الوعد الإلهي واستراتيجيّات الغزو والاحتلال

25-09-2023

الوعد الإلهي واستراتيجيّات الغزو والاحتلال

راجي سعد:

“وقال الرب لأبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمةً عظيمةً، وأباركك، وأعظم اسمك، وتكون بركةً. وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض” (سفر التكوين، الإصحاح 12: 1-3).

“واجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض. وظهر الرب لإبرام وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض” (سفر التكوين، الإصحاح 12: 6-7).

“ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي انت فيه شمالا وجنوبا وشرقا وغربا لأن جميع الأرض التي أنت ترى، لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد. وأجعل نسلك كتراب الأرض، حتى إذا استطاع أحدٌ أن يعد تراب الأرض، فنسلك أيضاً يُعَد. قم امشِ في الأرض، طولها وعرضها، لأني لك أعطيها” (سفر التكوين، الإصحاح 13: 15-17).

“في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقا قائلاً: ” لنسلك أُعطي هذه الأرض، من نهر مصر الى النهر الكبير، نهر الفرات” (سفر التكوين، الإصحاح 15، 18)

“واقيم عهدي بيني وبينك، وبين نسلك من بعدك في اجيالهم، عهدا ابديا، لاكون الها لك ولنسلك من بعدك.  واعطي لك ولنسلك من بعدك ارض غربتك، كل ارض كنعان ملكا ابديا واكون إلههم” (سفر التكوين، الإصحاح 17: 8-9).

هذه العبارات “الإلهية” في كتاب التوراة أصبحت خلال 5-6 قرون الماضية ربما الأكثر تأثيراً على تاريخنا المعاصر لاستعمالها من قبل المؤمنين والمستعمرين والغزاة وغيرهم، بحرفيتها وتأويلاتها، لخدمة مصالحهم وأهدافهم المختلفة. هذه الأسطر القليلة تستعملها بعض الأمم القوية التي تتوسل نصوص الديانات الابراهيمية لتبرير إحكام سطوتها على الشعوب المستضعفة وتشريع خوض الحروب ضدها وغزوها واقتلاعها من أرضها واستبدال شعبها بشعب آخر. كذلك يعمل لها بعض المؤمنين، تحقيقاً للإرادة الإلهية وشرطاً لرجوع المسيح المخلص وإقامة مملكته الألفية على الأرض، ولو اختلفوا على دور الانسان في ذلك.

في هذه البحث سنعطي لمحة عن تبلور الوعد وموقف (الأديان والمذاهب الابراهيمية) منه وكيفية توظيفه لخدمة الأهداف السياسية لبعض الامم.

 الخلفية التاريخية للوعد الإلهي

في القرن الماضي جرى مسح أركيولوجي مكثف وكامل لفلسطين ولدهشة المؤمنين بالتوراة كمصدر تاريخي موثوق، لم يجد المنقبون أي دليل أثري يُثبت حكاية التوراة عن ترحيل العبرانيين من مصر، والتيه في سيناء(1) وغزو واحتلال أرض كنعان من شعب عبراني في العصر البرونزي (1500 – 1200 ق.م.) أو أي أثر لمملكة متحدة (يهودا والسامرة) في القرن العاشر ق.م.

المكتشفات الأثرية والوثائق التاريخية تعطينا صورة عن ثقافة كنعانية واحدة مستمرة من دون انقطاع من العصر البرونزي الأخير (1500-1200 ق.م.) إلى عصر الحديد (1200-600 ق.م.) (2)، وتخبرنا أن مملكتي يهودا والسامرة هي ممالك كنعانية وديانتها كانت استمراراً طبيعيّاً لديانة عبادة الخصب الكنعانية، والآلهة التي عُبِدَتْ كانت آلهة كنعانية تقليدية (أيشيم، بت ايل، إلخ) ويهوه (القديم) هو واحد من الآلهة وكان متزوجاً من الآلهة عشيرة الكنعانية.

بعد أن قضى القائد البابلي نبوخذ نصر في 587 ق.م. على مملكة يهوذا الكنعانية نهائياً (لتحالفها مع مصر) وسبى حوالي 10 آلاف من أهلها إلى بابل وكرّمهم في وطنهم الجديد، احتل الفرس بقيادة قورش بابل بعد 48 عاماً، أي في 539 ق.م.

قورش اتبع سياسة إعادة الاستيطان للشعوب ‘المسبية‘، التي ابتدأها آخر ملك بابلي، نابونيد، وذلك لكسب ثقة رجال الدين والنخب المحلية والمساعدة في دمجهم في النخبة الحاكمة الجديدة ليضمن استقرار حكمه ويحول دون نشوب ثورات. إعادة الاستيطان الفارسية نفذت في ثلاث حملات وشملت اثنيات مختلفة لرفض معظم أهل يهوذا الرجوع وكان آخرها في 457 ق.م. بقيادة الكاهن عزرا الكاتب الذي يعتبره الباحث فراس السواح “أبو اليهودية” في كتابه “آرام دمشق واسرائيل”. حسب السواح، عزرا أعاد صياغة الإله “يهوه” الجديد في شريعته اليهودية معتمداً على الايديولوجية الدينية الفارسية الزرادشتية المتمثلة بإله السماء الأوحد، اهراموزدا، والقوانين الفارسية لإدارة الامبراطورية، والتقاليد المحلية. كذلك يستنتج السواح أنَّ وعد ابراهيم والوعود اللاحقة “ليست إلاّ نموذجاً بدئياً للوعد الجديد الذي يقطعه إله السماء مع بقية يهوذا فيقودهم إلى الأرض الموعودة، ذاتها” وقصة استعبادهم في مصر “هي نموذج بدائي لقصة سبيهم في بابل وفرعون القديم هو نبوخذ نصر الجديد” (3).

المفاهيم اليهودية قبل الصهيونية

بعد زوال الدولة اليهودية التاريخية الوحيدة في فلسطين (لا دليل أثري على دولة يهودية قبل هذا التاريخ) خلال الفترة الخشمونية الميكابية (165-63 ق.م.)  وخروج اليهود من فلسطين (شلومو ساند مؤلف كتاب “اختراع الشعب اليهودي” يقول إن الطرد الروماني لليهود لم يحدث من الأصل) في القرن الأول بعد الميلاد، كان هناك بعض المحاولات اليهودية الضعيفة أو الخجولة في القرون الخمسة الماضية للرجوع إلى (أرض الميعاد) بدون جدوى. نذكر منها:

1.الحاخام شبطاي تسفي الذي ولد في أزمير العثمانية في 1626م وادّعى أنه المسيح المخلص في 1648 وأنه سيقود اليهود إلى أرض الميعاد فحاربه اليهود المحافظون والحاخامات الرسميون وألقت الدولة العثمانية القبض عليه وسجنته سنة 1666 بتهمة بث الفتنة وإفساد الديانة اليهودية وادّعاء النبوة وبعدها خيرته بين الإعدام أو اعتناق الإسلام، فاختار الإسلام وتبعه حوالي 300 من اتباعه الذين عرفوا فيما بعد بـ”الدونمة” (4).

2.الحاخام يهودا القالي (1798-1878). ولد في سراييفو، دعا إلى عودة اليهود إلى الأرض المقدسة وبشكل تدريجي متأن حتى يتم إعداد الأرض وتحضيرها.

3.الحاخام زيفي هيش كاليشر (1795-1874). عاش في بروسيا ونشر كتابه” البحث عن صهيون“ في عام 1862 ويتحدث فيه عن الاستيطان الزراعي في فلسطين.

4.موزس هس (1812-1875). ألماني كان مقرباً من كارل ماركس نشر كتابه” روما والقدس“. يعتبر واضع الأساس الفلسفي للصهيونية.

5.ليو بنسكر (1821-1891). روسي بولندي، مؤسس وزعيم حركة أحباء صهيون.

