امتهان الجبة والقفطان

14-11-2006

امتهان الجبة والقفطان

يكتسب الزى الأزهرى مكانة خاصة فى نفوس المصريين، تجعلهم ينظرون لمن يرتديه بمهابة وتقدير.. إنه عندهم الشيخ التقى الصالح «بتاع ربنا» يتابعون جبته وقفطانه وعمامته على أنها رمز دينى مقدس، تزيده احتراما ووقارا.

يتحول الزى أحيانا إلى مسئولية، تفرض قيودا على صاحبها، وتجعل المباح لغيره محرما عليه. أنت كمواطن تستطيع أن تسير إلى جوار صديقك فى الشارع، وتدخل معه فى نوبة هزار دون أن يلتفت إليك أحد أو يعاتبك أحد.. أو تلمح فتاة جميلة تسير بمفردها فتلقى إليها بعبارات الغزل.. أو تحس بالتعب فتجلس على أول رصيف يقابلك.. أو تشعر برغبة عارمة فى تناول الآيس كريم فتشتريه وتأكله فى الطريق. مثل هذه الأمور العادية تتحول عند آخرين إلى ممنوعات، بمجرد أن يرتدوا زيا خاصا.. أو يمتهنوا مهنة معينة.. ضابط الشرطة مثلا عليه أن يحترم بذلته الميرى، ويقبل القيود الاختيارية التى ارتضاها لنفسه، وفرضتها عليه مهنته.. المثال يكون أكثر وضوحا فى حالة «الكاكولا» وهو الاسم الشائع بين الأزهريين لوصف ما يرتدونه من ملابس، تحولت بمرور الزمن إلى زى له اعتباره وقيمته.. ولذلك كان غريبا ومثيرا أن تجد طلبة أزهريين يرتدون هذا «الزى المقدس» وهم لايعرفون قيمته ولايقدرون مسئوليته.. على أجسادهم الجبة والقفطان، وعلى رءوسهم العمامة المهيبة، ثم تجدهم يرتكبون أفعالا طائشة، مثل الشباب المراهق على النواصى.. يعاكسون البنات فى الشارع.. يجلسون على الأرصفة كما يجلس المتسولون، ويقومون بتصرفات صبيانية غريبة، لا تقيم أى اعتبار لوقار الزى الذى يرتدونه..

ولذلك جذبنا المنظر فى شارع جانبى مقابل لكورنيش النيل بشبرا الخيمة، حيث يقع معهد الشيخ خالد الدينى الأزهرى، وهو معهد بنين للمرحلتين الإعدادية والثانوية، ويكتظ بعدد وافر من شيوخ المستقبل.. المشايخ الصغار لايتورعون عن ارتكاب الأفعال الصغيرة.. يعاكسون البنات فى الشارع.. يتشاجرون بطريقة صبيانية، ويتلفظون بألفاظ لا علاقة لها بمهابة الزى الدينى ووقاره.. ويتسكعون فى الشوارع على طريقة الشباب الروش. ولذلك حاولنا أن نتحدث مع مدير المعهد، الشيخ محمد خالد، وأن نفتح معه حوارا عما رأيناه، لنلفت نظره إذا كان لايدرى بما يرتكبه طلبته خارج أسوار المعهد.. ورفض الشيخ بشدة وحدة، وطالبنا بالمغادرة. كان معى زميلى المصور يوسف أحمد، وبدأت كاميراته تدور لالتقاط تلك المناظر لهؤلاء الطلبة فى أوضاع لا تليق بجلال زيهم الأزهرى وانتسابهم للمؤسسة الدينية العريقة.. ببراءة تحدث معنا الطلبة، بعد فاصل من شقاوتهم وروشنتهم ومن الجلوس على رصيف الشارع، والخناقات والألفاظ الخادشة.

حكوا لنا أن هذا الزى يشترونه من المعهد بحوالى خمسين جنيها فى بداية العام، تصل إلى ستين فى حالة المقاسات الكبيرة نظرا لفارق القماش.. وأثناء حديثهم معنا فوجئنا بعملاق يهجم علينا.. شيخ ضخم طويل اللحية فى يده عكاز طويل ، ويرتدى الزى الأزهرى أيضا.. لم يسلم بتحية الإسلام، بل ألقى تحيته بعكازه، وانتزع منى حقيبتى الخاصة، وفتحها بعنف، وألقى بكل محتوياتها على الأرض.. ولم يكتف بهذا العقاب على جريمتنا بالحديث مع طلبته، بل انتزع كذلك جهاز تليفونى المحمول، وكسره أمام عينى بلا رحمة، وحاولت أن استرد منه أشيائى، فأمسك بذراعى اليسرى وراح يكسرها وكأنه فى حلبة مصارعة.. حاول زميلى المصور أن ينقذنى من بين يدى الشيخ المفترس، فتكاتف عليه أساتذة المعهد من تلاميذ الشيخ، وقاموا بشل حركة زميلى، وحملوه بعيدا، حتى ينفرد الشيخ بوصلة المصارعة الحرة.. من طرف واحد طبعا.. حيث كان الألم الرهيب فى ذراعى يمنعنى من المقاومة. شفى الشيخ غليله أو هكذا اعتقدت إلا أنه شعر أن العقاب ليس كافيا، فأمطرنا بسيل من العبارات والاتهامات البذيئة، ورمانا بالكفر، وبالانتماء إلى مجلة تقف فى خندق أعداء الدين، وتريد أن تحطم الإسلام وأهله!!

