رماد المثقفين

06-11-2012

رماد المثقفين

 

عمار سليمان علي: ينطوي مفهوم الثقافة, وبالتالي مفهوم المثقف, على حقول واسعة التنوع ومضامين متعددة جداً. والثقافة في أحد أبسط تعاريفها هي النظام المعرفي الذي يخزن المعلومات وينقلها ويحدد موقع الجماعة/الأمة/الدولة/الوطن في الزمان والمكان, بشكل شديد الترابط, فلا الجزء الأول (الخزن والنقل) يكفي لوحده دون استكماله بالجزء الثاني (تحديد الموقع), ولا الجزء الثاني يمكن أن يقوم بذاته دون أن يعتمد ويستند إلى الجزء الأول. ومن البديهي أنه يتوجّب على المثقف الحقيقي, غير المزيف, وغير المصطنع, وغير المدّعي, وغير المغرور, وغير الأناني, أن يكون سبّاقاً في هذا المجال, أي مجال المساهمة في تحديد موقع جماعته/ أمته/ دولته/ وطنه في الزمان والمكان, انطلاقاً من المعلومات التي يخزنها وينقلها ويتفاعل معها. ومما لا ريب فيه أن الحاجة للمثقف ولدوره الريادي, تشتد أكثر ما تشتد, في خضمّ الأزمات التي تعصف بكيان الجماعة/الأمة/الدولة/الوطن, وتهدّد وجوده وموقعه في الزمان والمكان, مثل هذه الأزمة التي تعصف ببلدنا حالياً, والتي تحتاج من كل فرد منا, عموماً, موقفاً واضحاً حاسماً صلباً متيناً واعياً حكيماً, , لا تردّد فيه ولا تخاذل ولا انتهازية ولا أنانية, كما تحتاج من المثقفين, خصوصاً, بالإضافة لما سبق, موقفاً استقرائياً رؤيوياً, قادراً على سبر الأغوار, واستكناه الأعماق, وقراءة ما بين السطور وما وراء الكلام, والقفز بالتفكير سنوات إلى الأمام.. وليس إلى الخلف بطبيعة الحال!

وإذا كان القافزون إلى الخلف يحذفون أنفسهم تلقائياً من قائمة المثقفين الرياديين, لعدم استيفائهم لشروط التعريف الوارد أعلاه للثقافة والمثقفين, فإن الواقع المرّ هو أن نسبة غير قليلة من المثقفين يميلون إلى المواقف الرمادية الوسطية, أو الضبابية الغامضة, التي تضرب مرة على الحافر ومرة على المسمار, أو لا تضرب على الإطلاق. وتختلف الأسباب والمنطلقات والدوافع بين مجموعة وأخرى من هؤلاء الرماديين, فبعضهم من منطلق الخوف على نفسه ورزقه وعياله, وبعضهم من منطلق الألم الذي يعيقه عن الفعل, وبعضهم من منطلق العجز البنيوي والخلل الفكري, وبعضهم من منطلق شعار "الثقافة للثقافة", وبعضهم من منطلق الترفّع عن الخوض فيما يخوض به من يعتبرهم غوغاء أو عامة (فقد كان قبل الأزمة في برج عاجي, وبقي بعد الأزمة في نفس البرج, وربما زاد من سماكة جدرانه وزجاجه!), وبعضهم من منطلق انتهازي بحت, ينتظر رجحان الكفة لكي يصفق للقوي والمنتصر, وهذا الأخير هو ـ بدون شك ـ أبشع أنواع المثقفين, وأكثرهم ترشحاً ـ بجدارة ـ للحذف من القائمة, حتى وإن بقي مخزناً وناقلاً للمعلومات, ولو كان حاملاً لأرفع الجوائز وأرقى الأوسمة وأعلى الشهادات!.

هل هي مجرد صدفة لغوية أن يكون الرمادي والرماد شبه متطابقين بالأحرف وباللفظ؟! أم يوحي هذا بأن الرمادي هو الأكثر قابلية للتحول إلى رماد, ليس بالمعنى الحرفي للكلمة ـ طبعاً ـ بل بالمعنى المجازي؟! فالمثقف الذي وقف موقفاً رمادياً خلال أزمة كبرى كهذه, ألن يفقد ثقة الناس به؟ ألن يفقد جمهوره الذي طالما أحبه وأحب إبداعاته وأعجب بثقافته واعتبره مثلاً أعلى؟! وبالتالي أليس من المرجح جداً أن ينطفئ وهجه ويصبح أشبه بالرماد؟!

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...