الجدير بالذكر أنه عندما سيطر الكاثوليك على اسبانيا في 1492م وطردوا المسلمين واليهود منها، اختار يهود اسبانيا الهجرة إلى شمال أوروبا وشمال افريقيا وليس ” العودة” إلى فلسطين (إلاَّ نسبة قليلة جداً) التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية المرحبة بهم. كذلك لم يستجب “ورثة فلسطين الشرعيين” لدعوة نابليون للقتال معه و”إعادة إنشاء مملكة القدس القديمة” خلال غزوه لفلسطين في 1799. (5)

عدم الحماس أو عدم سعي اليهود بالأحرى للعودة إلى أرض (بني إسرائيل) بكثافة لأكثر من 18 قرناً له أسبابه في المفاهيم الدينية لما يطلق عليه اليهودية “الحاخامية” أو “التقليدية” التي كانت سائدة قبل تعاظم نفود “اليهودية القومية” المتمثلة بالحركة الصهيونية في القرن العشرين.

 أهم مفاهيم اليهودية التقليدية كما يشرحها الكاتب يعقوب رابكن في كتابه “ما هي إسرائيل الحديثة” هي التالية (5):

“ان الوعد الإلهي الذي اعطي لابراهيم لا يعني بأي شكل من الاشكال ملكية إبراهيم لأرض الميعاد، وهذا يتجلى بوضوح عندما أصر إبراهيم على دفع سعر قطعة الأرض ليدفن زوجته ساره (سفر التكوين 23: 6-13). أرض الميعاد بالحقيقة تعني أن ملكيتها لا تعود لمن اعطُي الوعد له، بل لمن أعطَى الوعد”.
علاقة اليهودي بـ(أرض إسرائيل) تختلف نوعياً عن علاقة الفرنسي بفرنسا أو الروسي بروسيا. “القومية اليهودية” مختلفة عن كل القوميات الأخرى بانها قومية روحية أساسها التوراة وكل من لا يعترف بها كذلك، ينقض أسس اليهودية، حسب الحاخام جهيل يعقوب وينبرج.


(أرض إسرائيل) يمكن أن تُأخذ فقط عبر التأثير العام للأعمال الصالحة التي تتجلى ذروتها بعودة المسيح. بعكس غزو يشوع بن نون لأرض كنعان أو (عودة) البعض من بابل والتي حصلت بفعل قوى أرضية (الانسان)، العودة النهائية ستكون فقط من صنع الله.


المنفى أو الشتات في اليهودية التقليدية هي “حالة روحية غير مكتملة” أو “حالة من فقدان التواصل مع الوجود الإلهي” وليست غربة أو بعد عن (أرض إسرائيل).


حسب التلمود هنالك ثلاثة أقسام أو عهود في ليلة شتات اليهود إلى الزوايا الأربع من الأرض وهي: (ا) إن اليهود لن يعودوا كمجموعة وبالقوة إلى (أرض إسرائيل) (ب) وان لا يثوروا ضد الأمم التي استقبلتهم (ج) وان تقسم هذه الأمم على عدم اخضاعهم بشكل مفرط. الجدير بالذكر ان البعض يجادل بان هذه العهود لم تعد صالحة بعد الهولوكوست بسبب عدم تقيد المانيا النازية بالعهد الثالث منها وبذلك أُلغِيَ العهدين الأول والثاني.
المسيحية والاسلام والوعد التوراتي

في القرن الأول للمسيحية ظهر تيار بين اليهود الذين اعتنقوا المسيحية يعتقد أن “المسيح سيعود إلى هذا العالم محاطاً بالقديسين ليملك في الأرض ألف سنة ولذلك سُموا بالألفية (Millenarianism)” (6). ربما بقيت قلة على هذه المعتقد لكن موقف المسيحيين الأوائل العام لم يتأثر به وحددوا موقفهم من اليهود اجمالاً بما نظّر به أسقف مدينة هيبو (مدينة عنابة في الجزائر) في 396، القديس أوغسطين، الذي ولد في نوميديا في الجزائر في 354م واعتنق المسيحية في 386م (7).  نظرية أو مبادئ القديس أوغسطين يمكن تلخيصها بثلاث نقاط حسب الدكتور محمد السماك:

الأمة اليهودية انتهت بمجيء المسيح.


الله طرد اليهود من فلسطين عقاباً لهم على صلب المسيح.


النبوءات التي تتحدث عن عودة اليهود قد تحققت بعودتهم من بابل على يد الامبراطور الفارسي قورش. (8)
المسيحية البروتستانتية:

ظلت المعتقدات المسيحية كذلك إلى أكثر من 11 قرناً إلى أن بدأت تتغير ببروز نجم القس وعالم اللاهوت الألماني مارتن لوثر (1483- 1546)، الذي يتهم أنه من المسيحيين الألفيين، في بداية القرن السادس عشر. لوثر قاد ثورة على الكنيسة الكاثوليكية فبالإضافة إلى المطالبة بإلغاء النظام البابوي والمساواة بين رجال الدين وبين المسيحيين العاديين، طالب بالعودة إلى كتاب التوراة العبراني وإعادة قراءته بطريقة جديدة واعتماد الطقوس العبرية في الصلاة عوضاً عن الطقوس الكاثوليكية المعقدة. الكنيسة الكاثوليكية ردت على هذه المطالب بطرد لوثر من الكنيسة واعتباره مهرطقا فلجأ إلى العمل السري واستغل ازدراء الكنيسة الكاثوليكية لليهود وحاول استمالتهم لمذهبه الجديد وإعادة الاعتبار لهم فأصدر كتابه “عيسى ولد يهودياً” في 1523 الذي قال فيه “إن الروح القدس شاءت أن تُنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود، وحدهم. إن اليهود هم أبناء الرب ونحن (المسيحيين) الضيوف الغرباء وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب، التي تأكل ما يسقط من فتات مائدة أسيادها”. بعد ذلك حاول لوثر جاهداً استقطاب اليهود لحركته الإصلاحية ويُردد بأنه قال يوماً لعدد من اليهود الذين كانوا يناقشونه “… وأنا لو كنت يهودياً ورأيت كل هؤلاء الحمقى (البابوات والقسيسين وعلماء الدين) يقودون ويعلمون المسيحية فسأختار على البديهة أن أكون خنزيراً بدلاً من أن أكون مسيحيا”(9). على ما يبدو ان كل هذه الجهود ’لمسيحة‘ اليهود باءت بالفشل فغير مارتن لوثر موقفه منهم وكتب في آخر أيامه في 1544 كتاب “اليهود واكاذيبهم” أقر فيه بالفشل في استقطابهم ووصفهم بأنهم خبثاء ولصوص و‘ديدان مقززة‘ وأعلن بأن اعتناق اليهود للمسيحية لن يتم إلا عبر عودتهم لأرض فلسطين وعودة المسيح، و”إننا سنزوِّدهم بكل ما يحتاجون لرحلتهم لا لشيء إلا للتخلص منهم. إنهم عبء ثقيل علينا، وهم بلاء وجودنا”(10).

رغم تحول موقف مارتن لوثر من اليهود، فمذهبه البروتستانتي كان نقطة تحول كبيرة في نظرة المسيحية اجمالاً إلى اليهودية وأصبحت التوراة تأخذ تدريجياً أهمية كبيرة في إيمانهم (البروتستانت اعتبروا التوراة أهم من الانجيل). بعكس فرنسا التي بقيت على كاثوليكيتها، فالأمم الأخرى الانجلو-سكسونية كألمانيا وانجلترا وبعدها هولندا مالت إلى البروتستانتية، وفي 1539 خطى ملك إنجلترا، هنري الثامن، خطوة مهمة باتجاه الايمان بالتوراة بجمعه والانجيل في ‘كتاب مقدس‘ واحد وترجمته إلى اللغة الإنكليزية ووضع نسخة منه في كل كنيسة. بعد هذه الترجمة أصبح ‘الكتاب المقدس‘ بعهديه القديم والجديد أعلى مرجع للكنيسة الانجليزية وجزءاً من الثقافة الإنكليزية. حسب الكاتب والباحث الفلسطيني أحمد الدبش “أصبحت اليهودية، على مدى ثلاثة قرون، العامل القوي الوحيد المؤثِّر في الثقافة الإنجليزية،… وحل ’الكتاب المقدَّس‘ محل البابا، كسلطة روحية عليا، وحلَّت كلمة “الرب” كما هي واردة في الكتاب العبري (العهد القديم)، لإبراهيم، وموسى، ووصايا إشعيا، وإيليا، ودانيال، والمسيح، وبولس، محل الأوامر البابوية”. يستشهد الدبش بعد ذلك بما قاله أش دبليو هور (H. W. Hoare) في كتابه “تطور الكتاب المقدس الانكليزي” بانه “لم يتغلغل كتاب آخر في دماء وعروق الإنكليز، كما فعل هذه الكتاب”. وهكذا، رسَخت في أذهان البروتستانت فكرة الرابطة الأبدية بين اليهود وفلسطين، باعتبارها وطنهم القومي، الذي أٌخرجوا منه، والذي يجب أن يعودوا إليه. (11)

المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية:

الكنيسة الكاثوليكية من ناحيتها اعتمدت على العهد الجديد في تفسير العهد القديم واسفاره فارض الميعاد لم تعد تعني أرضاً جغرافية مادية، بل حقيقة روحية هي مملكة الله. هذا التفسير اعتمد على رسالة القديس بطرس للعبرانيين (11: 9-10) حيث قال “بالإيمان تغرب إبراهيم في ارض الموعد كأنها غريبة ساكنا في خيام مع اسحق ويعقوب الوارثين معه لهذا الموعد عينه لأنه كان ينتظر المدينة التي بها الاساسات التي صابغها وبارئها الله”(12). في موقف شبيه، تعتبر الكنيسة الأرثوذكسية أن المسيح “حررنا من الأرض والتراب وكل ما يتعلق بالملك فكان هو المليك والمملكة ومطرح المواعيد وغاية المواعيد”(33). الجدير بالذكر أن الكنيسة الكاثوليكية حافظت على موقفها إلى قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، ففي رسالة “الالهام الإلهي للروح” (Divine Afflante Spirita) للبابا بيوس الثاني عشر في أيلول 1943 دعا إلى ترجمة التوراة الى اللغات العامية (vernacular languages)(13) وحرض الأساقفة على “تـحبيذ ومساعدة تلك الـجمعيات التقِية التي ترغب في نشر طبعات التوراة بين الـمؤمنين، وخصوصاً نشر الأناجيل، وأن يسعوا بكل اجتهاد أن تُقرأ في العائلات الـمسيحية باستقامة وتقديس”. هذه الرسالة اعتبرها أنطون سعادة أخطر تعديل في الموقف البابوي لأنه “يُوجد تأييداً له (الشعب المختار) في محاولته الجديدة للاستيلاء على بلاد السوريين التي «وعده يهوه» أن يعطيه إياها ملكاً خاصاً به”(14). الموقف البابوي لم يقتصر على تقديس التوراة، بل برّأ اليهود من دم المسيح في 1965 ومن ثم اعترف بإسرائيل في 1994. رغم ذلك، يؤكد الفاتيكان أن الاعتراف بدولة إسرائيل يتم لاعتبارات عملية لا علاقة لها بالعقائد المسيحية (15).

الإسلام:

في القرآن هناك الكثير من الآيات التي تتحدث عن بني إسرائيل وتوريثهم الأرض. في سورة “البقرة” أطول سورة في القرآن، “تتحدث 111 آية (من أصل 286) بشكل مباشر عن قصص بني إسرائيل. كذلك الامر في بعض السور الأخرى كالمائدة والأعراف والقصص وغيرها التي تخبرنا عن بني إسرائيل.  نذكر منها:

(المائدة: 20-21)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ.

(الأعراف، 137)
“وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارقَ الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحُسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون.

(القصص: 5)

ونريد أن نَّمُنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئِمَّةً ونجعلهم الوارثين.

(الشعراء: 57-59)

ونمكن لهم في الأرض فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز، ومقام كريم، كذلك وأورثناها بني إسرائيل

(الاسراء: 104)

وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً.

رغم التأويلات والتفسيرات المختلفة لهذه الآيات يكاد يجمع الفقهاء على رفض التفسير الحرفي للآيات وبالتالي رفض الوعد الإلهي لـ‘بني إسرائيل’ في أرض كنعان. الدكتور معتز الجعبري يؤكد في تفسيره على “ضرورة النظر في القرآن الكريم بشكل كلّي، وربط الآيات بعضها ببعض دون التوقف التفصيلي عند آحادها” وبناء على ذلك يستخلص من سورة البقرة “شروط استخلاف الله لأمة من الأمم في الأرض، والقوانين الإلهية التي تحكم ذلك، ومن تلك القوانين يتبين بشكل قطعي أن الله لا يحابي أمة ولا ينحاز إلى شعب”. بعد ذلك يفسر الجعبري معنى وراثة الأرض في القرآن فيقول انها “تخليص لها (الأرض) من رجس كل طاغوت يحول بين الناس وبين معرفة الله وتوحيده، وإخراج الناس من ظلمات الشرك ودنسه إلى نور الله، … ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى؛ قال تعالى: “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” (سورة الأنبياء: 105-107). الجعبري يلخص بعد ذلك الفرق بين نظرة المسلمين ونطرة اليهود لوراثة الأرض بانه الفرق “بين رؤية بصيرة للوجود ورؤية ذاتيَّة مظلمة” كما يقول محمد علي آل عمر في كتابه “عقيدة اليهود في الوعد بفلسطين -عرض ونقد”. (16)

الدين في المشاريع التوسعية الاوروبية

رغم أن تعاليم الانجيل ليس فيه دعوات للحروب والغزو أو وراثة الأرض أو التمييز بين الشعوب، فهذا لم يمنع قادة الكنيسة عندما دعت الحاجة من استعمال الدين للدعوة إلى (الحروب الصليبية) لاسترجاع “الاراضي المقدسة” في 1095.  كذلك الامر بالنسبة للإسلام الذي دعا قبل ذلك إلى الجهاد في سبيل الله ضد ’أهل الكتاب‘ و’فَتَح‘ الأندلس في 711م (حسب الرواية الإسلامية)، بعد طرد البيزنطيين من المشرق السوري ومصر وشمال افريقيا.

إن خطبة البابا إربان الثاني في مجمع كنسي في مدينة كليرمون، جنوب فرنسا، في 27 تشرين الثاني 1095 كانت دعوة صريحة للجهاد في سبيل الله أيضاً وتعتبر الشرارة التي أشعلت فتيل حروب الافرنج ’الصليبية‘.  البابا إربان الثاني أشار إلى تدنيس الأماكن المقدسة وتهديد حجاج بيت المقدس المسيحيين وخاطب “شعب الله المحبوب المختار” قائلاً: “انتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث (المسلمين) وتملّكوها أنتم” ومنح الغفران “لكل من يذهب بمقتضى السلطة التي أعطاني الرب إياها”، ووعدهم “بأنكم ستنالون مجداً لا يفنى في ملكوت السموات”. هذه الإغراءات الأخروية لم تجعل البابا يغفل عن الإغراءات الدنيوية فاستعمل ما ذكرته التوراة عن فلسطين “ووهبنا هذه الأراضي التي تفيض لبناً وعسلاً” وعقب بان أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، “بل هي فردوس المباهج”، ووعد بإعفاء المديون من ديونه والمجرم من العقاب إذا شاركوا بالحملة. الاستجابة لهذه الخطبة والانخراط في الحملات كان كبيراً من عامة الشعب وخاصة الفقراء لأسباب اقتصادية واجتماعية جمة. إن معاملة الفقراء الفظة من النظام الاقطاعي السائد في ذلك الوقت والمجاعات التي حصلت، بالإضافة إلى الكوارث الطبيعية، ولا سيما في شمال فرنسا وغرب المانيا، جعلت الأقنان والفلاحين يتطلعون إلى اغراءات البابا في أرض اللبن والعسل كفرصة ذهبية للتخلص من أوضاعهم المزرية. من ناحية أخرى، كان نفوذ المدن الساحلية الإيطالية قد ازداد في القرن العاشر وأصبح لها اساطيلها التجارية وهيمنت على البحر الادرياتيكي وايجه وشكلت مدن المشرق المنافسة الأهم للهيمنة على تجارة البحر المتوسط. الأثرياء والتجار وخاصة تجار مدن السواحل الإيطالية، وجدوا في هذه الغزو فرصة مهمة للقضاء على هذه المنافسة وفتح أسواق جديدة لهم فدعموا ومولوا كل الحملات. (17)

بناء على ما تقدم، فإن الدوافع الاقتصادية والاجتماعية لهذا الغزو الافرنجي للمشرق كانت محورية، حيث تم استثمار وبنجاح كبير البعد الديني كمطية لتحقيق أهداف القوى المسيطرة من رجال دين واقطاع وتجار، رغم عدم وجود أي نص ديني في الإنجيل يدعو إلى أرض ميعاد مقدسة أو ما شابه.

