حزب البعث: مراجعة واقتراحات

17-01-2024

حزب البعث: مراجعة واقتراحات

Image

نبيل صالح: بخصوص وقائع الحوار حول تجربة حزب البعث ومآلاته في الندوة التي دعاني د.محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتاب العرب ود.مهدي دخل الله عضو اللجنة المركزية لحزب البعث يوم أمس ، فقد كان الإستقبال مميزا بحضور رئيس وأعضاء اتحاد الكتاب ولفيف من عتاة البعثيين المتقاعدين ، ولكن لم يحضر أي شخص من أعضاء القيادة المقدسين باستثناء الدكتور مهدي دخل الله، كونهم مشغولين بالإنتخابات لتجديد عضويتهم ونفوذهم أكثر من اهتمامهم بحالة الحزب الصحية! 


 افتتحت الندوة بمداخلتي التي استمرت عشرة دقائق تحدث الدكتور مهدي بعدي لربع ساعة، وكان براغماتيا لطيفا ولكنه غير مقنع في تأكيده بأن الحزب يتغير، أدار الحوار الدكتور محمد الحوراني ببراعة مهنية ولم يعترض أي من الحضور على ماقلته باستثناء مدير بعثي مزمن قال أنه يرفض كل ماقلته بشدة ولكنه لم يقدم أي نقض لما طرحته، فقط قدم استعراضا لمؤتمرات الحزب في القرن الماضي، ونصحني بقراءتها! وقد اكتفيت باعتراض الدكتور مهدي على كلامه غير الديمقراطي.. استمرت الندوة ساعتين إلا ربع ولم يتمكن من الحديث فيها سوى 14 شخصا كون الدكتور مهدي لديه التزام في القيادة. وكان أبلغ الحاضرين هم البعثيين القدامى الصامتين الذين عانقوني في ختام الندوة .. وعدنا إلى بيتنا نصف مسرورين لأننا لم نتأكد فيما إذا كان الحزب (بدو يغيّر حلاّسه) أم أنه سيستمر كما هو دون تغيير.. بالطبع كان الإعلام الرسمي حاضرا  ولا أظنهم سينشرون ماقلته، كما حصل لما قلته طوال أربع سنوات في مجلس الشعب، لذلك أنشر مراجعتي حول حزب البعث ولكم الرأي :

