؛ والمغني الشعبي أذينة العلي؛ و ... أستاذ اللغويات الفرنسية الدكتور صديق غريب, عميد كلية الآداب في جامعة تشرين؛ آه .. ومذيعاً/ممثلاً آخرَ كان يتصارع مع الأطفال في الطابق الثالث من "المول" ويتصنع فرحة العيد وجَمعة الأطفال وهو يكاد يفقد صوابَه, ويرتدي قميصاً أبيضَ (نص كم) عليه لصاقات مثل: "ستروين" و "توتال" (توتالي وطنية)؛ و "ساحراً" قطعوا البث عنه في أول العرض الذي كان يقدمه للأطفال (مع أنه رفض تسميته بالساحر وقال الموضوع كله ألعاب خفة)؛ وحشداً من زوار "المول" الواقفين ... . كان أهالي الشهداء (الذين لم "يلتكش" أحدُ بهم) جالسين في الخلفية, وكذلك الأستاذ المكرَم زياد العجان الذي وجهت إليه مقدمة السهرة لبابة يونس سؤالاً عن بُعد لتكتشف أنه ليس مزوداً بميكروفون ليجيبَ على سؤالها.
أعتذر من "الساحر" الذي أنكر وجود السحر, وأقول: السحر الذي رأيتُه في هذه "الحفلة" – التي احتلها أذينة العلي – يجعل ماركيز (سيدَ "الواقعية السحرية") يخجل من "واقعية" رواياته!
* * *
في أواخر التسعينيات من القرن الماضي, كتبَ الإعلاميُ – الذي كان بارزاً آنذاك - طلال سلمان في صحيفة "السفير" مقالة عن الإعلام السوري مفادها ما يلي: على الرغم من أن الإعلام السوري موجَه بشكل كامل لخدمة سياسة النظام السوري, إلا أنه (لاحظوا الشتيمة المستحَقة) فشلَ في "الارتقاء إلى مستوى سياسة الرئيس حافظ الأسد".
* * *
بعض المحطات الفضائية العربية لا تزال مصرة على تسمية "الجيش العربي السوري" ﺑ "كتائب الأسد" أو "شبيحة الأسد", والإشارة إلى القتلى من المسلحين في سوريا ﺑ "الأشخاص" والذين لا يزالون أحياءً منهم ﺑ "الثوار" أو "المعارضين" أو "الجيش السوري الحر"؛ وفي النشرة الإخبارية نفسها تطلق على الجيش المصري – الذي نفذ, حتى الآن, انقلابين عسكريين متتاليين ويقود البلاد برئيس مؤقت دمية يحركه الجنرال المحبوب (محبوب واشنطن والخليج) السيسي , كما في شعار "السيسي رئيسي" – اسمَ "القوات المسلحة المصرية" وعلى المسلحين الإسلامويين اسمَ "المتطرفين" أو "الإخوانيين" أو "الإرهابيين". من بين هذه المحطات محطات مصرية محسوبة على التيار القومي.
* * *
الهجوم الذي حصلَ في واشنطن, والذي قام به ثلاثة رجال أحدهم عسكري, لم يكن على "أحد مقرات البحرية الأمريكية", كما ذكرت المحطات الغربية ورددت صداها المحطات العربية. فالمقر الذي تعرض للهجوم كان "مقر قيادة النظام البحري الأمريكي".
أثناء تغطية قناة "الحرة" الأمريكية – الناطقة باللغة العربية – أكد أحد المسؤولين الأمريكيين أنه ليس للهجوم أية أبعاد سياسية كما أن أحد المهاجمين, والذي قتلَ في المبنى, "مختلٌ عقلياً". وفي الوقت نفسه ظهر خبر عاجل في أسفل الشاشة مفاده أن التعليمات قد أعطيت لتشديد الحراسة على كافة مقرات البحرية الأمريكية! لماذا؟ لأن "المختلين عقلياً" مختلون إلى درجة أنهم لا يهاجمون سوى المقرات العسكرية أو المرتبطة بالحكومة الأمريكية. هكذا, بهذه البساطة. وأكبر دليل على ذلك الهجوم الآخر الذي حصل على الكونغرس الأمريكي؛ ولكن تبين فيما بعد أن الشرطة كانت تطارد امرأة "مختلة" في سيارتها! هذه أنباء موجهة للمشاهدين "المختلين" عقلياً.
* * *
بالمناسبة, لماذا لم تقل لنا أية من المحطات الفضائية الغربية والعربية – التي تسارع إلى التقاط فصٍ مُلتحٍ يضرطه أحد قادة الجماعات الإجرامية في منطقة نائية من مناطق سوريا – ماذا يحدث فعلاً في نيروبي؟ ولماذا تشارك قوات من الكوماندوس الاسرائيلي في عملية اقتحام "المول"؟
* * *
مَن يتلاقى مع مَن على قناة "تلاقي"؟ من كثرة تلاقي المراهقين اليابانيين والمراهقات اليابانيات على هذه الشاشة الوطنية, اعتقدتُ أنها مموَلة من "اتحاد شبيبة الثورة اليابانية"!
* * *
حددت الأمم المتحدة مهمة المفتشين الدوليين بتقرير ما إذا كان السلاح الكيماوي قد استخدم أم لا في الغوطة. نقطة. لكن بعض "زعران" السياسة الغربية البارزين سارعوا, حتى قبل صدور تقرير المفتشين, إلى ترويج عبارة "يرجح أن القوات الحكومية هي التي استخدمت الكيماوي في الغوطة" دون تقديم أية دلائل, بعد أن صرحَ "الزعران" أنفسهم – الذين يذكرونني بزعران "باب الحارة" وشركاه - أنهم لن يقبلوا بأية نتائج لا تدين النظام السوري! لم تعلق أية وسيلة إعلامية رسمية, غربية أو عربية, على هذه "السلبَطة" الفظة على أعلى مؤسسة دولية هي الأمم المتحدة التي يمثلها المفتشون.
* * *
حصلت في ريف اللاذقية مجازر مروعة ذهب ضحيتها المئات من النساء والأطفال والرجال البريئين. لم يأتِ الإعلام السوري على ذكر المجزرة, بل ساهمَ – مع الإعلام العربي والغربي – في التغطية عليها والتركيز على "أطفال جوبر" الذين يمكن أن يكون بعضُهم قد قضى بكيماوي السكاكين الإسلاموية في ريف اللاذقية.
على كل حال, شكراً ﻠقناة "الميادين" السورية.
* * *
هذه الظاهرة الإعلامية المعقدة التي التبَست على الكثيرين: هيثم مناع.
إذا كان ميشيل كيلو أشبه بعاهرة فاجرة رخيصة, فإن هيثم مناع أقربُ إلى "الشرموطة" المحترمة "الكلاس". فقد قررَ منذ أكثر من سنة  – أو قررَ له من قبل الاستخبارات الفرنسية التي يشاركها المخدَع منذ سنوات طويلة – أن يغازلَ "النظام" و "المعارضة", و "الموالينَ" و "المعارضين", حتى اعتقدَ المعارضون أنه "معارض" وظنَ الموالون أنه "موالٍ".
في آخر حديث له على قناة "الميادين" منذ أيام قليلة, كان يُنَظر حول ضرورة إعادة "الجيش السوري الحر" لترتيب استراتيجياته لكي يكون أكثر فعالية في قتل جنود الجيش العربي السوري, ولكي يتمكنَ من إحراز بعض التقدم الذي يعمل على تحقيقه زعران السياسة الغربية وعربان الصحارى التي لا يمكن أن تنتجَ سوى النفط .. الأسود.
ملاحظة: باتت ظهورات مناع وتصريحاته على الشاشات العربية والعالمية أكثر من حوارات .. فاتشيسلاف ماتوزوف.
* * *
"بقعة ضوء" إعلامية لا علاقة لها بما قبلها .. حقاً:
تلكأ الممثل السوري عابد فهد عندما "خبَطه" نيشان بالسؤال التالي - بعد أن تهربَ من أسئلته السابقة وحاولَ الوقوف على مسافة سياحية من الأزمة التي يعاني منها وطنه, بعد وقوفه على مسافة جغرافية وسياسية منه (حيث يقيم في غابة الأبنية الإسمنتية المنتعظة, دبي): "أنت مع الجيش العربي السوري, أم مع "الجيش الحر"؟
لم يستطع عابد فهد الإجابة على السؤال! لأن الحرية الاجتماعية والدينية التي كان يتمتع بها في سوريا, والتي يضحي رجال شرفاء على امتداد الوطن بحياتهم دفاعاً عنها اليوم, لم ترتقِ به إلى مستوى الوقوف إلى جانب جيش بلاده.
لاحظوا أن السؤال لم يكن حول "الموالاة" أو "المعارضة"؛ كان أبسط من ذلك بكثير.
عابد فهد, دعني أقل لك التالي: ويسوع المسيح, حرامٌ أن يقضي رجالٌ من أمثال علي خزام لكي تعيشَ "قحبة" فنية من أمثالك.
* * *
انتهى ...