على المدى البعيد، شكل هذا الغزو “نقطة انطلاق أوروبا نحو التوسع والإصرار على بسط سيطرتها على الخارج”(18) وبرز ذلك بعد عدة قرون في الغزو الأوروبي للقارة الجديدة التي ’اكتشفها‘ كريستوفر كولومبوس في 1492. الدوافع الاقتصادية التوسعية والاستعمارية لم تختلف في هذه الغزوة الجديدة لكن التبرير الديني هذه المرة وجد ضالته في كتاب التوراة الذي كان قد جمع مع الانجيل في ’الكتاب المقدس‘ وترجم الى الإنكليزية في 1539 كما ذكرنا. وليام برادفورد، أحد زعماء الكنيسة المنشقة عن البيورتانيين (Puritans)، لم يتردد في عام 1620 في قول إن “أمريكا هي أرض ميعادنا”(19) قبل أن تبحر سفينته لينشئوا مستوطنة بليموث في ولاية ماساتشوستس والتي اعتبرت فيما بعد بالمستوطنة المؤسسة لأميركا. هؤلاء المستوطنين اعتبروا أنفسهم ’العبرانيين القدماء‘ وشبهوا رحلتهم إلى أمريكا بخروج بني إسرائيل من مصر إلى الأرض المقدسة وعودة بني إسرائيل من الأسر البابلي إلى فلسطين. كذلك برروا الغزوات والحروب وحملات الإبادة ضد السكان الأصليين بأنها شبيهة بغزو بني إسرائيل لبلاد كنعان وتطبيق وصية توراتية حرفية، ” وإذا سلم ’يهوه‘ تلك الأرض بين يديك، فعليك أن تضرب كل رجالها بحد السيف ونسائها وأطفالها وماشيتها وكل شيء في المدينة، وتأخذ كل غنائمها لنفسك وغنيمة أعدائك اعطاك الله إياها”.

الترجمة السياسية للوعد الإلهي في أرض كنعان

إن اعتبار اميركا أنها أرض الميعاد عند المستوطنين الانجليز وكنيستهم المنشقة عن البيورتانيين، لم يؤثر على إيمان الكنائس الاوروبية البروتستانتية بالعهد القديم ووجهة أرض كنعان للوعد الإلهي. هذا الإيمان بدأت نتائجه تظهر تدريجياً من خلال الدعوات والنشاطات لترجمته سياسياً منذ نهاية القرن السادس. نذكر من هذه الدعوات:

عام 1588، دعا اللاهوتي توماس برايتمان في كتابه “القيامة، القيامة” إلى إعادة اليهود لأن “الله يريد عودة اليهود الى فلسطين لعبادته حيث يفضل ان يعبد من هذا المكان”(8).
عام 1621 نشر “السير هنري فنش”، البرلماني والمستشار القانوني لملك إنكلترا، دراسته حول “الاستعادة الكبرى للعالم” ودعا فيها إلى استعادة “امبراطورية الامة اليهودية”. كذلك قال في كتاب له “ليس اليهود قلة مبعثرة، بل إنهم أمة، ستعود الى وطنها، وستعمر كل زوايا الأرض، وسيعيش اليهود بسلام في وطنهم الى الأبد” (6).
عام 1649 “وجه لاهوتيان (بيوريتانيان) بريطانيان، جوانا وألينزر كارترايت، من هولندا (التي قامت على المبادئ البروتستانتية في 1609 بعد طرد الكاثوليك) نداء إلى الحكومة البريطانية يطلبان فيها بإعادة اليهود لإنكلترا وذلك ليصبح تشتيتهم كاملاً في كل بقاع الأرض (اكتمال التشتيت شرط لعودتهم حسب معتقداتهم) وأن يكون لبريطانيا بعد ذلك شرف نقلهم على بواخرها إلى فلسطين تحقيقاً للإرادة الإلهية (20).
أوليفر كرومويل، رئيس المحفل البوريتاني، الذي ألغى النظام الملكي واستولى على الحكم وأعلن إنجلترا جمهورية ونفسه “حامي الله”، ألغى في مؤتمر في 1655 قانون نفي اليهود (الذي أصدره الملك إدوارد الأول في 1290) وأقر عودتهم إلى إنجلترا بسبب “نفعهم وإمكانية استخدامهم كجواسيس له”(20).


تم تأسيس عدة جمعيات مسيحية تبشيرية في بريطانيا مهمتها الترويج للمسيحية بين اليهود وهدايتهم واقناعهم بالرجوع إلى فلسطين ‘اعدادا للخلاص‘ ومنها “جمعية لندن” بإدارة القس لويس واي في 1809 و”جمعية التبشير الكنسية” في 1799 التي انتشرت بشكل واسع في منتصف القرن 19 واصبحت منبراً أساسياً للمسيحيين “الصهاينة” أمثال امير شافتسبوري السابع (Anthony Ashley-Cooper)(20). شافتسبوري اعتبر أن اليهود هم الأمل في العودة الثانية للمسيح بعودتهم إلى فلسطين وهو أول من أطلق دعوة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” وكان مؤثراً جداً على السياسة البريطانية من خلال قربته العائلية مع هنري لورد بالمرتسون، وزير الخارجية ورئيس الوزراء في ما بعد، واعتباره شخص موثوق (Confident) عند الملكة (22).


أسس المبشر الارلندي، القس جون نلسون داربي (1801-1882) حركة مسيحية صهيونية سميت بـ”التدبيري” (dispansationalism) وأهم عقائدها أن إسرائيل كانت مملكة الله على الأرض وأن المجيئ الثاني للمسيح لن يتم إلاَّ بعد رجوع كامل ‘أرض إسرائيل‘ إلى اليهود. هذا المعتقد لاقى شعبية كبيرة بين البروتستانت في إنكلترا والولايات المتحدة (5).


الفلاسفة الالمان تأثروا بالتوراة أيضاً فإيمانويل كانت (1762-1804) اعتبر أن اليهود “هم فلسطينيون يعيشون بيننا” وجوهان فيشت (1762-1814) دعا إلى “السيطرة على الأرض المقدسة وارسال جميعهم (اليهود) إليها” (5).


التأثير التوراتي لم يقتصر على الضفة الشرقية من الاطلسي بل تعداه إلى المستوطنين البروتستانت في الضفة الغربية الأميركية، فكل رؤساء أميركا الأوائل كانوا من المؤمنين بالعهد القديم وعلى رأسهم جورج واشنطن، أول رئيس أميركي، الذي أعرب عن أمله في أن ينعم ‘الرب يهوه‘على الولايات المتحدة “بالبركات الدنيوية والروحية كما أنعم على شعبه” وكما “زرعهم في أرض الميعاد وسقاهم من السماء” (21).


