حرب الفكاهة وسلاح النقد في النكة الحمصيّة

17-08-2009

حرب الفكاهة وسلاح النقد في النكة الحمصيّة

في كل بلد تكاد تكون منطقة أو مدينة في مرمى سهام النكات، حيث تشكل النكتة عبر العصور والأزمان وسيلة لتوجيه النقد للأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وتعد مدينة حمص "عاصمة الضحك" السورية، إذ لهذه المدينة قصتها الموغلة في القدم مع عالم النكت. عفراء محمد تسلط الضوء على هذه الظاهرة.

تظهر الدراسات الاجتماعية أنه في كل دولة من دول العالم منطقة أو مدينة تكون محطة لإطلاق النكات عليها، حيث تتركز أغلب هذه النكات عادة حول شخصية البخيل أو الغبي أو غيرها. فمثلا يطلقون النكات في الولايات المتحدة على رعاة البقر في تكساس، وفي فرنسا على البلجيك، وفي بلغاريا على أهالي غابرفو، وفي تونس على أهالي سوسة، وفي سورية على أهالي حمص. ورغم أن النكات لها دور مهم في حياة المجتمعات كونها من أهم الأسلحة النفسية لتفريغ الاحتقان السياسي والاجتماعي بين شرائح المجتمع، إلا أن الدراسات حول ظاهرة النكتة لا تركز في كثير من الأحيان على الأسباب التي جعلت هذه المدينة أو تلك في مرمى النكات.

ويجيء كتاب "أدب النكتة... بحث في جذور النكتة الحمصية" للكاتب جورج كدر كواحد من أول المحاولات التي تبحث في جذور النكتة التي تطلق على أهل مدينة حمص وسط سورية. ويعد هذا الكتاب بحثاً مطولاً عن جذور النكتة الحمصية . كما يندرج البحث عن أصل النكتة الحمصية في حقل دراسة تاريخ الأفكار من خلال النكتة التي تساعد على كشف الحالة التي يعيشها شعب ما . ويستند الكتاب إلى منهج يقوم على التمييز بين صفتين متناقضتين لحمص أحداهما مادية (اللهو والمجون) والأخرى روحية (التصوف). وينحصر غرض هذا البحث- كما يقول مؤلف الكتاب- إلى إظهار النكتة على إنها حالة ترقى بالفكر البشري "أحياناً خمس كلمات تجعل الإنسان يفكر بمضمون تلك النكتة وتدفعه إلى الضحك ".

الشائع في تفسير أسباب التنكيت على أهل مدينة حمص أنهم يحتفلون كل يوم أربعاء بـ "عيد المجانين". ويعود هذا التقليد إلى زمن الاجتياح المغولي لبلاد الشام ومحاولة تطويع البلاد بالحديد والنار، فكان لنجاة أهل مدينة حمص من بطش تيمورلنك بتصنعهم الغباء وإشاعة أن مياه نهر العاصي تسبب هذه الآفة أكبر الأثر في وسمهم بتلك الصفة.

لكن مؤلف الكتاب جورج كدر الذي استعرض كل الآراء التي اشتهرت عبر التاريخ في تفسير هذه الظاهرة وكلها عبارة عن آراء متفرقة في المراجع التاريخية والصحف، يرجع إلى أن الأسباب تعود إلى زمن موغل في القدم، إذ تعود إلى الفترة التي كانت تسود فيها ديانة الخصب في هذه المنطقة أي قبل انتشار المسيحية والإسلام. وهي الديانة التي ابتكرها أهالي حمص كثاني ديانة شمسية في العالم بعد الأخناتونية في مصر وحل فيها إلههم "إيلاك بعل" محل إله الأولمب "جوبيتر". أما طقوس العبادة فكانت تتجلى بإعادة تمثيل الأسطورة التي كانت سائدة في ذلك الزمان من أن العالم بدأ بفوضى ثم قام الإله بتنظيمه. وكانت هذه الأسطورة تستعاد خلال شهري آذار ونيسان من كل عام. وفي هذا الإطار كان يوم الأربعاء يشهد التحضير للاحتفال بأعياد الخلق التي كانت تقام يوم الخميس.

يظهر الكتاب أن يوم الأربعاء كان يوما مقدسا، ومن الاحتفالات التي كانت تتم كان هناك عيد يسمى عيد المجانين، وهو يمثل ثورة الطبيعة قبل خلق الهدوء والسكينة، ثم جعل المتصوفون المسيحيون يوم الأربعاء يوم الرب وكانت لهذه الطقوس في مدينة حمص أهمية خاصة، حيث كانت تعتبر قبلة يحج لها الناس من كافة الدول المحيطة للمشاركة في هذه الاحتفالات، واشتهر في مدينة حمص قبل الإسلام ناسك اسمه سمعان المتباله لأجل المسيح، حيث ابتكر طريقة في العبادة لإنكار الذات تُدعى "التباله" إرضاء لله. وهذه الطريقة انتقلت إلى روسيا وأوجدت طائفة انتشرت في أوربا كما تقول الأدبيات المسيحية، وعرف أتباعها باسم المتبالهون لأجل المسيح، وفي الفترة الإسلامية ظهرت طرق صوفية أطلق على بعض أتباعها المجاذيب أو الدراويش ينكرون ذاتهم كرمى لله إذا الإرث الذي يجمع أهل حمص مع الجنون والتباله ضارب في القدم ولا يعود إلى زمن المد المغولي، وإن كان له دور كبير كون تيمورلنك نكل بأهالي المدن السورية.

