محمد شياع السوداني في دمشق: رسالة عراقية للأميركيين

24-07-2023

محمد شياع السوداني في دمشق: رسالة عراقية للأميركيين

رغم الزيارة المتأخرة بعض الشيء إلا أن رئيس حكومة العراق الذي جال على دول عديدة خلال الشهور التسعة منذ توليه رئاسة الوزراء، جاء قبل أيام قليلة إلى دمشق مُحمّلاً بملفات عديدة، وبعضها ملتهب، وفي باله أن الاستقرار (وخاصة الإقليمي منه) الذي رفع شعاره منذ يومه الأول في العهد، كباب حتمي للإزدهار الاقتصادي، لا يمكن أن يكتمل بلا علاقات طيبة مع السوريين.

و كان معهوداً قبل أكثر من عقدين، عندما كان صدام حسين لا يزال يُحكم بقضبته على العراق، ويوزع التوترات يمنة وشمالاً، ويُخضع علاقته بدمشق لعناصر المنافسة والصراع، تارة باسم “البعث” وتارة أخرى باسم “العروبة” وتارة ثالثة باسم الخصومة مع “حلفاء الفرس”، إلى أن راحت المنطقة، مع استيطان الأميركيين عسكرياً فيها، إلى شبه خراب شامل.

بينما تخطى البلدان، وإن بكثير من الدم والدمار، “إنذارات” وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول الشهيرة ضد دمشق، ما أن ظنّت إدارة جورج بوش استقرار سلطة احتلالها لبغداد ، كما تخطيا أكثر ما أذاهما ـ وللمفارقة وحّدتهما عنوة ـ عدوانية “داعش” التي صنعتها أجهزة إستخبارات إقليمية وغربية، أو ساهمت في رعايتها، فوجد العراقيون والسوريون أنفسهم يقاتلون في خندق واحد.. وما يزالون

ومع  ذلك، فإن بغداد سواء بعهد السوداني، أو في ظل الحكومات السابقة، لم تكن بعيدة عن مشاعر التآخي التي نشأت في ما بعد “الحقبة الصدامية”، ففي بال السوريين أن بغداد ـ وقلة قليلة من عواصم الأخوة العرب – آثرت أن تُبقي على علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق خلال سنوات الخذلان التي عاشها السوريون منذ العام 2011. بعد سنوات الإرهاب السوداء، يُراهن العراق على تموضع إقليمي يتيح له بناء شبكات خلاص للمستقبل، تتعلق بمصادر الطاقة وطرق التجارة والنقل، وقد حمل السوداني معه إلى دمشق إقتراحاً لإعادة إحياء خط أنابيب النفط كركوك-بانياس الذي كان دُشّن في العام 1952، والذي دمّره الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 يُدرك الرئيس السوري بشار الأسد حقائق كثيرة، عندما كان يستقبل ضيفه العراقي وقبله عدد آخر من الضيوف العرب، وربما يعتقد أيضاً أن أهمية هذه الزيارة لا تقل أهمية عن معاني وتداعيات عودة الحياة إلى شرايين العلاقات العربية مع دمشق، وزيارات المسؤولين العرب إلى العاصمة السورية، بالاضافة إلى زيارات المسؤولين السوريين المتزايدة على العواصم العربية، بما في ذلك زيارة الأسد نفسه إلى جدة للمشاركة في القمة العربية الأخيرة في 19 أيار/مايو الماضي، ولقائه مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

وبينما يبدو أن السعودية بانتظار بلورة أكثر وضوحاً لمفاعيل مصالحتها التاريخية مع إيران، فإنها في “الملف السوري” تبدو كأنها محكومة بما ستؤول إليه نتائج خريطة الطريق التي رسمها الإجتماع الوزاري العربي المصغر في عمان (السعودية والاردن ومصر والعراق وسوريا) في الأول من أيار/مايو الماضي، لفتح طريق أوسع أمام “تطبيع” العلاقات العربية مع دمشق. وبهذا المعنى، فبينما تبدو السعودية مترقبة، باعلانها استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق وإنما من دون إعادة افتتاح السفارة حتى الآن، فان بغداد التي رفضت منذ العام 2011 قطع علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق، ترى أنه من البديهي أن يحط السوداني فيها زائراً، طالما أن عودة “الحضن العربي”، قد اتخذ مساره التدريجي.