هذه الدعوات والحركات بدأت تشق طريقها إلى الاستراتيجية الإنجليزية الاستعمارية في القرن التاسع عشر، فبين 1831-1841 ولدت عملياً فكرة الدولة اليهودية على يد وزير خارجيتها (ورئيس وزرائها في ما بعد) لورد هنري بالمرستون (Lord Henry Palmertson، 1784-1865). مع أن بالمرتسون لم يكن يأخذ الاعتبارات الدينية في سياسته، فهو الذي حول طموح وجهد الانجيليين إلى برنامج جيو-سياسي ربط به اليهود بالمصالح البريطانية في الشرق الأوسط، عبر مشروع متكامل لـ‘حماية اليهود‘ قدّمه إلى الملكة فيكتوريا. أهم المنافع التي صاغها بالمرتسون هي الحد من النفوذ الروسي والفرنسي في سوريا وابعاد محمد علي باشا المصري عنها (محمد باشا غزا سوريا في 1932). خلال هذه الفترة أيضاً اتخذت عدة خطوات عملية في هذه الاتجاه، ففي 1939 تم انشاء أول قنصلية انجليزية في القدس وتعيين قس بروتستانتي نائباً للقنصل وفي 1844 أسس البرلمان الانجليزي لجنة “إعادة أُمة اليهود الى فلسطين” وفي 1845 بدأ العمل بـ”المكتب الاستعماري” الذي وضع الخطط الأولية لإقامة مستعمرة يهودية في فلسطين لتصبح دولة عبرية مستقلة في ما بعد، وهذه الخطط شملت طرد السكان المحليين لخلق أماكن إقامة للمهاجرين الجدد (5).

هذه الجهود استمرت بعد عقدين في إنجلترا، ففي 1865 تم تأسيس “صندوق استكشاف فلسطين” في لندن برعاية الملكة فكتوريا وبرئاسة رئيس أساقفة كانتربري لتمويل البعثات الاستكشافية التي وضعت الخطط للتمهيد للاستيطان. أهم هذه الخطط هي الخطة التي وضعها لورنس أوليفنت، عضو البرلمان البريطاني ووزير الخارجية، في 1880 في كتابه “أرض جلعاد” الذي اقترح إقامة مستوطنة يهودية شرق الأردن، تكون تحت السيادة العثمانية والحماية البريطانية، ويهاجر إليها يهود روسيا ورومانيا. أما بالنسبة لسكان هذه المنطقة من العرب فيتم تجميعهم في منطقة خاصة بهم كما جرى للهنود الحمر في اميركا. هذه التحركات وصلت إلى ذروتها في مؤتمر 1907 الذي دعا إليه “كامبل بنرمان”، رئيس وزراء بريطانيا، وحضرته سبع دول أوروبية وقُرر فيه زرع ’جسم غريب‘ في العالم العربي يكون ولاؤه للغرب ويفصل المشرق عن المغرب، وذلك ليفقد ’التوازن‘ ويمنع قيام أي نهضة فيه (23).

بهذه الترجمة السياسية للوعد الإلهي تكون مصالح رجال السياسة قد التقت مع مصالح رجال الدين وولدت الصهيونية من رحم الامبريالية البريطانية (24)، وذلك قبل وعد بلفور وقبل ان يكون لهرتزل (1860-1904) ولحركته “الصهيونية اليهودية” أي تأثير يذكر.

الحركة الصهيونية     

الثورة الفرنسية (1789-1794)، التي الغت النظام الملكي وسيطرة الكنيسة واقرت فصل الدين عن الدولة والمساواة بين كل المواطنين وحرية التعبير، أدت إلى تحول أوروبا الغربية والوسطى بشكل جذري إلى الوعي القومي والتحرر، بينما حافظت أوروبا الشرقية وخاصة روسيا على مركزية الدولة والحكم الدكتاتوري. الكثير من اليهود في أوروبا الغربية والوسطى اندمجوا في المجتمع فبالإضافة إلى دورهم الوظيفي التقليدي في العمل في التجارة واقراض النقود والربا، تمكنوا بعد التحرر من العمل كموظفين وامتلاك الأراضي والدخول في القوات المسلحة والعيش خارج الغيتو بين غير اليهود. رغم النجاحات الاقتصادية وجني الثروات، لم يشعر الكثير من اليهود الغير-متدينين (علمانيين) الذين اندمجوا بأنهم مقبولين من البيئة الغير-يهودية واعتبروا أنه لا يمكن قبول اليهود كأعضاء كاملين في دولة غير يهودية، وبدلاً من ذلك يجب عليهم تنمية هويتهم الخاصة وإنشاء وطن قومي لهم.(25)

في أوروبا الشرقية، لم يكن النقاش حول المواطنة والحقوق الفردية وحل الهويات العرقية، بل حول مركزية الدولة ودمج اليهود والأقليات الأخرى كمجموعات في الدولة والمؤسسات التعليمية الحكومية. الإمبراطورية الروسية مثلاً كانت مليئة بالمجموعات العرقية التي تعتبر نفسها كيانات متميزة والاعتقاد السائد آنذاك بأن اليهود يمكن أن يكونوا معاصرين تماماً وأن يحافظوا على هوياتهم العرقية ومؤسساتهم الخاصة وأن يتوافقوا مع الاتجاهات القومية الأوسع في روسيا. هذه الثقة في اندماج اليهود اهتزت في عام 1881 بعد اغتيال القيصر ألكسندر الثاني، الذي كان قد الغي الكثير من القوانين المعادية لـ‘السامية‘، وأدت إلى اندلاع المذابح وتراجع القيصر الجديد ألكسندر الثالث في ما بعد عن هذه القوانين. لويد غارتنر، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، في كتابه “الهجرة اليهودية الكبرى 1800-1903: حقائق وخرافات” لا يرى أن هذه المذابح هي السبب الأهم في هجرة اليهود الكثيفة من اوروبا الشرقية إلى أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، بل إن زيادة عدد اليهود من 1.25 الى 6.25 مليون! بين 1800 و1900 “التي ليس لها شرح مقنع” وعدم نمو اقتصاد روسيا وشرق أوروبا لدعم هذا النمو السكاني واعتماد اليهود على التجارة هي من أهم العوامل (26).  خلال هذه الفترة ظهر عدد كبير من القوميات العرقية فاستغل بعض اليهود معاداة السامية والمذابح فزادوا دعواتهم إلى وطن خاص بهم لكي يكون لهم ’شخصيتهم الثقافية والسياسية‘. تبلور هذا التفكير بشكل خاص في عمل ليون بينسكر البولوني في نص عام 1882 بعنوان “Auto-emancipation”(25).

بينسكر الذي ايد الاندماج في بداية حياته، أسس أول حركات الاستيطان اليهودية باسم “أحباء صهيون” في 1882. هذه الحركة وصلت إلى أحد أهدافها في الحد من اندماج اليهود في مجتمعات الدول لكنها فشلت نسبياً في تنظيم عودة مكثفة إلى ‘صهيون‘ إذ لم تستطع إلاَّ تهجير 20- 30 ألف بين 1882 و1903 إلى فلسطين، في الوقت الذي هاجر فيه أكثر من نصف مليون يهودي من شرق أوروبا إلى الولايات المتحدة، بالإضافة إلى مئات الآلاف إلى أنحاء مختلفة من أوروبا الغربية. أهم أسباب فشلها هو أن معظم الهجرة كانت لأسباب اقتصادية وليس دينية، وسياسة. الاعتماد على الموارد الذاتية المالية الغير-كافية، وعدم التماهي مع الأهداف الغربية الاستعمارية.

التجربة الاستيطانية الثانية كانت تجربة الحركة الصهيونية التي أسسها الصحافي النمساوي ثيودور هرتزل (1860-1904) في 1997 بعد عام من صدور كتابه “الدولة اليهودية” الذي توقع فيه أن اليهود الأغنياء فقط سينجحون في الاندماج في أوروبا(27).

