ربيع «الإخوان المسلمين» بين المبادئ والمصالح

10-01-2012

ربيع «الإخوان المسلمين» بين المبادئ والمصالح

أفرزت الثورات في تونس ومصر وليبيا انتصاراً كبيراً لتيار الإخوان المسلمين. هم باتوا القوة الأولى في بلادهم والمستفيد الأبرز من «الربيع العربي». وفي المملكة المغربية استبق الملك محمد السادس ما قد يحدث في بلاده فأقر تغييراً دستورياً تولى بموجبه الإخوان المسلمون (حزب العدالة والتنمية) مقاليد الحكومة. وسيشارك إخوان اليمن بقوة في التركيبة السلطوية المقبلة عندهم، ويسيطر إخوان سوريا على جزء مهم من المجلس الوطني الذي يراد له أن يكون ممثلا للثورة السورية برغم تعثر ذلك حتى الآن.
ويطل إخوان الجزائر برأسهم مجدداً بعد سنوات القمع والمنع والنفي ليجددوا تحدي السلطة، بعد أن كانوا قد شارفوا على اكتساح انتخابات عام 1992 قبل أن يجهضها الجيش بالقوة. ولو أضفنا إلى ذلك سيطرة الإسلاميين على مقاليد الحكم في السودان وانتعاشهم فور تقدم «الإخوان» في دول الثورات، وخصوصا عند جارتهم الكبيرة مصر، لأمكن القول إن الوطن العربي هو في أوج «ربيع الإخوان المسلمين»، وغير ذلك هو إكمال لديكور المرحلة المقبلة.
من الصعب والحالة هذه تصور دول الخليج بمنأى عن هذا التسونامي الإخواني. الحركة الإسلامية الممتدة من قطر إلى السعودية والكويت وصولا إلى دولة الإمارات، تفاعلت بقوة مع هذا الربيع الإسلامي. يكفي أن نقرأ عشرات البيانات والتصريحات المؤيدة للثورات، أو أن نشاهد عشرات الضيوف الخليجيين على الفضائيات يكيلون التهم للأنظمة رافضة التيار الإسلامي حتى الآن، وفي مقدمها سوريا، ليدرك المرء أن ثمة جمراً تحت رماد الخليج قد يطفو إلى السّطح في أية لحظة.
لعل إمارة قطر أدركت قبل غيرها بسنوات طويلة أهمية هذا الحضور الإسلامي الكبير في شرايين المجتمعات العربية. احتضنت قادة الحركة الإسلامية العربية. استضافت طويلا الشيخ الجزائري عباسي مدني زعيم «الجبهة الإسلامية للإنقاذ». فتحت أبوابها مراراً للشيخ راشد الغنوشي زعيم «حركة النهضة» التونسية. تحالفت عضوياً مع عدد من قادة حركة «حماس». وظفت مالها ودبلوماسيتها لحماية إسلاميي السودان ممثلين خصوصاً بالرئيس عمر حسن البشير. وحين كان يقال للشيخ حمد بن خليفة آل ثاني إن دعمك «للإخوان» يقلق الوهابيين عند الجار السعودي كان يجيب «أنا الوهابي الأول في المنطقة» ويشرح تاريخ عائلته.
نجحت قناة «الجزيرة» في إسماع صوت قادة الإخوان المسلمين على مدى السنوات القليلة الماضية حين كانت وسائل الإعلام العربية الأخرى تضيق بهم أو تعتم عليهم. وقلما نجد قيادياً اخوانياً من المشرق إلى المغرب لم يطل على ناسه عبر القناة القطرية.
كان طبيعياً والحالة هذه أن تتصدر قطر المشهد الإسلامي الاخواني. تعددت مبادراتها: دعم إعلامي منقطع النظير «لإخوان» مصر في الثورة والانتخابات. تسليط الضوء على قادتهم بعد الثورة ما أثار حفيظة ثوار آخرين. دعم مالي وعسكري وإعلامي كبير لإسلاميي ليبيا. دعم إعلامي ومالي لحركة النهضة في تونس. تمهيد بعيد عن الأضواء لانبعاث الحركة الإسلامية في الجزائر. استثمارات مالية كبيرة في المملكة المغربية قبيل تولي الإسلاميين الحكومة. احتضان للرئيس السوداني عمر حسن البشير وتقديم مساعدات مالية كبيرة لبلاده بعد انفصال الجنوب. ضغط هائل على دمشق للقبول بإشراك «الإخوان» في السلطة. إبراز الشيخ حميد الأحمر، الإخواني الانتماء عبر «الجزيرة» للمطالبة بسقوط الرئيس علي عبد الله صالح قبل أكثر من عام من اندلاع الثورة في اليمن.
وفَّر هذا المد الإسلامي لقطر ركيزة سياسية كبيرة للعب دور محوري في القضايا العربية ولتصدّر المشهد العربي بامتياز. صار رئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم أهم من أي رئيس عربي وموجِّه لسياسات الجامعة العربية. وفَّر هذا المد أيضاً لقطر إمكانية محاورة الغرب على قاعدة صلبة. صارت الدوحة الممر الإلزامي لكثير من الأطراف الراغبة في فتح خطوط مع الحركة الإخوانية الإسلامية في أوطان ما بعد الثورات، أو تلك التي تقف على شفير الثورة. بات الشيخ يوسف القرضاوي ملهم الكثير من الثورات والشباب ومحرك المياه الراكدة. وها هي الدوحة تصبح أيضاً ممراً لكل الراغبين بتسوية بين حركة طالبان والسلطة في أفغانستان، وفي مقدمهم الأميركيون.
اكتسب هذا الدور القطري في الحركة الإسلامية، بعداً إضافياً عبر التنسيق الكبير مع أنقرة. كاد تحالف الدولتين مع جماعات الإخوان المسلمين يقفز على كل الأدوار التقليدية للعرب، خصوصاً بعد تخبط مصر في أوضاعها الداخلية. تقدم الدور القطري بينما انشغل الجار السعودي بأكثر من قضية بينها مسائل الخلافة الداخلية وبينها أيضاً اشتعال حدود المملكة بثورتي البحرين واليمن، وبينها ثالثاً توتر العلاقات مراراً مع إيران وضبابية أوضاع الجار العراقي قبيل الانسحاب الأميركي وبعده. البعض يقول إن الحركة القطرية تتم بضوء اخضر سعودي والبعض الآخر يقول إن الرياض مستاءة وتنظر بعين الحذر.