. السوداني يريد أن يستكمل دائرة جولاته الإقليمية: عمان، القاهرة، الكويت، الدوحة، طهران، الرياض، أنقرة، والآن دمشق، فضلاً عن استقباله العديد من القادة العرب وآخرهم أمير دولة قطر. ومن الواضح، أن السوداني الذي ساهمت بلاده في كسر الجليد بين طهران والرياض ومهدت بذلك لمصالحتهما برعاية صينية، ما قد يُشرّع أبواب التسويات في المنطقة، وخاضت مفاوضات مع الأميركيين لتسوية عقدة الحقوق المالية لإيران المحتجزة في البنوك العراقية، وأعلنت رسمياً إطلاق مشروع “طريق التنمية” العملاق من البصرة إلى تركيا، وبدأت محاولات جدية للبناء على التفاهمات الاقتصادية لـ”مؤتمر بغداد-2″ الإقليمي الذي ترعاه فرنسا، يبدو عاقد العزم، على المضي قدماً برؤيته للإقليم اقتصادياً، بما في ذلك سوريا.

وقبل أيام من زيارته الدمشقية، أعلن السوداني عن صفقة أثارت امتعاضاً أميركياً، بصيغة “النفط العراقي مقابل الغاز الإيراني” للتغلب على العقبات التي رسّختها العقوبات الأميركية على التعامل اقتصادياً وطاقوياً مع إيران، وهو ما يؤثر سلباً على امدادات الغاز الإيراني لتشغيل شبكة الكهرباء التي تشتد الحاجة اليها في بلد تتخطى فيه درجات الحرارة في هذه الفترة من السنة حدود الـ50 درجة مئوية.

ويقول السوداني للأميركيين إنه وإن كان يأخذ بالاعتبار طبيعة الروابط التي تجمع بغداد مع واشنطن (التي بالمناسبة لم يزرها حتى الآن برغم عشرات الزيارات التي قامت بها السفيرة الأميركية إلى مقر رئاسة الوزراء في بغداد) وتحكمها اتفاقيات مع الحكومات العراقية السابقة، ويحاول أيضاً الاستفادة من الدفع الأميركي المستمر لدمج العراق كهربائياً مع الشبكات الخليجية والأردنية كبديل عن الغاز الإيراني، لكنه في الوقت نفسه، بقراره مثلاً إعلان صفقة “النفط مقابل الغاز”، يقول للأميركيين إن إبقاء ملايين العراقيين تحت قيظ الصيف كرمى القيود الاميركية على إيران، لم يعد خياراً مقبولاً.

فيما يتعلق بسوريا، يُوجه السوداني رسالة مشابهة، بمعنى أن التمنيات والرغبات الأميركية ليست هي الأولوية المُسلّم بها، وأن مصالح العراق ـ وبينها العلاقة مع سوريا – تأتي أولاً، لكن ذلك لا يعني أن زيارته الدمشقية تأتي في سياق المناكفة السياسية مع واشنطن التي جاهرت صراحة منذ ما قبل عودة دمشق إلى الجامعة العربية، وبعدها، برفضها تحركات “الانفتاح” العربي على سوريا، بل وواكبتها بعقوبات إضافية على شخصيات وكيانات سورية، ناهيك عن حركة لنواب جمهوريين وديموقراطيين في الكونغرس تنحو باتجاه فرض عقوبات على من يخرق قرار استمرار حصار سوريا.

ومن الواضح أن زيارة السوداني إلى دمشق وغيرها من العواصم العربية والإقليمية تندرج في سياق إعادة صياغة علاقات العراق من البوابة الإقتصادية بشكل أساسي. وبعد سنوات الإرهاب السوداء، يُراهن العراق على تموضع إقليمي يتيح له بناء شبكات خلاص للمستقبل، تتعلق بمصادر الطاقة وطرق التجارة والنقل.

وقد حمل السوداني معه إلى دمشق إقتراحاً لإعادة إحياء خط أنابيب النفط كركوك-بانياس الذي كان دُشّن في العام 1952، والذي دمّره الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، وجرت محاولة لإعادة إحيائه في العام 2007 من جانب شركة تابعة للعملاق الروسي “غازبروم” لكن الخطة لم تنفذ بسبب التقديرات حول كلفة الترميم وإعادة التشغيل العالية.