قل لي من تعادي، أقلْ لك من أنت...
 فنحن نكبر بالتَّحدي أكثرَ مما يفعله الإطراء والمديح، وماحصل مع حزب البعث، أنه فقد التحدي الداخلي بعد تطويع الأحزاب السُّورية ضمن تركيبة "الجبهة الوطنية التقدمية"، فاسترخى البعثيون، كما استرخت أحزاب الجبهة، بعدما توازعوا مقاعد الحكومة ومجلس الشعب، وكان هذا جيداً في حينه لاستقرار سورية قبل نصف قرن، لكن الزمان يمرُّ على الأشياء المخلوقة وإذا لم نتداركها بالتجديد فسوف تشيخ وتغدو عبئاً على أهلها وأصحابها، وهذا ما حصل لأحزابنا الوطنية، والبعث في مقدمتها. حيث بات الأفق خلفها بدل أن يكون أمامها، والواقع أن الجملة الإبداعية في النظام الداخلي للبعث كانت تقول بأنه (حزب انقلابي)، ولا أعلم متى تم حذفها لارتباط الجملة ظاهرياً بالانقلابات العسكرية، بينما كان القصد منها أنَّ الزمن هو التحدي الأول والمستمر أمام حزب ثوري علماني صاحب رؤية تقدمية، فإذا لم ينقلب على نفسه ويجدد في منطلقاته النظرية وثقافته الحزبية فسوف يتجمد ويتصنَّم مع الزمن بينما يقتضي عملُ رسلِ الإصلاح تحطيمَ أصنام الآباء والتدفق مع الحياة الجديدة ومواجهة تحدياتها ...
وإذا تفقدنا اليوم منهاج التثقيف الحزبي للبعث فسوف نجد أنه بات ينتمي إلى زمن السلف البعثي الصالح أكثر مما يمثل تفكير الأجيال الجديدة، ولو عادت الحياة بالمفكر ياسين الحافظ، واضع بعض المنطلقات النظرية للحزب، لربما كان غيَّرها بالتأكيد تطبيقاً لنظريته حول "الفوات التاريخي"... وقد سبق أن حاورت العديد من السادة أعضاء اللجنة المركزية حول أهمية تجديد المنطلقات ومنهاج التثقيف الحزبي بالتعاون مع مفكرين سوريين وعرب وتجديد "الأمبلاج" الحزبي الذي بات يشبه العباءة والقمباز في زمن الأزياء المعاصرة، وبما أن الفكرة تسبق العمل فإن إعادة هيكلة النظام الحزبي تبدأ بالجانب النظري التثقيفي الذي يتبعه التغيير في البنية التنظيمية... 
الخطوة التالية يفترض أن تبدأ بتفعيل البرنامج الاجتماعي للحزب، فقد كان البرنامج الاجتماعي هو الرافعة السياسية للأحزاب السورية المتنافسة على قلوب الناس قبل قيام الجبهة الوطنية وتوازع الحصص بينها كما ذكرنا، حيث تسبب ذلك بإهمال برامجها الاجتماعية التي كانت تستقطب بها جمهورها مقابل التركيز على برنامجها السياسي، إذ ماحاجة الصحابة لرضى المؤمنين طالما أن عطاءهم مقدر ودائم؟! وهكذا باتت الأحزاب تحت إبط الحزب القائد الذي تحولت منظماته الشعبية إلى تفريغ طاقات جمهور الحزب أكثر من تعبئته بحيث راح الحزب يخسر طاقات أعضاء منظماته بالتدريج، كما حصل مع منظمة الاتحاد النسائي الذي ملأت "الأخواتُ الدَّاعيات" الفراغَ الذي خلَّفه إلغاء الإتحاد، وكذا الأمر مع منظمة الاتحاد الوطني الذي بات الفريق الديني الشبابي التابع للأوقاف أنشط تنظيماته، بينما شكل طلاب المدارس الشرعية بمناهجهم السلفية الجزء المقدس في برنامج اتحاد شبيبة الثورة ، وبات التشبيك بين الحزب والأوقاف على رأس أولويات بعض أعضاء القيادة حتى بدأت تظهر ملامح ما يمكن تسميته بحزب البعث العربي الإسلامي، هذه التسمية التي أطلقتها كعنوان مقالة نشرت بعد سقوط بغداد وتعاون الأمريكان مع كارهي البعث على اجتثاثه، الأمر الذي دفع عتاة البعثيين للتحالف مع عتاة الإسلاميين، فامتزج التطرف القومي مع التطرف الديني ليولد كل هذا العنف المرتد على الشعب العراقي.. وقد نشرت العديد من المقالات حول مآلات حزبنا الذي تربينا في كنفه حباً أو كرهاً رغم العقوبات المتتالية التي كانت تنالني، فأنا حريص على عدم ضياع جهود الآباء والأجداد ومنهم والدي وجدي التي صبَّت في شرايين الحزب خلال 75 عاما لتحقيق الحلم العربي.