كيف سيزهر الربيع الإخواني؟

لعل الإخوان المسلمين كانوا في طليعة المقاومين والممانعين عربياً. هم قاتلوا بشراسة في فلسطين. علاقتهم بها بدأت قبل التقسيم. البعض يعيد تلك العلاقة إلى عام 1935 حين زار عبد الرحمن البنّا شقيق الإمام حسن البنّا مؤسس جماعة «الإخوان» في مصر فلسطين للقاء زعيمها ومفتي القدس آنذاك الحاج أمين الحسيني. كان الحسيني يرأس المجلس الإسلامي الأعلى. شكلت الجماعة كذلك اللجنة المركزية العامة لمساعدة فلسطين وراحت تبث الدعاية ضد الاحتلال البريطاني.
كان النشاط العسكري للإخوان المسلمين في فلسطين قد بدأ يتركز بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تم إرسال الضابط المتقاعد محمود لبيب الذي تولى في ما بعد منصب نائب المرشد العام للشؤون العسكرية إلى فلسطين. كانت مهمته التوفيق بين الفرق المقاتلة والإشراف على عدد من المجموعات العسكرية. تقاطرت في حينه وفود «الإخوان» المقاتلة إلى فلسطين. ذهب جلّها من مصر والأردن وسوريا لتقاتل بغية الحفاظ على الأرض، ومنهم من كان يعود ليجد السجن في انتظاره حين تسوء علاقة «الإخوان» بالسلطة في بلاده.
وقد فرَّق الإمام حسن البنّا بين اليهود وبين قادة إسرائيل سارقي ارض فلسطين. ثمة من ينقل عنه، حين اجتمع بلجنة مشتركة أميركية بريطانية كانت تزور الوطن العربي لبحث مستقبل فلسطين، قوله إن «خصومتنا لليهود ليست دينية، فالقرآن الكريم حض على مصافاتهم ومصادقتهم، والإسلام شريعة إنسانية قبل أن يكون شريعة قومية». لكن الإمام نفسه كان ومنذ ممارسته مهنة التدريس حتى تأسيس الجماعة يدعو إلى حماية فلسطين والدفاع عنها.
كل الأدبيات الحديثة للإخوان، وضعت فلسطين في الصدارة. «إخوان» مصر ضغطوا على السلطات مراراً لفتح الجبهات أو لوقف معاهدة كامب ديفيد. نشأت حركة حماس لتصبح «درة تاج» الإخوان (يبدو أن التوصيف استخدمه السيد حسن نصر الله في احد اللقاءات)، في مجال القتال في فلسطين، وصولا إلى الصمود اللافت في غزة عام 2009. وحين تقارب «إخوان» العراق مع الحاكم العسكري الأميركي بول بريمر، جاءهم النقد قاسياً من عدد من قادة «الإخوان» في مصر.
كانت أنظمة عربية عديدة، وفي مقدمها نظام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، ترغب ضمنياً عام 2009 بأن تنتصر إسرائيل على حركة حماس. ولكن الحركة لم تستنجد بأحد من العرب. انتظر رئيس جهاز الاستخبارات العامة المصرية اللواء عمر سليمان خمسة أيام قبل الاتصال بقادة حماس في الخارج. اعتقد أن الحركة قد أنهكت وتستجدي وساطة. تبين أن قادتها