ولا يكتف المؤلف باستعراض التاريخ الديني لهذه المدينة، وإنما يتطرق إلى صورة الحمصي في الأدب العربي حيث كان شخصية محورية في كثير من النوادر والقصص الفكاهية التي وردت في كتب التراث العربي مثل الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وأخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي.ويبين الكاتب إن النكت التي ظهرت في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي ،أن أهل حمص كانوا يسخرون من أهل حماة أكثر مما كان يفعل الآخرون،" امرأة سقط ابنها في العاصي، فأخذت تفتش عليه من حماه حتى حمص. ولما وصلت إلى حمص: قالوا لها: أنت غلطانة، لازم تفتشي عليه من حماه لأنطاكية، لأن العاصي بيطلع طلوع ما بينزل نزول. هزة المرأة رأسها وقالت لهم: "انتو ما بتعرفوا ابني، ابني تنح ودائماً معاكس".

ولم يكن أهل المدينتين يتركان فرصة تمر دون أن يتخذوا منها فرصة " للتشنيع" ببعضهما. تلك التشنيعات التي أدت إلى نشوب معارك عديدة بين أهل المدينتين، ولكن زمن الخلافات والمعارك انتهى، وإن كانت النكات ما تزال كتسلية وتمضية للوقت. يروي أحدهم هذه النكتة:" كان حموي وحمصي يسيران في الطريق، فقابلهما غريب، فسأل الأول: من أين أنت؟ قال: من حماة... حماك الله. وسأل الثاني: ومن أين أنت؟ فقال من حمص... حمّصك الله. من العوامل التي ساعدت على كبت الطابع التعصبي بين الحموية والحماصنة وتجلياته عبر المزاح والتسلية دخول الشامي كطرف شريك للحمصي في النكت، نتيجة الهجرة الداخلية التي شهدتها العاصمة دمشق من المدن السورية المختلفة وزيادة احتكاك أهلها ببعضهم بعضا.

وكما هو معروف أن النكتة هي قاسم مشترك بين أبناء الجنس البشري في قوتها وسطوتها على انتزاع الضحكة حتى في أقسى الظروف. وببساطة يمكن أن نضحك في كثير من الأحيان على نكتة تضحك أهالي بريطانيا وأمريكيا مع أن تلقي الناس للنكتة يختلف من عصر إلى عصر ومن مكان إلى آخر. من هنا ومن حيث مفهوم النكتة فإنها"في سورية لا تختلف عنها في مصر أو أميركا أو أي بلد أي ولكن ما يختلف هو إنتاج هذه النكتة وخلق أبطالها وأحداثها وكذلك ما يختلف ظروف إنتاجها، فإن كان النكتة في سورية تطلق على الحمصي الذي يظهر فيها بأنه "مجنون أو أقل ذكاء" من غيره تطلق أيضا على أهالي تكساس في أميركا" كما يقول جورج كدر، مؤلف الكتاب، ويظهر البلجيكيين في نكات الفرنسيين عليهم بذات الصورة. ولكن ربما كانت أسباب إطلاق النكات على أهالي حمص التاريخية والنفسية والأدبية والميثولوجية تختلف عنها في حمص عن غيرها ولكل مدينة عالمها الخاص لماذا كل ذلك؟

ويفسر الكاتب جورج ذلك بالقول: أنه في كثير من قصص وروايات الأدب العالمي كانت هناك ثلاثة أركان أساسية في العمل الروائي: رجل دين القائم على تنفيذ أحكام السماء على بني البشر كونه ظل الله على الأرض، وعاهرة تمثل جمال الحياة والمتعة التي منحتها الطبيعة للإنسان بعيدا عن قوانين السماء وهي الراعية الأمينة للأرض كي تجود بخيراتها على الإنسان والمجنون وهو الذي يمثل الفوضى الكونية المتمادي على السلطان الرافض لقوانين والمستهزئ بأحكامه والبعيد عن المحاسبة لأنه ببساطة بلا عقل.

هذا التوازن الذي أوجدته بعض الأعمال الروائية أوجدته الأنظمة السياسية ففي كل دولة هناك مدينة تمثل العاصمة السياسية وهناك مدينة أخرى تمثل العاصمة

الاقتصادية، "فلماذا لا يكون هناك عاصمة للضحك تضمن توازن المجتمع النفسي وتجعلنا نثور قليلا على وطأة القوانين التي تكبل حياتنا" كما يضيف كدر، كان للبابليين يوم رأس السنة بالثورة على النظام السياسي فيتسلم أحد المجانين الحكم ليوم واحد فقط. أليس عالم اليوم بحروبه وكآبته أكثر جنونا من فكرة البابليين تلك؟ يتساءل جورج كدر ويضيف: لماذا لا تكون حمص عاصمة الضحك في سورية والصعيد عاصمة الضحك في مصر وتكساس عاصمة الضحك في أميركا..و..و..ثم بعد ذلك نختار عاصمة عالمية للضحك..وأنا أرشح حمص لتبوء تلك المكانة...؟

ويدعو المؤلف في نهاية كتابه إلى إقامة مهرجان سنوي للضحك في مدينة حمص أسوة بالاحتفال الذي يقام في مدينة غابروفو في بلغاريا، خاصة أن أهالي حمص هم من ينتجون النكت على أنفسهم والتي تعكس طبيعة شخصية الحمصي بشكل عام الذي يتسم بالمرح والطيبة.

 

عفراء محمد

المصدر: قنطرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...