أهداف الحركة تلخص بما يلي (5):

تحويل الشتات اليهودي في العالم إلى هوية قومية واحدة شبيهة بالقوميات الأوروبية الأخرى.
تكوين لغة عامية وطنية مستمدة من اللغة التوراتية العبرية.
تهجير اليهود من بلد الولادة إلى فلسطين.
الذي ميز هرتزل عن غيره هو اقتناعه بأن نجاح حركته مرتبط بتماهي أهداف هذه الحركة من الامبريالية الغربية الاستعمارية. لقد أدرك هرتزل أن الامبريالية الغربية وحدها يمكنها أن تنقلهم خارج أوروبا وتؤمن لهم الحماية بعد توظيفهم في مشروعها الاستعماري (28). بريطانيا والغرب اجمالاً وجدوا أيضاً في هرتزل وحركته الحلقة ‘اليهودية‘ الضائعة من مشروعهم فتلقفوه وقدموا له الدعم في كل المجالات. الجدير بالذكر أن محاولات اقناع اليهود بالهجرة إلى أرض الميعاد بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر ففي 1841. كتب أحد أنصار الصهيونية المسيحية، تشارلز ه. تشرشل، رسالة إلى المجلس اليهودي في لندن قال فيها “ان استعادة اليهود لوجودهم كشعب في فلسطين امر ميسور اذا توافر عاملان اثنان: أولهما ان يتولى اليهود انفسهم وبالإجماع طرح موضوع العودة على الصعيد العالمي، وثانيهما ان تبادر القوى الأوروبية الى دعمهم تحقيقا لذلك”(29).

الجهود البريطانية استمرت عبر البعثات الاستكشافية والدراسات الاستيطانية والسعي لدى السلطان العثماني لتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين. أحد الذين لعبوا دوراً مهماً في هذه المجال هو ملحق السفارة البريطانية في فيينا، القس وليم هشلر، الذي نظم مؤتمراً مسيحياً في فيينا في 1882 لتنظيم هجرة اليهود الروس إلى فلسطين ومن ثم كتب كتاب “عودة اليهود الى فلسطين” في 1894 الذي ركز فيه على ما تعنيه هذه الهجرة من تحقيق للنبوءات التوراتية. الدور الأهم الذي لعبه هشلر هو علاقته “الفضولية” بهرتزل التي وُصفت كعلاقة “نبي” ألهم “أمير” في مشروعه لخلاص اليهود (5). هشلر رافق هرتزل على طول الطريق من البداية إلى النهاية ولولا مساعدة هشلر له وخاصة في البداية وتأمين اتصالات ولقاءات له مع قادة أوروبا لكان هرتزل تخلى عن مشروعه حسب نائب حاكم القدس ومدون سيرة هرتزل في الستينات من القرن الماضي، اندريه شوروكوي(5). الذي ساعد هرتزل أيضاً هو تزامن تأسيس الحركة الصهيونية مع هجرة اليهود (الاقتصادية) الكثيفة من أوروبا الشرقية إلى بريطانيا وأميركا التي لم يرتح لها الإنكليز خاصة فالتقت حاجة الغرب ويهود الغرب البرجوازيين للتخلص من مهاجري يهود أوروبا الشرقية “الاجلاف غير المتحضرين” حسب ما وصفهم هرتزل.

الحماس والدعم الأوروبي للحركة الصهيونية لم يلق اقبالاً يهودياً كبيرا وخاصة بين الجماعات الدينية، رغم استغلال المجازر والموجة المعادية لليهود (Judeophobia كما وصفها بينسكر) في أوروبا الشرقية ودعوة النخبة اليهودية الغير-متدينة ومنهم هرتزل في وسط وغرب اوروبا لوطن قومي يهودي.  الحركة الإصلاحية اليهودية (النيولوج) التي بدأت في ألمانيا في العام 1840 وطالبت باندماج الأقليات اليهودية كلياً في ألمانيا، بما يشمل تغيير لغة العبادة من العبرية إلى لغة البلد، وحذف كلمة “القدس” من كل الصلوات، رفضوا الصهيونية لانهم لم ينظروا الى اليهود كقومية وشعب وإنما كأقلية دينية. يذكر الباحث “يونس عبد الحميد” أن حركة الإصلاحيين قد شكَّلت أكبر عقبة منظمة في طرق الصهيونية، كونها أوسع الفئات اليهودية نفوذا في الولايات المتحدة الأميركية والغرب (30).

هذا الموقف من الصهيونية لم يختلف كثيراً عن موقف “الاتقياء” (الحريديم) الأرثوذكس، اتباع الحاخامية اليهودية التقليدية التي كانت أقوى التيارات اليهودية لقرون وحتى بداية القرن العشرين. هذا التيار الذي يعتبر أن علاقة اليهود بأرض الميعاد روحية وعودتهم إليها وخلاصهم لا يتمان إلاَّ بعد عودة المسيح (الماشيح)، رفض بشكل قاطع اسراع الانسان في هذا الخلاص واعتبر أن أية محاولة بشرية لإنشاء مملكة يهودية إنما هي شذوذ وخيانة لمعنى الوعد. الجدير بالذكر أن هؤلاء الحاخاميين اجبروا “هرتزل” في عام 1897 على تغيير مكان المؤتمر الصهيوني الأول من “ميونخ” إلى “بازل”، وأصدروا بياناً مناهضاً للصهيونية عقب المؤتمر (30).

الهجرة اليهودية ودور النازية

بين تأسيس الحركة الصهيونية في 1896 وبداية الحرب العالمية الأولى هاجر إلى فلسطين حوالي 40 ألفاً من روسيا ورومانيا وبضعة آلاف من اليمن ليصبح عدد اليهود في فلسطين قبل الحرب 85 ألفاً، ومن ثم تناقص إلى 55 ألفاً في 1919 عند نهاية الحرب واحتلال بريطانيا لفلسطين.

’الانتداب‘ البريطاني وضع نظاماً للهجرة وعدله عدة مرات وفقاً للظروف لتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين. كذلك عمدت الولايات المتحدة بعد العام 1921 لوضع قيود على هجرة اليهود إليها وتشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين، فقلّ عدد اليهود المهاجرين إلى الولايات المتحدة من 120 ألف مهاجر في 1921 تدريجياً إلى 10 آلاف في 1925. سياسة خفض التأشيرات لليهود استمرت من قبل اميركا وبريطانيا وكندا ووصلت في اميركا في سنوات الاضطهاد النازي بين 1931 و1936 الى معدل 4 آلاف سنوياَ. رغم ذلك فالهجرة اليهودية بين 1919 و1932 لم تتعد 124 الفاَ (8-9 آلاف سنوياً). باختصار، الهجرة إلى فلسطين بين 1900 و1932 وصلت تقريباً إلى 180 ألف مهاجر، وهو رقم أقل بكثير مما كانت تطمح له الحركة الصهيونية.

بعد السيطرة النازية على الحكم في المانيا في 1933 وقيود الدول ’الانجلو-سكسونية‘ على هجرة اليهود إليها، ازدادت هجرتهم إلى فلسطين ووصلت الى 215 ألفاً بين 1933 و1939. الذي ساعد على ذلك أيضاً بشكل كبير هو “اتفاقية هعفراه” (إتفاقية النقل) بين المانية النازية والاتحاد الألماني الصهيوني في آب 1933 التي أدت إلى هجرة حوالي 60 ألف الماني على الأقل. الأهم من الهجرة هو تمكُن الصهاينة بموجب هذا الاتفاق من” إخراج حوالي 32 ألف مليون جنيه استرليني، أو ما يعادل عشرة أضعاف ما جمعته الجباية اليهودية حتى ذلك الوقت” (31) من المانيا إلى فلسطين وتدعيم الوجود الصهيوني فيها.

خلال فترة الحرب العالمية الثانية وبعدها بين 1939 و1948 استمرت الهجرة اليهودية الشرعية وغير الشرعية وازداد اقبال اليهود على الهجرة بسبب الاضطهاد النازي ومجازر الهولوكوست. القوات الأميركية ساهمت في نقلهم من البلدان التي إحتلتها المانيا ولعب الاسطول البريطاني دوراً محورياً في حماية الهجرة ’الغير-شرعية‘ وتامين وصولهم إلى فلسطين. كل هذه أدى إلى هجرة حوالي 200 ألف ليصل عدد اليهود في فلسطين في 1948 إلى 615 الف يهودي، أي ثلث سكان فلسطين في ذلك الوقت.