على غير عجلة من أمرهم. لم يرسلوا موفداً إلى القاهرة إلا بعد يومين من اتصال سليمان. إيران نفسها الداعمة للحركة بالمال والسلاح أدركت أن الحرب شديدة الصعوبة وبالغة الوطأة على حماس ومناصريها. وكان رئيس المكتب السياسي للحركة في الخارج خالد مشعل يقول لمحادثيه من طهران إلى القاهرة «هؤلاء رجالي وأنا اعرفهم وسوف ينتصرون بإذن الله». وانتصروا.

«التمكين» أولاً

كل ذلك صار ملكاً للتاريخ. اليوم الأسئلة كثيرة. هل أن شعار «المقاومة الشعبية» الذي طرحته حركة حماس، يعني انتهاء العمل المسلح ضد إسرائيل؟ هل أن الانتقال من مفهوم المعارضة إلى مفهوم السلطة عند الإخوان المسلمين في الوطن العربي، يعني الانفتاح على أميركا والغرب والقبول بمعاهدات السلام مع إسرائيل؟ هل أن المصالح الاقتصادية والسلطوية ستضع حداً لمبدأ مواجهة «العدو التاريخي» للإخوان.
ثمة كلمة بالغة الدلالة يراد لها اليوم أن تختصر جزءا من الإجابة. يجري الحديث عن كلمة «التمكين». مفادها أن على الإسلاميين، الذين وصلوا بالثورة والانتخابات إلى مراكز السلطة، أن «يتمكنوا» مما وصلوا إليه أولا ثم يصار للحديث عن الأمور الأخرى. الأوضاع الداخلية هي الأساس حالياً. لا بد من استكمال عملية الانتقال من الشارع إلى مراكز القرار.
لبعض الإسلاميين خبرة طويلة في العمل الشعبي كإخوان مصر برغم القمع والسجن والمنع، وبعضهم طارئ على هذا العمل لأنه انقطع طويلا عن بلاده، وفي مقدمة هؤلاء الشيخ راشد الغنوشي وحركة النهضة، فالرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي سد عليهم كل المنافذ ونكل بهم وسجنهم ونفاهم.
ثم هناك التجارب الإنسانية الشخصية التي لعبت دورها في تغيير بعض المفاهيم. الشيخ راشد عاش طويلا في بريطانيا، وفيها عاش أيضا المراقب العام السابق للإخوان المسلمين في سوريا علي صدر الدين البيانوني. مثلهما كان شأن سليمان عبد القادر المراقب العام «لإخوان» ليبيا الذي عاش في سويسرا. كذلك شأن الشيخ الجزائري رابح كبير في ألمانيا. هؤلاء امتزجوا في الغرب ورأوا أولادهم يكبرون وسط مفاهيم غربية، وتعلموا الكثير من أمور الحكم والديموقراطية والحريات، لم يكن غريباً إذا أن يقول الغنوشي إن لا نية لدى حركته لمنع الخمور أو ارتداء مايو البحر للنساء.
«التمكين» وعدم إثارة الغرب، وطمأنة الشارع العربي الثائر بربيعه المتعدد الانتماءات والايديولوجيات، والحفاظ على علاقات اقتصادية وسياسية واسعة مع الغرب، صارت العناوين البارزة للإخوان المسلمين في سياق وصولهم إلى السلطة والاستقرار فيها.