ويقول موقع “بلومبيرغ” في تقرير له الأسبوع الماضي، إن الأسواق النفطية خسرت 47 مليون برميل منذ أنصفت محكمة تجارية دولية في باريس، بغداد في آذار/مارس الماضي، بالاعتراض على شحنات النفط المباعة من الحقول في اقليم كردستان، وخاصة من كركوك الى تركيا لتصديرها عبر ميناء جيهان التركي، ما أجبر أنقرة على وقف تدفق النفط فوراً عبر شمال العراق، فيما لا توجد مؤشرات على امكانية استئناف التدفقات النفطية في وقت قريب، وهو ما يجلب خسارة للعراق تقدر بنحو 33 مليون دولار يومياً، ما يطرح تساؤلاً عما إذا كانت عملية إعادة إحياء خط كركوك-بانياس، ستكون بمثابة البديل الطبيعي والملح أمام بغداد، في حين أنه من المؤكد أن دمشق ستجني مكاسب بديهية من رسوم العبور والخدمات والتصدير.

ماذا أيضاً بين بغداد ودمشق؟ هناك مشروع السكك الحديدية بين شلمجة في إيران والبصرة في العراق المتوقع استكماله خلال أقل من عامين، والمقدّرة كلفته بحوالي 10 مليارات دولار.

التصورات القائمة بين الطرفين الإيراني والعراقي أن الخط سيمتد تدريجياً باتجاه مدينة القائم على الحدود، ومنها إلى محافظة حمص ثم دمشق، وربطاً بمدينة اللاذقية على البحر الأبيض المتوسط أيضاً.

وحتى في ما يتعلق بمشروع “طريق التنمية” العراقي-التركي، المراهن عليه للربط بين الشرق والغرب، يلحظ في مخططاته كسكك حديدية وطرقات سريعة، ارتباطاً بسوريا لنقل البضائع عبر العراق نحو سواحل البحر المتوسط، ما يُشكّل تكاملاً ممتداً من اللاذقية إلى ميناء الفاو الكبير في الجنوب العراقي.

وبالإمكان قراءة زيارة السوداني إلى دمشق وطبيعة التصريحات التي أدلى بها هو والرئيس الاسد: من التحية السورية للجيش العراقي و”الحشد الشعبي” لوقوفهما إلى جانب سوريا، إلى إشارة السوداني للترابط التاريخي والجغرافي والاجتماعي والمصالح المتبادلة، وحرص بغداد على دعم وحدة الأراضي السورية، لأن “أي جيب خارج عن السيطرة (السورية) هو بقعة مرشحة لتهديد العراق والمنطقة”، وصولاً إلى تناول ملفات تهريب المخدرات والتجارة والسياحة والنقل وعودة العراقيين، وخصوصاً المتواجدين في مخيم الهول، البؤرة المرشحة لانفجار أمني في شمال شرق سوريا.

لكن ثمة ملاحظة مهمة، خلال لقاء الأسد والسوداني، تكمن في إشارتهما إلى قضية المياه التي يجمعهما شحها، بعدما تمادى الطرف التركي، وفق الاتهامات العراقية والسورية، في التعدي على حقوق العراقيين والسوريين من تدفقات مياه نهر الفرات.

فبينما أكد السوداني على أهمية “تعاون الجانبين” في مواجهة هذه القضية والتنسيق مع دولة المنبع (أي تركيا)، قال الأسد إن “التحدي الأكبر هو سرقة حصة سوريا والعراق من مياه الفرات، وما يعنيه هذا الأمر من عطش وجوع بسبب الوضع الكارثي للمحاصيل”. وبالإمكان أيضاً، القول إن عيون السوداني والأسد كانت تتجه أيضاً نحو الحدود، ليس فقط لأن كل هذه الملفات المشار اليها ترتبط بشكل أو بآخر بالأوضاع الحدودية وسلامتها، وإنما أيضاً لأن المعلومات تتكاثر حول احتمالات معركة كبيرة في الشرق السوري، وامتدادها بطبيعة الحال والجغرافيا، نحو الغرب العراقي، تتعلق بمصير التمركز الأميركي، في تحدٍ لا للسيادة السورية فقط، وإنما لأمن العراق واستقراره، خصوصاً أن جانباً من عمليات الكر والفر الجارية هناك، تنخرط فيها أيضاً فصائل عراقية – وغيرها -، ترى في الوجود العسكري الأميركي على حدود العراق، إلى جانب فلول التنظيمات الإرهابية، بما فيها “داعش، خطراً كامناً قد يعيد تفجير “أمن الشقيقتين” كما جرى في 2014

 180 post

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...