واندفعت الألفاظ من فم الشيخ الوقور بلا وقار: يا صحفيين يا كفرة يا ولاد الـ ....»!! عايزين «توسخوا» صورتنا قدام الناس زى ما أنتم متعودين فى مجلتكم اللى ضد الدين ورفعة الإسلام.. أنا لازم أطلب لكم أمن الدولة!! وأجرى الشيخ مكالمة من تليفونه بشخص يدعى هشام.. وبلا مقدمات قال له: أنت فين يا هشام.. تعالى شوف الكفرة بتوع مجلة «روز اليوسف» عايزين إيه مننا.. ملهمش غير الإساءة للدين.. عايزين يشوهوا صورة الأولاد فى المعهد.. اطلب أمن الدولة بسرعة أو قل لى الرقم بتاع صاحبك وأنا «أكلمه».
فى أثناء تلك المكالمة كان مدرسو المدرسة وعمالها يحتجزوننا: أنا وزميلى وسيارتى وكأننا رهائن فى يد الشيخ العجوز، إلى أن يقرر مصيرنا.. واستطعنا أن نفلت من هذا الحصار بصعوبة، واختطفت تليفونى - أو بقاياه- من أيديهم، والقيت نفسى فى السيارة، وطلبت من زميلى أن يتولى القيادة، لأننى لم أكن أشعر بالسيطرة على ذراعى المكسورة..

وبتحريض من الشيخ العجوز راحوا يلقون علينا بالطوب والحجارة والعصى، وكأنهم يرجمون إبليس، حتى خرجنا من الشارع الذى يوجد به المعهد، ونحن فى قمة الذهول، أن تخرج تلك التصرفات من شيخ يرتدى الجبة والقفطان، ويحمل لقب «مولانا»، ويعلم التلاميذ سلوكيات الإسلام وتسامحه! وأصدر الشيخ فرمانا عاجلا بإدخال جميع الطلبة إلى المعهد، ومنعهم من الخروج فى مواعيد انصرافهم الرسمية، خشية أن تلتقطهم الكاميرا.. وظل الاحتجاز قائما أكثر من ساعة ونصف حتى يطمئن قلب الشيخ إلى أن أعداء الدين. قد غادروا ساحة المعركة بلا رجعة. ولما ذهبت عنا الدهشة والذهول، عادت إلينا روح التحدى، وقررنا الدخول فى جولة جديدة من المعركة، وعدنا إلى المعهد، وصادفت العودة خروج الطلبة من المعهد بعد الإفراج عنهم.. وعاد الطلبة إلى طبيعتهم، وإلى ممارسة سلوكياتهم المعتادة: معاكسة البنات، المشاجرة، بالعصى والحجارة.. قال لنا أحدهم:إن الشيخ خالد حذرهم من التحدث مع الصحفيين، وسب هذا الصنف من البشر بألفاظ جارحة، وطلب إليهم أن يجروا بما أتاهم الله من قوة بعيدا إذا شعروا أن صحفيا يلاحقهم.. وراح الأزهرى الصغير يعيد على مسامعنا ما ردده شيخه الكبير من ألفاظ بذيئة.

وتشجع آخرون من الأزهريين الصغار وحكوا لنا عن المعاملة القاسية وغير الإنسانية وغير الإسلامية، التى يتعامل بها الشيخ معهم.. فمازال الشيخ يستخدم العصا والفلكة فى عقاب تلاميذه.. يضربهم بعنف، ولايتورع عن سبهم بأقذع الألفاظ.. وإذا جاء أحد الأهالى ليعترض على تلك المعاملة لأبنائه يكون مصيره الطرد من المعهد!! كنا نعتقد أن الأزهر ومعاهده يعلمون طلابه رسالة الإسلام وشريعته وجمال أخلاقه وفضائله، وما فيه من تسامح ورقى وعفو، فإذا بنا أمام كارثة.. تلاميذ فى عمر الزهور يتعلمون بـ «العصا والفلكة» ويسمعون ألفاظا جارحة.. ولذلك لم يكن غريبا فى ظل هذا الجو أن يخرجوا عن وقار الزى الأزهرى.. ويرون فى معاكسة البنات أمورا عادية.. وفى الجلوس والتسكع على الأرصفة تصرفات عادية.

والبركة فى مولانا الشيخ خالد الذى كسر ذراعى، وألقى بمتعلقاتى على الأرض.. واختطف تليفونى وسبنى بألفاظ لا تتفق مع رجل يرتدى الجبة والقفطان ويعلم تلاميذه سماحة الإسلام.

سماح سمير

المصدر: روز اليوسف

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...