العلاقة مع إسرائيل

يتفق معظم باحثي العلوم الاجتماعية في الوطن العربي على أن أفكار العلمانية واليسار انحسرت كثيراً في العقود الماضية. بعض اليسار أغراه المال، كما حصل مع بعض الشيوعيين في لبنان حين التحقوا بأنظمة نفطية أو بمرجعيات سياسية جاءت بمالها من دول النفط. وبعضهم أدرك العجز عن تحقيق الأماني خصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. صار الإسلاميون بجناحيهم المتطرف والمعتدل يغطون النقص الكبير في الإيديولوجيات. ساعدهم على ذلك فقر حال شعوبهم وغطرسة الحكام وفسادهم، في مقابل قدرتهم على مساعدة الناس عبر نشاطاتهم الإنسانية والاجتماعية أو من خلال «تنفيس» الاحتقان الشعبي بالشعارات المتحدية للسلطات.
كان الرأي العام العربي مؤهلا، إذا، لاستقبال موجات «الإخوان» وإيصالهم إلى السلطة. وكان لافتاً أن الشعارات التي رفعت في كل الثورات العربية غيَّبت إسرائيل وأميركا. كل الشعارات ركَّزت خصوصا على الرؤساء والأنظمة الواجب الإطاحة بها. لم يكن الصراع العربي -الإسرائيلي محوريا في الثورات. غابت السياسة الخارجية تماما عن شعارات الثائرين.
نظرت واشنطن بشيء من الارتياح إلى ذلك. قلقت كثيرا في البداية على حلفائها. سعت لإبقاء مبارك وبن علي في السلطة. ترنح الموقف الفرنسي أيضا خصوصا حيال تونس. لكن حين تبين أن تسونامي الشعوب أقوى من كل الكوابح، تم وضع استراتيجية أميركية وغربية سريعة تلقفت تلك الثورات، وهي حتى اليوم لا تزال تسعى لاحتواء ما حصل وتوجيهه بحيث تتم المحافظة على المصالح الغربية من جهة وحماية إسرائيل من جهة ثانية.
تعددت اللقاءات بين المبعوثين الأميركيين و«إخوان» مصر. تمت دعوة الشيخ راشد الغنوشي إلى الولايات المتحدة. استُقبل مصطفى عبد الجليل بحفاوة كبيرة في فرنسا بعد تولي مجلسه السلطة في ليبيا. صار احتضان كبير للمجلس الوطني السوري في الغرب المدرك تماماً أن جزءاً كبيراً من أركانه هم من الإخوان المسلمين.
بادل الإخوان المسلمون الغرب انفتاحه بانفتاح مماثل. سارع «إخوان» مصر إلى التأكيد على استمرارية المعاهدات الدولية. قال قادتهم إن مجلس النواب الذي صادق على كامب ديفيد هو وحده المخول بتعديلها أو إلغائها. أكد الغنوشي في «معهد واشنطن» المتهم بالقرب من إسرائيل إن «دستور تونس الجديد لن يحتوي على مواد تدين إسرائيل، ولن يشير الدستور إلى دولة غير تونس»، معتبرا أن «الأولية بالنسبة له الآن هي معالجة مشاكل بلاده وبينها مليون عاطل عن العمل».
