هموم مستوردة

25-03-2007

هموم مستوردة

ـ1ـ قد يتعذر على الإنسان العربي «السوي» أن يستورد هموماً خارجية، ما دام غارقاً، حتى أذنيه في همومه الوطنية. إنه يتعاطف مع معاناة المعذبين في كل مكان، ولكنه يظل «مستنقعاً» في واقعه: تلامسه العولمة، ولكنها لا تفجره من الداخل، يتعايش مع الأحداث التي تجري في العالم، ولكنه لا يتحرك إلاّ «كسائح ثقافي». الوطن بالنسبة إليه، ليس طربوشاً فولكلورياً، يعتمر به في الكرنفالات والاحتشادات، وليس عباءة يستر بها «بثوره» وإنما ازميل يحفر في تضاريسه، وخنجر يغوص داخله. وحينما يستمع الى أغنية «أديث بياف» التي تقول فيها: «لشد ما كرهتك يا وطني، ولكني لن أتدثر إلا بلحافك!»، يستبد به الوجد، ويتمنى لو قذفته عصا سحرية الى حي عتيق في دمشق، يستنشق فيه رائحة الهيل والكمون.

ولكن ارتشاق المثقف العربي في المنفى، طواعية أو قسراً، يولد عنده الرغبة في أن يعتبر الاشكالات التي تتلاطم في المجتمع المغاير وكأنها صورة طبق الأصل عن اشكالات مجتمعه، من جهة، كما يأمل في أن يتبنى الحلول لهذه الاشكالات، دون تعمق، أو دراسة متمهلة، من جهة أخرى. ‏

تتفاعل، حالياً، في البلدان الغربية أربعة اسقاطات، بدأت تخرب مخزونها التاريخي، وتعصف بثوابتها السياسية والاجتماعية، وقد تولد اهتزازات، ليس من السهل التنبؤ بتداعياتها. ‏

ـ2ـ ‏

قد تكون الانتخابات الديمقراطية أشبه ما تكون «بفزاعة فرانكشتاين» بالنسبة لبعض قادة الأنظمة، ممن تعودوا أن يمارسوا الحكم المطلق، وممن نجحوا في تحويل مواطنيهم الى «رعايا» مذعورة، وقد تكون أشبه ما يكون بـ «بابا نويل»، بالنسبة لجماهير الناس، ممن يحلمون بحرية التعبير، وممن يطمحون الى أن ينتزعوا حقهم في المشاركة والمساءلة، وقد تكون أشبه ما تكون بـ«مؤامرة امبريالية» تستخدمها مراكز الاستكبار والاستفراد لتبرير التدخل والاحتلال، وتزيين التخلف القومي، ولكن الظاهرة الجديدة، التي تحرج هي «عزوف الجماهير» عن الانتخابات، وارتفاع نسبة المستنكفين، ما يعتبر دليلاً على «تآكل» الحيوية الديمقراطية، وانحسار «الوعي المدني»، وتفتت التضامن الاجتماعي. وكما جاء في تحليل حديث لمركز البحوث الاستراتيجي الفرنسي: «إن تلاحق خيبات الأمل، وشعور المواطن ان الطبقة السياسية من حاكمة ومعارضة، تخونه، وتستثمره، بقلة أدب، ووقاحة، قد دفعت به الى أن يكون «مواطناً سلبياً» يعاني من القرف السياسي، والترفع الايديولوجي، وعدم الاكتراث الاجتماعي. السؤال المطروح حالياً، هو: «هل تفتش جماهير الناس عن الشرعية الديمقراطية خارج الانتخابات، وبمعزل عن أحكام صناديق الاقتراع؟». ‏

المتشائمون يرجعون هذا العزوف المحير الى تفشي الفردية الانتهازية، وشيوع الانحطاط المدني، وتفاقم الهم المعيشي، خصوصاً بعد أن سقطت الفراديس الشمولية، بكل ما كان يثقلها من عنجهية في التنظير الايديولوجي، وفساد في الممارسات العملية، وبعد أن انفضح أمر الديمقراطيات البرجوازية، وغرقت في لجج الفساد والعهر الاقتصادي، والاستبداد المالي، ولكن «الحكماء» يرون في هذا العزوف تطوراً لافتاً لا يخلو من ايجابية، انه انتقال من الديمقراطية المستقطبة الى الديمقراطية المتشظية. ‏

