يوم تحوّل «الفايسبوك» إلى «تنظيم محظور» في مصر

26-07-2008

يوم تحوّل «الفايسبوك» إلى «تنظيم محظور» في مصر

المشهد رومانسي تماماً، طائرة ورقية على شكل علم مصر في سماء الإسكندرية، فوق بحرها المثير للشجن، مخترقة الحواجز، ومثيرة لانتباه الباحثين عن إجازة صيف رخيصة بين الزحام على أشهر كورنيش في ذاكرة المصريين.
الطائرة دارت دورتين، وتعالت معها صيحات حماسة وأصوات خشنة تغني «مصر يا أمة يا بهية». فجأة انتهى المشهد بسيارة زرقاء يعرفها أصحاب الطائرة وجمهور المصطافين جيداً. ترجّل شخص استعراضي، ومن خلفه فرقة رجال تقفز شراستهم من عيون متحفزة وأجساد مستفزة. سريعاً حاصروا المنطقة وأنزلوا الطائرة واعتقلوا المغنين. وأعلنوا القبض على «التنظيم المحظور».
هذه هي التهمة التي تواجه ١٣ شاباً أمام نيابة الإسكندرية، التي رأت أنهم خطر على سلامة البلاد، فهم ارتكبوا الجرائم الآتية: التجمهر (وهو وصف لأي تجمع يشمل ٥ أشخاص) وترديد شعارات وهتافات مناهضة لنظام الحكم وتوزيع منشورات تحض على الكراهية وتعمل على تكدير السلم العام والدعوة إلى التغيير من طريق الانضمام إلى جماعة محظورة.جماعة محظورة؟ الوصف تستخدمه عادة الأجهزة الأمنية وصحافتها مع جماعة «الإخوان المسلمين»، لكن هؤلاء ليسوا إخواناً. هم شباب اشتركوا في مجموعات على موقع «الفايسبوك» دعت إلى الإضراب الشهير في ٦ نيسان، الذي أصبح علامة شهيرة على نوع جديد من التمرد على نظام حسني مبارك.
هل تقصد أجهزة الأمن أن «مجموعات ٦ نيسان» تحوّلت إلى جماعة منظمة؟ هل تصدق أن الشباب الذي أراد الاحتفال بثورة تموز على طريقته الخاصة بالسفر إلى الإسكندرية هم نواة تنظيم جديد لقلب نظام الحكم بالأغاني والطائرات الورقية؟ أم أنه الهوس الذي أصاب أجهزة الأمن بعد إضراب ٦ نيسان ودفعها إلى البحث عن أي خيط تحاصر به المجموعات التي كسرت حواجز الأمن وأقامت خطوط اتصال افتراضية صنعت أكبر هزة لنظام مبارك؟ أي خيط ولو كان خيط الطائرة الورقية يجعل الأجهزة، التي تعودت مطاردة التنظيمات السرية وكيانات تحت الأرض، تنجح في مهمتها لقتل «الثورة الافتراضية» قبل أن تخرج من أجهزة الكمبيوتر إلى الشارع.
يتحدث أحمد ماهر، منسق «مجموعة ٦ نيسان»، عن مطاردات الطائرة الورقية: «سافرنا إلى الإسكندرية للتعرف إلى زملاء لنا في مجموعات الفايسبوك وللتضامن مع سجناء الرأي. كنا نشعر بمراقبة أمن الدولة. وعندما أدركنا أنه يمكن اعتقالنا، قررنا العودة إلى القاهرة. إلا أن أمن الدولة كان أسرع».
القبض على التنظيم «الافتراضي» نقلة نوعية في حرب أجهزة الأمن. إنها محاولة لوضع الظاهرة في قالب تستطيع الأجهزة التعامل معه. قالب قديم: التنظيم السري. الأجهزة خبيرة بطرق ملاحقته وأساليبها محفوظة: الاختراق عبر تجنيد عناصر سرية والاعتقال والتعذيب والسجن.