العلاقات بين أميركا والغرب و«الإخوان» تتطور على نحو لافت. أصبحت الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند تقول، من دون أن يرمش لها جفن، «إن جماعة الإخوان المسلمين في مصر قدمت للولايات المتحدة ضمانات بالنسبة إلى احترام معاهدة السلام مع إسرائيل، وقد قطعوا لنا تعهدات بهذا الشأن».
تسابق «حزب النور» السلفي وجماعة «الإخوان» في مصر على تبرير أو تكذيب أو تصويب ما نقل عنهم من سعي للانفتاح أو الحوار مع إسرائيل. لكن أحداً لم يقل صراحة ما هو مستقبل الصراع، وهل أن إسرائيل لا تزال عدوة وان العمل المسلح معها هو الأساس أم أن السلام هو عنوان المرحلة المقبلة.
سارع الليبراليون والناصريون وبعض التيارات القومية إلى اتهام «الإخوان» بمغازلة الغرب. رد «الإخوان» على الاتهام بآخر يقول إن الليبراليين والناصريين لا يريدون للإسلام أن ينتصر.
اضطر نائب المرشد العام للإخوان في مصر الدكتور رشاد بيومى للتذكير بان إسرائيل هي «كيان مغتصب ومحتل ولا يجوز الاعتراف به، وأن معاهدة السلام مع إسرائيل لا تزال محل النقاش ومن الجائز أن يستفتى عليها الشعب المصري الذي لم يقل كلمته في هذه المعاهدة. وأكد أنه لا يقبل أن يجالس إسرائيلي مجرم على طاولة مناقشة». قيل انه رد أيضاً على تصريحات «حزب النور» السلفي حيال احترام معاهدة السلام.
تسربت معلومات تفيد بان وزارة الخارجية الإسرائيلية طلبت من سفيرها في القاهرة إجراء اتصالات مع «الإخوان». سارع الناطق الرسمي باسم «الإخوان» وعضو مكتب الإرشاد محمود غزلان إلى نفي ذلك. قال: «إن الإخوان يرفضون تماماً أي لقاءات أو حوارات أو تواصل مع الكيان الصهيوني وهم يعلمون ذلك جيداً». ذكَّر بأن موقف «الإخوان» هو «رفض قاطع للوجود الصهيوني على ارض فلسطين، ومطالبة بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر». اعترف السفير الإسرائيلي السابق في القاهرة اسحق ليفانون بأنه نصح الخارجية الإسرائيلية بالتحاور مع «الإخوان» لأنهم «براغماتيون وأقل تطرفاً مما تعتقد إسرائيل»، لكنه أكد أن الخارجية منعته من ذلك.
ليس كل ذلك مهماً. فالإخوان قادرون على التعاطي مع إسرائيل من خلال الخارجية المصرية لكونهم مضطرين إلى ذلك، كما أنهم قادرون على عدم القيام به. ثمة من يقول إن عدم سعيهم لرئاسة مصر نابع من قناعتهم بأن الرئيس مضطر للعمل وفق معاهدة «كامب ديفيد».
الأهم هو ماذا سيكون موقف «الإخوان» في حالة حرب إسرائيل على غزة مثلا؟ وهل سيقبلون بأن تمضي إسرائيل بقضم الأرض وبناء المستوطنات والحفر تحت ما يعتبرونه احد أقدس الأقداس؟!.