اللافت أن الهجرة اليهودية بين 1900 و1931 لم تتعد 180 ألفاً، بينما وصلت في الفترة النازية وخلال وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية بين 1933 و1948 إلى أكثر من 400 ألف. هذه الأرقام جعلت الباحث جلبير الأشقر يعتبر في كتابه “العرب والمحرقة النازية” ان استيلاء النازيين على الحكم “كان العامل الحاسم الذي… سمح بتحقيق المشروع الصهيوني” وأن “دولة اليهود إنما تدين بقيامها إلى المحرقة” واعتبر أميركا وبريطانيا “متواطئين على الأقل في الإبادة” إذ كانوا بوضع بسمح لهم بتوفير ملاذ آمن للاجئين اليهود ولم يفعلوا (32). من ناحية أخرى، هذه الأرقام تدل أيضاً انه على رغم تنامي قوة الحركة الصهيونية وتماهيها مع مصالح بريطانيا الاستعمارية، والعمل البريطاني والأميركي لإقامة دولة يهودية في فلسطين، وانتداب بريطانيا وتسهيلها وتنظيمها الهجرة إليها، لم يتجاوب اليهود بشكل كبير على أساس ديني مع الدعوة للهجرة إلى فلسطين وظلت وجهة يهود شرق اوروبا المفضلة هي غرب أوروبا وشمال أميركا. إن العامل الأمني والاقتصادي وليس الديني كان الدافع الأساسي لاختيار مكان الهجرة، ولولا القيود التي وضعها الحلفاء لمنع هجرة اليهود الكثيفة إلى بلدانهم وتسهيلهم نقل اللاجئين وتنظيمهم في فلسطين لما كانوا توجهوا إلى (أرض الميعاد).        
الخطة المعاكسة

الوعد الإلهي في أرض كنعان قد يكون من أهم الوعود في التاريخ التي كان لها تأثيراً سلبياً كبيراً على حياة شعوب المشرق السوراقي والعالم العربي في 5-6 قرون الماضية. مع أننا نعي تماماً العامل السياسي الاستعماري الأساسي في صراعنا على فلسطين، فلا يـمكننا أن نتجاهل خطورة الوعد ودوره وتأثيره على الراي العام العالمي وخاصة المؤمن منه، عبر قدسيته عند اليهود وإيمان معظم المسيحيين الغربيين به ووجود آيات قرآنية تدعم وراثة بني إسرائيل لأرض كنعان. إن القبول وصولاً الى “التقديس” عند المؤمنين لهذه النصوص ينتج عنه قبولاً للدولة الصهيونية، وتبريراً لإرهابها الذي يحصل أو قد يحصل ضدنا، نحن ورثة شعب كنعان، على انه تحقيق ’للإرادة الإلهية‘.

لذلك يجب مواجهة هذا النص عبر السعي لابراز حقيقة بان المسيح لم يأت ليكمل ما سبقه عليه “اسلافه” العبرانيين بل ليصححه عبر رسالة خير ومحبة لكل البشرية، ليس فيها شعب مختار ولا أرض موعودة، ولهذا لا يصح ربط الانجيل بالتوراة. من ناحية أخرى، لا يجب اعتماد الكتب المقدسة كمصدر تاريخي وذلك لنقض الآثار المكتشفة لادعاء التوراة بغزو ’العبرانيين‘ لبلاد كنعان وإنشاء المملكة المتحدة وغيرها، التي تنسف الوهية الوعد وترجح، كما استنتج الباحث فراس السواح، بانه من صاغه هو عزرا الكاهن “أبو اليهودية”.

الأخطر من تأثير الوعد على الراي العام هو بقاؤه نصاً غب الطلب وإمكانية استعماله حرفياً او تأويله لما يتناسب مع مصالح الدول المستعمرة ولتبرير أي عدوان على فلسطين وسوراقيا والعالم العربي بشكل عام.

في هذه البحث بيّنا محورية المشروع السياسي الاستعماري وكيفية توظيف الوعد والدين بشكل عام في مشروع الكيان الصهيوني في فلسطين. في ما يلي سنلخص النقاط الأساسية وكيفية مواجهتها:

أولاً، عند وجود المشروع السياسي الاستعماري، ليس المخططون دائماً بحاجة إلى وجود نص ديني لتبرير قدسية عملهم لاتباعهم. عندما قامت الكنيسة الكاثوليكية بالعدوان على سوريا بما يسمى بالحروب الصليبية في 1095، خلقوا المبررات كاستعادة الأراضي المقدسة رغم خلو الانجيل (قبل جمع التوراة والانجيل في كتاب واحد) من أي نص يقول بملكية الأرض او وجوب استعادتها. كذلك فالمشروع الاستعماري يمكن ان يبدل النص الديني لخدمة مشروعه. هذه حصل عندما اجتاح الأوروبيون البروتستانت اميركا فاعتبروا ان الأرض الجديدة هي أرض الميعاد وسكانها هم الكنعانيون واستعملوا ما جاء في التوراة لتبرير ابادتهم لشعوب الأرض الجديدة التي ليس لها أي علاقة بالعهد القديم من الكتاب المقدس.

ثانياً، بعد خروج اليهود من فلسطين في القرن الأول ميلادي، كان هناك بعض المحاولات اليهودية الخجولة للرجوع إليها بدون جدوى وذلك بسبب سيطرة اليهودية الحاخامية، التي تؤمن بان العودة النهائية تكون فقط من صنع الله وليس البشر، على التفكير الديني اليهودي. استمر هذه الايمان عند الأكثرية من اليهود الى أكثر من 18 قرناً، أي إلى حوالي ثلاثة عقود بعد تأسيس الحركة الصهيونية، التي لم تحقق نجاحات كبيرة في اقناع اليهود ’بالعودة‘ الى فلسطين (فضلوا الهجرة الى أوروبا الغربية وأميركا) اإاَّ بعد بروز النازية والهولوكوست.  ان ’بقايا‘ اليهودية الحاخامية ما زالت موجودة إلى اليوم، ممثلة بحركة “ناطوري كارتا” (يقولون ان عددهم يصل إلى المليون) التي ترفض دولة إسرائيل وتعتبر أن المساع البشرية لإقامتها هي معادية لمشيئة الرب و”المسيح” فقط يستطيع أن يقيم هكذا دولة. إن نمو هذا التيار بين اليهود ونمو اليهود الآخرين المعادين لإسرائيل ولو لأسباب مختلفة وبدرجات متفاوتة سيشكل عاملاً مساعداً على محاربة المشروع الصهيوني.

ثالثاً، المسيحيون البروتستانت الذين شرّعوا الايمان بالتوراة كجزء لا يقل أهمية عن الإنجيل في الكتاب المقدس واعتمد الانجيليين منهم على النص الحرفي للوعد الإلهي، سعوا إما لتحويل اليهود إلى المسيحية في اوروبا أو التخلص منهم ’وهدايتهم‘ للعودة إلى فلسطين اعداداً للخلاص وعودة المسيح وانشاء مملكته الالفية. الانجيليون أو ما يعرف بالمسيحيين الصهاينة سعوا منذ القرن السابع وعلى مدى عدة قرون من خلال كتابتهم ونشاطاتهم الاجتماعية وعلاقاتهم السياسية، كما شرحنا بالتفصيل، إلى تبني مشروع نقل اليهود الى فلسطين حتى لاقى هذا المشروع آذاناً سياسية صاغية في منتصف القرن التاسع عشر. إن ثقل المسيحيين الصهاينة انتقل اليوم إلى اميركا التي يقدر عددهم فيها بـ 40 مليون ويلعبون دوراً فاعلاً في سياسة اميركا الداعمة والحاضنة لإسرائيل. إن مواجهة الكيان الصهيوني ستكون واقفة على رجل واحدة إذا لم تشمل مواجهة هذه التيار الديني المتصهين في أميركا وكندا وبريطانيا وكل المغتربات.