يبدو ان المواطنين يرفضون ان يكونوا ذرات في سديم انتخابي، اذ قد وجدوا بدائل للتعبير عن رغباتهم، خارج صناديق الاقتراع، مثل التوقيع على العرائض، والانخراط في المسيرات، والتظاهرات، والاعتصام، والعصيان المدني، واللجوء الى القضاء، وكما قال (بيير روزا تفالون) في كتابه «خرافة المواطن السلبي»: «يسعد المواطن ان يتقاعس، وان يتخلى عن حقه الانتخابي، لا تهرباً من المسؤولية السياسية، وانما لأنه يفضل ان يعلن عن خياراته بوسائل اخرى: كم هو جميل ان يوقع على عريضة احتجاج، كم هو مثير ان يهتف في مسيرة حاشدة، ثم ان العصيان المدني، او الاعتصام في محطة مترو، أو الإضراب الشامل الذي يشل المرافق العامة، نشاطات رومانسية تذكرنا بحيويتنا». ‏

ـ 3 ـ ‏

المعزوفة المفضلة للأدبيات الفرنسية، هذه الأيام، هي الاعلان عن «موت المثقف» والتبرع بتوزيع «ورقة نعيه» مجاناً، وتؤكد مراكز الرصد ان اكثر القامات الثقافية قد استنفدت رصيدها، واخلدت الى الصمت، بعد ان داهمتها احداث، استغلق عليها فهمها وتحليلها، على الرغم من اصرار بعض «المقاومين»، على «ان ارهابيين مجهولين قد اغتالوا المثقفين، ولم يموتوا موتاً طبيعياً». وكان (روجيس دوبريه) قد اكتشف ان المثقف بالمفهوم الشائع في القرن التاسع عشر، أي المثقف الذي يعتبر نفسه مرشداً قد سحب من التداول، وحل محله «موظف الاعلان»، ومقدم البرامج الترفيهية او مروج الصراعات الاعلامية، ان المجتمع المعاصر، وهو سجين العطالة المفرطة، يقاطع كهنة الفكر، ويفضل عليهم «محترفي الاعلام» بعد ان انقرض دور الموجه الايديولوجي، وانطفأ الايمان السياسي بجدارته. ‏

ـ 4 ـ ‏

يشكو محترفو السياسة من ظاهرة «مخجلة»، تصبغ الحراك السياسي بألوان داكنة هي «غياب الفحولة الفروسية» في المبارزات السياسية، وتغليب قيم الأنوثة على الذكورة، المطلوب الآن هو الرجل الناعم، اللطيف، المداهن، لا الرجل الخشن، المهيب، المستبد، وكما قال احد الخبثاء: «ما أشبه رجال اليوم بالقوى الاستعمارية القديمة التي فقدت امبراطورياتها، وأصبحت تعيش على بقايا عز بين ركام قش وواقع الحال ان «دولة العضلات» قد تقوضت، منذ ان تحررت المرأة، واقتحمت الحياة العامة، وبدأت تتناول أقراص منع الحمل، وتتردد على النوادي الرياضية لتخفيف وزنها، وتنتسب الى المدارس الليلية لتجميل اثاثها الثقافي، وتطالب بحقها في الطلاق، وتتصدر المنابر السياسية في الساحات العامة، وتخون زوجها، دون مساءلة. ‏

كان من اللافت ان مجلة «لو نوفيل اوبسرفاتور» المعروفة بعراقتها السياسية، وبمساهمة كبار الكتاب في اغنائها من أمثال (جان بول سارتر) و(فرانسوا مورياك) و (اندريه موروا) تخصص عدداً لما سمّته «الهوية الذكورية الجديدة» وتضع على الغلاف صورة (رجل مخنث، يضع قرطين في اذنيه، تحت عنوان كبير: «وأين توارى الرجال؟» واللافت ان العدد يصدر بعد ان نزلت (سيغولين رويال) الى سوق الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فخورة بجمالها الذي تضافرت كل مؤسسات التجميل على صقله وابرازه. ‏