إسرائيل تبتسم بقلق

لا تعرف إسرائيل كيف تتصرف مع هذا «الربيع الاخواني». هي تسعى للتقرب منه. لا يمكنها أن تبقى بعيدة أو أن تعادي. «الإخوان» سيحكمون الدول التي لإسرائيل معها علاقات (مصر، تونس، المغرب وغيرها...) ولهم حضور قد يشتد ويقوى في دول مجاورة أخرى (الأردن وسوريا ولبنان وفق بعض المصادر الإسرائيلية). تدرك إسرائيل أن مراكز أبحاث أميركية مؤثرة في القرار الرسمي تنحو صوب استيعاب الإسلاميين والتعاطي معهم ودفعهم لاتخاذ المثال التركي نموذجاً. لكن القلق سيد الموقف.
يقول الكاتب الإسرائيلي شلومو تسزنا «في إسرائيل ثمة قلق فعلي من صعود الإخوان المسلمين في مصر، ولا سيما على خلفية مذهبهم الفكري وتصريحات رجالهم التي تضع معاهدة السلام في خطر». يروي أن مجلس الأمن القومي الإسرائيلي أوصى في ختام اجتماعاته الأخيرة «بتركيز الجهود مع إدارة (الرئيس الأميركي باراك) أوباما للتخفيف من سذاجة الموقف الأميركي حيال ظاهرة الإخوان»، كما أوصى بدفع الدول الأوروبية لتشديد الضغوط... ذلك أن حاجة الإسلاميين إلى المساعدات والتسهيلات المالية الأوروبية يجعل الأوروبيين أكثر قدرة على التأثير فيهم، لكنه يحذر أيضاً من مستقبل العلاقات الروسية والصينية مع الجماعة.
يحق لإسرائيل أن تقلق. من الصعب تخيل الشارع المصري هادئاً لو قرر جيشها اجتياح غزة بوحشية على غرار ما فعل عام 2009. لن يقف «إخوان» مصر مكتوفي الأيدي يتفرجون على رفاقهم في حماس يقتلون تحت القصف الإسرائيلي. لن يقفلوا المعابر أو يردموا الخنادق والأنفاق كما فعل مبارك. وها هم «إخوان» الأردن، ممثلين بجبهة العمل الإسلامي، يطالبون الحكومة الأردنية قبل فترة قصيرة بإلغاء معاهدة وادي عربة الإسرائيلية - الأردنية. يقولون إن المعاهدة، التي وقعت عام 1994، «قيَّدت الأردن سياسياً وخربته اقتصادياً، وما عادت على الأردن في خلال السنوات الماضية إلا بما هو سلبي». من الصعب أيضا تخيل أي شارع عربي يحكمه «الإخوان» هادئاً في حال اعتداء إسرائيلي.
إن سياسة «التمكين» والحاجات الاقتصادية والمعاهدات الدولية تدفع قيادياً اخوانياً كالشيخ راشد الغنوشي إلى القول إن «النزاع الفلسطيني الإسرائيلي مسألة معقدة وإن معظم الفلسطينيين قبلوا فكرة حل الدولتين، وإن هذه المسألة تعني اليوم الفلسطينيين والإسرائيليين أكثر من أي طرف آخر، وأنا معني بتونس والجميع معنيون بمصلحتهم الخاصة»، لكن كل أدبيات الشيخ راشد تقول عكس ذلك وتصب في خانة الدفاع عن فلسطين وأهلها لو تغطرست إسرائيل.