هذه هي الرسالة المباشرة من اعتقال تنظيم «الفايسبوك»: تخويف آلاف الشباب من الدخول إلى مسرح الشأن العام. هي ليست الرسالة الأولى. فقد كان اعتقال إسراء عبد الفتاح، نجمة إضراب ٦ نيسان، إشارة إلى أن النضال في الغرف المغلقة ليس بعيداً عن قبضة الأمن الحديدية. الرسالة الأولى وجدت صدى وأثارت الرعب فعلاً، وها هي الرسالة الثانية تريد القضاء على جيل الغضب الذي خرج من جزر الإنترنت المعزولة. شباب، من العشرين إلى الأربعين، تربوا على الخوف من السياسة وكراهية العمل الجماعي، فالنظام لا يحب الحديث في السياسة من دون إذن، ويكره أي جماعة بعيدة عن صناعة يده.
هؤلاء وجدوا في الإنترنت مساحة حرة، يكتبون فيها بلا مخبر ولا رقيب. كتابة متمردة تحطم أسوار المحرمات كلها، سياسة وجنس ودين. تتنفس حرية. وتعيش في جنة افتراضية.
البداية كانت من المدونات الشخصية، التي أصبحت جنة الحرية على الإنترنت. ومع سخونة الأحداث السياسية، انتقلت المدونات من جزيرة للأحلام الشخصية إلى حائط تنشر عليه الوقائع. كارثة اغتصاب المتظاهرات أمام ضريح سعد يوم الاستفتاء على تعديل المادة 76 (أيار ٢٠٠٥) ولّدت الرغبة في الخروج الجماعي إلى الشارع.
رغبة جيل في التغيير، في مصر جديدة بلا رئيس أبدي ولا شرطة تضرب المعارضين. خروج المدونين كان الظاهرة الأهم في حركة المعارضة الجديدة لأنهم فرادى بلا تنظيمات. حضورهم طازج وساخن بلغة هاربة من جمود السياسيين القدامى، ورغبة حارقة في تعبير جديد عن الذات والمجتمع.
اللجوء إلى الإنترنت هو محبة للبلد وهروب من مصير التعليم الرسمي. رغبة في ثقافة مفتوحة خارج توابيت التحنيط في ثقافة المدارس والجامعات. شرائح اجتماعية ترى التعليم والثقافة مهارتها الوحيدة بعدما طارت أحلام الثروة مع الفساد. وهناك على الإنترنت ولدت فكرة «إننا نستحق أن نكون مجتمعاً افضل»، «نستحق مصر جديدة».
تحوّلت المدونات إلى صحافة شعبية خارج الخطوط الحمراء، فجرت قضايا أهمها التعذيب في أقسام الشرطة، وكونت مزاج غضب أثمر في «الفايسبوك». مجموعات جديدة خلقت بذور صحافة فردية. من هذه الحرية خرجت بشائر معارضة جديدة أزعجت القديمة (الأحزاب الشرعية والجماعات المسيطرة على أصحاب الحس الديني)، ومثّلت خطراً على وجودها وصدقيتها، كما كشفت انسداد أفقها العاجز عن الخروج عن أسوار النظام وصفقاته.
«معارضة ديجيتال»، كما سخر أصحاب الهوى القديم في ممارسة السياسة. قد تكون من دون وعي خبير بالتنظيم، وقد تتميز بمراهقة سياسية وتستعيد مزاج اليسار في الستينيات. لكن الأفكار والطرق مبتكرة. إنها بداية وليست نهاية، وأفقها ليس بناء جهاز للثورة، بل بث روح التمرد والتعبير عن الاحتجاج وشجاعة الاهتمام بالشأن العام.
الإنترنت هو مفتاح برنامج سياسي لا يحترم الصفقات مع النظام. لكنه لا يعادي ولا يصادق إلا على قواعد عريضة من الحقوق والواجبات لمواطن في دولة حديثة. وطنية من نوع مختلف. وعلامات الغضب لجيل خرج إلى الشارع، والآن إلى الزنازين.

وائل عبد الفتاح

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...