ان النضال «التقدمي» من أجل المساواة، بين الجنسين لم يوصلنا الى العدالة، وانما الى «تأنيث» المجتمع، بدل تذكيره، والى تفضيل المساواة الأفقية لا الشاقولية، ولم يعد مستغرباً ان تكون الصفة الضرورية للنجاح الاجتماعي هي السحر الشخصي، والمظهر الخارجي، والأداء الرشيق، لا موهبة القيادة، ولا سرعة البديهة، أو الشجاعة، او القدرة على الحسم، ولعل المفارقة الكبرى هي ان شباب اليوم لا يخجلون من تنمية مواهبهم الأنثوية، ولايتضايقون من تقليص فحولتهم، في المنزل، المطبخ، والحمام، بل حتى في غرفة النوم، ولكن المدهش ان نساءهم اللواتي يطلبن منهم ان يكونوا في منتهى الكياسة واللباقة والرقة، يتخذن لهن عشاقاً مغامرين جلفين، يمارسون الحب معهن على شكل اغتصاب، ما يدفع بأزواجهن الى ابراز الفحولة في متابعة مباريات القدم، وفي الإدمان على القمار، والافتتان بالسيارات الجديدة، وكما قال عالم الاجتماع (صموئيل بوباستيه): «يتمسك رجال اليوم بفحولة كاريكاتورية لاثبات انهم مازالوا أسياداً، ولا عزاء لهم الا البكاء على الاطلال». ولعل الشهادة التي ادلى بها (فيليب موري)، في كتابه « الحد الأدنى من الاحترام» بعد ان اصبح قصر الاليزيه الرئاسي مهدداً بأن تسكنه امرأة، هي تلخيص للمأزق، إذ قال: «ماذا بقي لي من رجولتي؟ فقدت قبعتي، وغليوني، وكأس نبيذي، وصحيفتي، وهيبتي، ماذا أفعل وأنا عاجز عن منافسة الغلمان والمهرجين الذين يتراصون على الشاشات، وانا اواجه دوماً خيارين: اما ان تكون نجماً في برامج ستار أكاديمي، وإلا فأنت لاشيء، كمية مهملة، وستخونك زوجتك!». ‏

ـ 5 ‏

والاسقاط الرابع هو هذا الانشطار في المجتمعات الحديثة بين ارستقراطيي العقل الذين ينتجون الأفكار، وارستقراطيي المال الذين ينتجون السلع، وكل الدلائل تشير الى ان هذا الانشطار قد يولد القطيعة لسببين: أولهما ان الهوة بين الشطرين تتسع وتتعمق، بحيث اصبح من المتعذر طرح شعار الوحدة الوطنية بسبب وجود خندق يفصل الشطرين في كل شيء: في السكن، في المأكل، في اللباس، وحتى في أسلوب المشي والضحك، وثانيهما ان الشطرين يجنحان نحو «الابتذال، والغثاثة، والدبق، والمكياج وكلها عوامل تقوض الأسس التي تقوم عليها، أية حضارة، حتى أمكن القول إن الكون مقبل لا على «صراع الحضارات»، وإنما على تمزق داخل كل حضارة على حدة، يصرخ ممثل هزلي على خشبة المسرح: كيف تنتظرون مني أن أصافحه؟ وهو يرتدي سروالاً يختلف عن سروالي، ويمضغ علكة، تولد عندي الغثيان؟ وتطلبون مني باسم الوحدة الوطنية أن أصافحه، وأن أجلس معه في مقهى واحد، وأن انتخب ذات المرشح لرئاسة الجمهورية؟ هذا مستحيل.... ‏

ـ 6 ـ ‏

هموم مستوردة، قد تتصف بالبدانة، والترهل، وقد تكون من إفراز التخمة، ولكنها هموم قد تهاجر إلى أماكن أخرى، ومنها شرقنا الأوسط، الذي يعاني من كثرة التصدير، لا عن حاجة، وإنما لأن المستكبرين طامعون به، وقد يكون من الحكمة تفحص البضاعة المصدرة عنوة، فقد ننجح في وقاية أنفسنا منها. ‏

د. غسان رفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...