إيران و«الإخوان»... من يمنع التقارب؟

يقول مسؤول في حركة حماس إن وجه الوطن العربي والعالم الإسلامي كان سيتغير لو نجح التحالف بين الإخوان المسلمين وإيران. يمكن للمرء أن يتخيل القدرات الهائلة لعالم يمتد من تركيا مروراً بالمشرق العربي والخليج وصولاً إلى المغرب. مثل هذا الآمر كان سيتحول كارثة بالنسبة لإسرائيل وداعميها. قال مرشد الثورة الإسلامية في إيران آية الله على خامنئي «إن الصحوة الإسلامية التي تشهدها المنطقة تبشر بانتصار الشعوب». كان لا بد إذا من غرس الأسافين والسكاكين في جسد أية محاولة للتقريب.
سعت القيادة الإيرانية مراراً لاحتواء حركة الإخوان المسلمين في الوطن العربي. فتحت خطوطاً مع الجميع، بمن في ذلك مع جماعة الإخوان السوريين رغم تحالفها الاستراتيجي مع النظام السوري. الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، كان قد مد بنفسه خطوطاً مع الإخوان السوريين. يقال إنه حصل على ضوء اخضر سوري كبير لذلك. كان الإخوان السوريون قد طلبوا سابقا من حركة حماس التوسط. يقال إن خالد مشعل نفسه كان قريبا من تلك الأجواء وكذلك الداعية اللبناني الراحل فتحي يكن. حصلت اتصالات إيرانية- مصرية بعيدة عن الأضواء. كانت ثمة اتصالات مماثلة سابقا مع الشيخ راشد الغنوشي. ولعل انجح العلاقات كانت تلك التي ربطتها بحركة حماس سياسيا وعسكريا وماليا.
كان يمكن لتلك العلاقات أن تتطور بسرعة لولا التأجيج المذهبي الذي سيطر ولا يزال على الوطن العربي منذ سنوات. تفاقم ذاك الشعور بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. اشتد بعد حرب إسرائيل على لبنان عام 2006. وصل إلى ذروته مع ربيع الثورات العربية. بات اسم إيران أو رفع علم «حزب الله» تهمة حتى في الدول التي دعمت المقاومة بالسلاح والموقف والرجال كسوريا.
حاول أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني سعيد جليلي تعديل مجرى الرياح. سعى لإقناع حركة حماس بالمجاهرة بموقف داعم لسوريا في ازمتها الحالية. دخل رئيس لجنة الامن القومي في مجلس الشورى علاء الدين بروجـردي على الخط اكثر من مرة. ذهب الى القاهرة. اتصل بأطراف اسلامية عربية. نصح تركيا بتعديل موقفها حيال دمشق.
كل ذلك لم ينفع كثيراً حتى الآن. هناك عقدتان رئيستان اولاهما وأهمهما ايران، وثانيتهما سوريا. من يستمع الى حركة حماس نفسها قد يسمع اليوم بعض اللوم حيال الموقف الإيراني من دمشق. ربيع الإخوان المسلمين يغير التحالفات ويغري بالكثير.
تريد الدول الغربية ومعها اسرائيل ان يكون في الربيع الاخواني العربي سندا لتطويق إيران. فمع سقوط حسني مبارك الذي كان قد صدق شعار الملك الأردني عبد الله الثاني «الهلال الشيعي» صار المد الإسلامي في الوطن العربي عظيم الخطورة، خصوصا إذا ما تلاقى مع الثورة الإسلامية الإيرانية. الطرفان الاخواني والإيراني يلتقيان كثيرا في السياسة الخارجية المناهضة للهيمنة الأميركية ولإسرائيل. قال خامنئي ان «الاستكبار العالمي قلق من تظاهرات الشعوب وانتصار الإسلاميين في الانتخابات وأن أحداث الأشهر الأخيرة في الدول الإسلامية وخاصة العربية ثورات حقيقية ولكن بأحجام مختلفة». أوحت إيران بترحيب كبير بما حصل، فتحركت آلة أخرى لزرع الشقاق. يقول مسؤول إسلامي عربي مقرب من طهران: «لاحظوا في أية فترة بالضبط ارتفع منسوب الضغوط على إيران، وكيف وصل الأمر إلى حد فبركة محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن. جاء ذلك في أوج الثورات العربية».
كانت سوريا مفصلية في المد «الاخواني». أول الأحاديث التي دارت في دمشق بعد سقوط بن علي ومبارك، كانت تتوقع ان يلعب الرئيس بشار الأسد دورا كبيرا في مستقبل الوطن العربي. ظن كثيرون في طهران ودمشق وفي أوساط «حزب الله» ان سقوط الأنظمة المعتدلة المعادية للمقاومة سيقوي محور سوريا-ايران. ذهب احد القادة العسكريين الفاعلين في النظام السوري إلى حد القول لضيف عربي إسلامي زاره إن الأسد سيصبح مثل الزعيم جمال عبد الناصر. قال ذلك وهو ينظر إلى سقوط أنظمة حليفة لأميركا ولكن أيضا وهو ناظر إلى النهاية المذلة للمشروع الأميركي في العراق.