فقد أصاب البعثَ السُّوريَّ ما أصاب كلَّ الأحزاب العربية التي استلمت السلطة خلال القرن الماضي، ذلك أن السلطة مفسدة الأحزاب، ولو استلم أي حزب آخر السلطة فسوف يكون مآله كمآل البعث، ذلك أن غالبية جمهور أحزابنا شبه العلمانية هو جمهور سلفي في بنيته الثقافية ومرجعياته الاجتماعية، حيث تؤثر الطائفية والمناطقية والجنسانية في سلوك أعضائه بنسب متفاوتة مثلما أظهرت لنا الحرب على سورية والعراق، لذلك فإن الثورة فعلياً يجب أن تكون ثورة ثقافية تنتقل بالجمهور من دائرة الإرث الثقافي الديني والقومي المغلقة على نفسها إلى ترسيخ ثقافة المواطنة والمصلحة المشتركة لكي نستحق اسم الجمهورية الذي يتقدم توصيف الدَّولة السُّورية... 
وقد اشتغلتُ على هذا الموضوع خلال العقدين الماضيين، وأصدرتُ بالتعاون مع مئات المثقفين السُّوريين العديد من الموسوعات حول سورية والنخب السُّورية المؤثرة في القرن العشرين، قدمتُ فيها مراجعاتٍ نقديةً لسيرة الآباء المؤسِّسين للأحزاب والجماعات السُّورية، وكذلك سيرة النساء السُّوريات اللواتي شكَّلنَ طليعة الحراك النِّسوي، بقصد المساهمة في التغيير الهادئ والناعم في بنية المجتمع، فالشعب السُّوري بحاجة لمعرفة ثقافات مجموعاته العرقية والدينية والفولكلورية لكي يحسن الأفرادُ التَّعاملَ مع بعضهم، ذلك أنَّ الناسَ أعداءُ ماجهلوا وأكثر طمأنينة وتفاعلاً تجاه ما يعرفونه..
الآن وبما أن قيادات البعث وقواعده باتت متفقة على التغيير والتحسين في بنية الحزب ومهماته الوطنية، ومن باب الإصلاح والإنفتاح فإن أول مايتوجَّب عليهم فعله هو الاستماعُ إلى نقد خصومهم قبل أصدقائهم للخروج من حالة الإنكار، فبقدر التحدي يكون التطور والارتقاء... وأغلب نقد الخصوم كان مركزاً على عقلية البعث الحاكم، ومن بينها: أنها عقلية غير حوارية قد تستمع ولكنها لا تقبل بالرأي الآخر... كما تُتَّهَمُ بأنها عقلية أمنية شكَّاكة حتى في حلفائها وأفراد حزبها... وأنها عقلية ديماغوجية تعيش ازدواجية بين القول والفعل... وأنها عقلية تبريرية لاتتعلم من أخطائها... كما أنها عقلية غير مؤسساتية بقدر ماهي عقلية أجهزة... وأخيراً تُتَّهَمُ بأنها عقلية جامدة وغير انقلابية بعدما فرَّغت مضمون شعارها عن النقد والنقد الذاتي... فإذا تمكن البعثيون من مناقشة ما تقدم وتفنيده أو الإقرار به ومعالجته فسوف يكون قد خطا خطوته الأولى نحو مستحقاته الوطنية، رغبةً وليس إكراهاً كما هو الحال الآن، وإلا فسيكون الحزب من الماضي ويخصص له قاعة في المتحف الوطني الكبير ...
فبعد كل حروبه الخارجية والداخلية بات وسم البعث السوري أقرب إلى البنية الإسبارطية منه إلى الأثينية، وقد بدأت العسكرة مع بداية تنافس الأحزاب الوطنية على مؤسسة الجيش وبداية الانقلابات العسكرية إلى أن وصل إلى ماهو عليه.
لذلك فإن الحزب بحاجة الآن إلى استعادة وسمه المدني كممثلٍ لحقوق ومصالح الفقراء والكادحين، ومديرٍ ناجح لأعمال الصناعيين والمطورين والمستثمرين، وحاضنٍ للنُّخب الفكرية والعلمية، عبر خطوات انتقالية مدروسة بالتشاركية مع الأحزاب والنخب الثقافية المستقلة، بحيث تستحق الجبهة الوطنية اسمها. فإعادة تأهيل الحزب مدنياً مكسب للدولة وضرورة للمجتمع ، ويفترض أن تتحول قيادة الحزب من الوصاية وفرض الطاعة إلى الرعاية والحماية على خط إعادة توحيد سورية والمجتمع السوري، وتفعيل مجلس الشعب والجبهة الوطنية وإدخال الأحزاب الجديدة إليها... بعد ذلك لن يبقى داخل الحزب سوى أعضائه المخلصين ولن يخسر سوى الفاسدين والمنافقين الذين سيتركونه بطبيعة الحال بعد فك الحزب عن السلطة المباشرة ضمن معادلة الحوكمة الرشيدة. وسوف تكون بداية نهضة البعث وإعادة تموضعه في عقول وقلوب الناس.
 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...