رابعاً، إن المشروع الاستعماري البريطاني، الذي وجد ضرورة لإقامة دولة موالية للغرب تقطع أوصال العالم العربي وتمنع نهضته، كان العامل الأساسي الأهم في انشاء الكيان الإسرائيلي. المشروع تبلور من منتصف القرن التاسع عشر واكتمل في مؤتمر “كامبل بنرمان” ووعد بلفور، ولا شك انه تأثر بالدعوى الدينية الإنجيلية وبنى على الوعد الالهي وسخرها لخدمته. كذلك لم يغفل المشروع العامل البشري اليهودي الأساسي له فرعى ودعم ووظف الحركة الصهيونية بكل الوسائل. اميركا اليوم مع مسيحييها الصهاينة الحاكمين هي الوريثة لهذا المشروع وسياستها الشرق أوسطية محورها وهدفها حماية وشرعنة إسرائيل العنصرية ولذلك مواجهتها وكسر قُطْبِيّتها الأحادية على العالم ضرورة قومية.

خامساً، الحركة الصهيونية او الحركة القومية اليهودية، التي اعتمدت على التفسير الحرفي للوعد الإلهي، أصبحت تمثل معظم اليهود اليوم بعد أن كانت حركة هامشية في بداية القرن العشرين. لم يكن ليكتب لهذه الحركة النجاح لولا تماهيها الكامل مع المشروع الاستعماري البريطاني واستغلالها لأوضاع اليهود الاقتصادية في شرق أوروبا وللاضطهاد الذي عانوه خلال الفترة النازية والحرب العالمية الثانية. إن هذه الحركة لم تتردد من الاتفاق مع النازية (عدوة اليهود) لكي تنقل بعض اليهود الى فلسطين وتجمع الأموال، ولم تتردد في إرهاب وقتل اليهود في الدول العربية لكي تنقلهم الى إسرائيل، ولا تتردد اليوم في اتهام كل من يتصدى لها بمعاداة اليهود (معاداة السامية). هذه الحركة من أهم غاياتها أن تكون حركة اليهود العامة والناطقة باسمهم، ولذلك فوجود يهود، لأسباب دينية او علمانية او إنسانية حقوقية، يرفضون الدولة اليهودية لا يتناسب مع أهدافها. إن مواجهة هذه الحركة وتعريتها وعزلها والفصل بينها وبين اليهودية يصب في مصلحتنا القومية.

لقد كتب لهذا المشرق السوراقي بعد سقوط بابل في 539 ق.م. أن ينتقل من غزو إلى غزو ومن فتح إلى فتح. بعد أكثر من ألف سنة استطاع أن يلتقط أنفاسه لفترة قصيرة، خلال الفترة الاموية والعباسية، لكن ما لبثت أن دنست أراضيه جيوش الفاتحين بعد ذلك فعاثت دماراً وفساداً ورجعية وانتقلنا من احتلال إلى انتداب ومن ثم تمزيق وتقسيم ووصاية، واستيطان يتغذى من “وعد إلهي”. إننا امة تعيش اليوم بين الحياة والموت ويمثل الكيان الاستيطاني أهم وأخطر أعمدة الموت المحدقة بنا. إن الدفاع عن أنفسنا ومواجهة هذا الكيان، الذي تُسخر أهم الدول الكبرى اليوم لحمايته واحتضانه وتشريعه، لا تكون بالعواطف والشعارات، بل بخطة متنورة، أساسها الحقيقة والمعرفة والتأقلم مع المتغيرات لخدمة المصلحة القومية وشرعها العقل والحكمة وتُخاض على كل الصعد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإعلامية وغيرها وفي كل الساحات في الوطن وعبر الحدود، إذا أردنا فعلاً أن لا يكون القبر مكاناً لنا على وجه هذه الأرض.

المصادر:(كتب وروابط ألكترونيّة)

(1)       Bible, as History, flunks New Archeology Tests;

          http://www.nytimes.com/2000/07/29/arts/bible-history-flunks-new-archaeological-tests-hotly-debated-studies-cast-doubt.html

(2)       ـتأسيس اليهودية السياسي – راجي سعد;

          https://www.ssnp.info/index.php?article=123039

(3)        كتاب “آرام دمشق واسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي”، ص 286  -فراس السواح

(4)        شبطاي تسفي – Sabbatai Zevi
https://www.marefa.org/%D8%B4%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D9%8A_%D8%AA%D8%B3%DA%A4%D9%8A

(5)        “What is Modern Day Israel” Yakov M. Rabkin

(6)        ارض الميعاد والصهيونية الحديثة – ارثوذكس – أرض الميعاد
(7)       القديس أوغسطين : بين الرواية المانوية واللاهوت المسيحي – دكتور محمد فرحان   
(8)        بلا حدود| محمد السماك مع أحمد منصور: المسيحية الصهيونية وتفاصيل الاختراق الصهيوني للمسيحية 
(9)         الكنيسة البروتستانتية وعلاقتها بالمسيحية الصهيونية – فدوى بنيعيش؛ الجزيرة نت
(10)      في تأسيس الكيان الصهيوني.. الصهيونية المسيحية والبداية
https://www.alarab.com/Article/1035002

(11)      الصهيونية المسيحية “البروتستانتية”، أحمد الدبش؛ الجزيرة نت       
(12)       النبوءة والسياسة (الترجمة العربية) – غريس هالسل، مقدمة الناشر، ص6
(13)          Divino afflante Spiritu – Pope Pius XII
            https://en.wikipedia.org/wiki/Divino_afflante_Spiritu
(14)      رسالـة البابـا الأخيـرة «نفـوذ اليهـود في الفاتيكـان» «إستفحـال أمـر الصهيونيـة» –  أنطون سعاده

            https://antoun-saadeh.com/works/book/book7/1139
(15)      موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية-5 – عبد الوهاب المسيري
(16)      كيف أبطل القرآن مزاعم اليهود بأحقيتهم بأرض كنعان؟، معتز الجعبري
(17)      الحملات الصليبية.. دوافع دينية أم غايات أخرى؟ – طالب الدغيم
(18)      موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية-6، ص 131 – عبد الوهاب المسيري
(19)      أرض الميعاد وأيديولوجية الحلم الأمريكي: من أحلام المستوطنين الأوائل إلى كتاب باراك أوباما الجديد – أحمد ضياء دردير
(20)      موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية-6، ص 137-138 – عبد الوهاب المسيريِش
(21)      أمريكا هي المالك الحقيقي للمشروع الصهيوني الهمجي العنصري الإرهابي المجرم
            https://faynaq.blogspot.com/2019/04/blog-post_52.html

(22)      Albert M. Hyamson – British projects for the restoration of Jews to Palestine       

          https://www.jstor.org/stable/pdf/43059305.pdf?refreqid=excelsior%3A8289b3371740755ae70246b3f4fbad8c&ab_segments=&origin=&initiator=&acceptTC=1
(23)      من “كامبل بنرمان” إلى “وعد بلفور” المشؤوم مشروع واحد؟! – شرحبيل الغريب، الميادين
(24)      British Orientalists, Lord Palmerston, and the British imperialist origins of political Zionism, 1831–1841
         https://www.proquest.com/openview/9c0a01a09b727fa959dd461a191fa368/1?pq-origsite=gscholar&cbl=18750&diss=y
(25)      Origins and Evolution of Zionism – Foreign Policy Research Institute

https://www.fpri.org/article/2015/01/origins-and-evolution-of-zionism

(26)      The Great Jewish Migration 1881-1914: Myths And Realities – Lloyd Gartner

          https://www.jstor.org/stable/42940756?read-now=1#page_scan_tab_contents
(27)      المسالة اليهودية ونشاة الصهيونية – ابراهام ليون
(28)      موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية-6، ص 94 – عبد الوهاب المسيري
(29)      كتاب اليهودية والصهيونية، محمد السماك – دار النفائس

(30)      صراع اليهودية والصهيونية .. هل تتفكك إسرائيل من الداخل

(31)      الهجرة الصهيونية، ويكيبيديا الموسوعة الحرة

(32)      كتاب (العرب والمحرقة النازية).. إسرائيل مدينة بقيامها لهتلر – جلبير الأشقر

          https://www.reuters.com/article/oegen-arab-jews-my7-idARACAE65303C20100604

(33)      المطران جورج خضر، مؤسس اللاهوت العربي حول فلسطين – خريستو المر

          https://al-akhbar.com/Opinion/365883

 

سرجيل 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...