الآن تستعيد سوريا أهميتها في مراكز الأبحاث الغربية والإسرائيلية. ماذا لو تقدم تسونامي الإخوان المسلمين صوبها؟ يقول البعض إن ذلك سيكون أفضل لإسرائيل فنظام بشار الأسد لم يقدم شيئا فعليا بل انه دعم «حزب الله» وحماس وساهم بالتالي في زعزعة صورة الجيش الإسرائيلي. يستند هؤلاء إلى تصريحات كثيرة لجماعة الإخوان السوريين وبينها ما قاله علي صدر الدين البيانوني من أن «حزب الله افسد الوضع اللبناني خدمة لسوريا وإيران». تدل هذه التصريحات والاتهامات لـ«حزب الله» وإيران عن شرخ يكبر يوما بعد آخر بين إخوان سوريا وإيران و«حزب الله». أضيف إلى ذلك حديث البيانوني (الذي لم تعرف ظروفه تماما بعد) للقناة الثانية الإسرائيلية والذي قال فيه إن إسرائيل موجودة ويحق لها العيش بسلام. يخدم هذا الشرخ إقناع الغرب بضرورة تسريع خطوات إسقاط نظام الأسد وإيصال «الإخوان» الى القيادة، وتلعب تركيا وقطر دورا محوريا في ذلك. يراد القول ان «إخوان» سوريا سيكونون لاسرائيل والغرب افضل من النظام الحالي.
مثل هذه القناعة ترسخت خصوصا عند وزير الدفاع الإسرائيلي ايهود باراك ووزير الخارجية المتطرف افيغدور ليبرمان. لكن ثمة رأياً آخر يقول في الغرب وأيضا في إسرائيل، إن سقوط الأسد قد يعني فوضى عارمة في المنطقة لن تكون بالضرورة لصالح إسرائيل، وإن وصول «الإخوان» إلى الحكم السوري يعني استكمال الطوق الإسلامي حول العنق الإسرائيلي.
في هذا الوقت تجد حركة حماس نفسها في موقف لا تحسد عليه. فلا هي قادرة على الاندفاع مع تيار الإخوان المسلمين المناهض بقوة حاليا لنظام الأسد، ولا هي قابلة لان تقف إلى جانب النظام والمجاهرة بموقف داعم له كما فعل «حزب الله».
لعل مشكلة سوريا الحالية تكمن في ان كل الاحتمالات صعبة. فلو صمد النظام ووضع حدا لطموحات الإسلاميين، فكيف سيكون مستقبل علاقته مع دول عربية بات جلها خاضعاً لتسونامي الربيع الاخواني، ولو اشتد الضغط عليه فهو قد يضطر إما إلى وقف هذا التسونامي بالقوة ما يعني مزيدا من الدماء، أو القبول بتسوية سياسية تاريخية يكون للإخوان فيها دور كباقي أطراف المعارضة.
ومع ذلك، فثمة من يقول ان دولا عربية وغربية فوجئت بان الثورات العربية جاءت بهذا الكم الكبير من الإسلاميين، وفوجئت أكثر بأن ثمة سلفيين في مصر وتونس صاروا يتصدرون بعض المشهد. يقال ان إعادة قراءة هادئة لما يحصل جارية حاليا وبقوة في الغرب وإسرائيل بغية معرفة السبل الأفضل للتعاطي مع هذا الربيع الإسلامي. ورغم تطمينات البعض بأن حجم المشاكل السياسية والاقتصادية في الدول العربية لن تبقي الإسلاميين في السلطة أكثر من 4 او 5 سنوات، الا ان القلق من المستقبل الإسلامي كبير. ويذهب البعض إلى حد القول إن الإستراتيجية الأميركية برمتها قد تبدأ بالابتعاد شيئا فشيئا عن المنطقة وتركز صوب آسيا لمعرفة الأميركيين بأن مستقبل المنطقة عظيم الصعوبة.
ولعل دولة كبيرة كروسيا والصين بنت الكثير من مواقفها الاخيرة حيال سوريا انطلاقا من موقفها القلق من وصول الإسلام السياسي الى تخومها.
ثمة من يقول في الغرب اليوم: «نعرف أن مصالح الإخوان حاليا تدفعهم للانفتاح ولكن إيديولوجياتهم اخطر من أن ننام قربها على فراش من حرير». لعل هؤلاء على حق، فمن الصعب تصور الإخوان المسلمين يقبلون بما قبل به نظام مبارك وبن علي، وسوف يقاس ذلك بدقة عند أول اعتداء إسرائيلي على الفلسطينيين. هذا بالضبط ما يدفع المراقبين لتوقع مزيد من الدماء والقتل في المنطقة منعاً لأي لقاء بين الإيديولوجيتين السنية والشيعية، فكلاهما معاد بعمق لإسرائيل وهيمنة الغرب حتى ولو كانت سياسة «التمكين» هي الطاغية حالياً.

سامي كليب

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...