الجمل

التعليقات

لازلت مأخوذاً بذلك الطفل الذي صرخ ببراءة الأميراطور عارِ وأشكر الله لأن هناك بضعة أشخاص لازال هذا الطفل يسكنهم يكتبون على الجمل . لا أعرف لماذا نهادن الإعلام وشخصياته ولا أعرف متى سيأتي الوقت المناسب لنصرخ بوجهه إنك عارِ إذا لم نستطع ونحن في أوج تعبئتنا النفسية أثناء المعركة أن نصرخ فهل تتوقعون أن نصرخ بعد أن تنتهي المعركة ونبدأ بالاسترخاء . ما ذكره الدكتور مالك غيض من فيض وهو فيض يعنينا جداً تشريحه لأنه يغمرنا كل يوم لذلك من حقنا أن نحاول أن يغمرنا طوفان نظيف لا الخراء المتمثل في أميين إعلاميين لا هدف لهم ولا رؤية( اللهم إلا السخف وبيع الكذب مقابل الريالات ) يعرضون ويستضيفون خليطاً من ضحل الأخبار و طفيليات الإعلام وشراميط الرأي الذين لا زال البعض يدعوهم معارضين أو فنانين.

د.مالك سلمان: ذكرت في مقالك الكثير من المواضيع، ولكن أريد أن اسمع رأيك في قناة "الميادين" وخاصة في المصطلحات التي ترددها، حتى وصل الأمر إلى أن يرددها -ليس الشارع- بل من يدعي الفهم الإعلامي والسياسي، ويبرر لها البعض الآخر من أجل كسب الشارع، وهم من يصدح صوتهم في "القومية العربية" ويستعملون "المصطلحات الغربية!". ورأيي في الإعلام السوري لا يخالف رأيك إلا بـ1%. أما قناة تلاقي حرام هالستديو يكون لهيك قناة.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...