عصر ما بعد اليسار

13-03-2015

عصر ما بعد اليسار

إذا كان الشطر الأكبر من القرن العشرين هو العصر الذهبي لليسار، فنحن اليوم في زمن آخر، زمن «ما بعد اليسار» إذا صحّ القول، وقد يجعلنا هذا نرنو إلى الحالة من خارجها، ونقاربها بأقل قدر ممكن من العاطفة. بداية، مَن هو اليساري، ما ماهيته، ما أوصافه، ما أهدافه، وهل اليسار كتلة واحدة أم أفراد؟
 أعتقد أنه ليس من السهل الإجابة على هذه الأسئلة، التي تبدو بسيطة، من دون النظر إلى الصورة النمطية التي قدّمتها السردية الشاملة والملحمية عن اليساري في فترة بطولته، والتي اختلط فيها الواقع مع الخيال أحياناً؛ فمهما حاول البعض أن يبخس اليساريين حقهم إلا أنهم كانوا أبطال مرحلتهم بامتياز، وكان حضورهم طاغياً على الصعيد العالمي، ففي السنوات الأولى للثورة البلشفية قلّما نجا مثقف أو كاتب في العالم من تأثيرات هذا الفكر الاشتراكي أو اليساري.
يعرف الجميع أن بلاد العرب لم تكن بمنأى عن هذا التأثير، فمنذ مطلع العشرينيات في القرن الماضي، تكوّن الرعيل الأول لليسار العربي، فظهرت في مصر وبلاد الشام شخصيات وتجمّعات وأحزاب شيوعية، هبّ أفرادها (المعلمون) يكرزون بمبادئهم الجديدة، حتى بلغوا بها في وقت قصير أقصى القرى والدساكر والأحياء المظلمة.
لقد كان لهذا الرعيل والرعيل الذي تلاه أيضاً دور في نشر فكر جديد وحديث في مناطق تعمّ فيها الأمية والفقر، لكنها تعجّ بالأحلام؛ ولذلك لا نستطيع أن نقول إن اليسار العربي والماركسي منه تحديداً أخفق في كل شيء. أعتقد في تقريره إلى شعوب الشرق كان لينين واقعياً جداً، كعادته، في النظر إلى الشيوعيين في المستعمرات وفي بلدان المشرق، مشيراً إلى صعوبة عملهم وحدود الدور الذي يمكن أن يقوموا به، وهو في نظر لينين مهم جداً على ضآلته. وأعتقد أن اليساريين نجحوا إلى حد كبير في تأكيد حضورهم الثقافي والتحرري، ولذلك كان أصحاب اليسار جزءاً من ديالكتيك العملية الثورية العالمية؛ وذلك رغم الظروف الصعبة، والمطاردة والمعتقلات، والموت تحت التعذيب. كان اليساريون كمن يرقص على الجمر؛ حملَة تنوير وتحرّر وحداثة، وإذا اعترفنا لهم بهذا نكون قد أوفيناهم بعض حقِهم، أما الذين يستهويهم اليوم جلد اليسار العربي والتحدّث عن إخفاقاته، فيحمّلونه مسؤولية كل ما آلت إليه الأمور، فهذا جحود ما بعده جحود، ومبالغة في تحميل هؤلاء ما لا طاقة لهم على تحمّله، وقفز عن الواقعية والظروف التاريخية التي نشأ فيها هذا اليسار، واستهانة بالأحلام النبيلة، فحساب الأمور بالنتائج ليس أمراً ثقافياً على الإطلاق، بل هو أقرب إلى منطق أرباب العمل ورجال المال.
قد تكون واحدة من أخطر مشاكل تاريخ اليسار، أنه لطبيعة طوباوية فيه، وعدَ بأكثر مما يستطيع أن يقدّم. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فهل نجح اليمين والبرجوازية العربية في شيء؟! لقد كان بيدهما ما لم يكن بيد اليساريين. أجل قد توجد أخطاء عديدة في سيرة حياة اليسار، ولكن المصير المأساوي لهذا اليسار، وفق نيتشه، هو النسق الأهم في هذه السردية إذا كنا نريد أن نتحدّث من منظار ثقافي، ويمكن أن نلخص الحكاية على الشكل التالي: «الزمن: مطلع القرن العشرين حتى السبعينيات منه أو أكثر بقليل. والمكان: قلب العالم العربي (مصر وبلاد الشام) والحالة العامة: ليل مطبق، ظلمات فوقها ظلمات قرون، إلا بقع ضوء تنوس من هنا وهناك، وومضت على أشدّها في ما سُمّي عصر «النهضة العربية الأولى» الموؤود.
حالمون
 في هذه الظروف، انبرى رجال حالمون بالتغيير، يحملون طاقة كبيرة من الأمل، مستجيبين لأصداء كونية كانت تتجاوب في كل أنحاء العالم. ولنا أن نتخيّل أن هؤلاء الفرسان لم ينوجدوا ولم تلامسهم الموجة أبداً، كم ستكون الحكاية موحشة ومقفرة؛ بل إلى أي حدّ كان سيبلغ التصحر؟! مع هؤلاء ازدهرت الثقافة والجدل والصحافة وانتعشت الفنون على قدر الإمكان، وتراكمت الترجمات المختارة التي كانت لنا نحن الأجيال اللاحقة كمصل الدم للمريض. وإذا كان من الطبيعي أن يرفض اليسار شرعية السائد، وهو في أهم تعريفاته أنه رفض دائم، ويدعو إلى تغيير هذا الواقع، فإن اليمين لم يعترف اعترافاً حقيقياً بوجود اليسار إلا بصفته جماعة مارقة من الأفاقين الملحدين والمنحلّين أخلاقياً، والذين يتلقّون التعليمات من السوفييت.
على كل حال ورغم هذه الحملات ضدهم استطاع اليساريون أن يفرضوا حضورهم الجماهيري، وأن تدور في فلكهم حركات جديدة أكثر راديكالية أحياناً. ولكن، هل كان اليسار العربي راديكالياً حقاً؟ من خلال اطلاعي المتواضع على تاريخ هذا اليسار الرومانتيكي، أستطيع أن أجزم أن الجسم الرئيسي «الأرثوذكسي» لليسار كان إصلاحياً وأبعد ما يكون عن الجذرية ويتأفف بشدة من الشعارات التي تدعو إلى العنف المسلح، والتيارات الأكثر تطرفاً والمنشقة عن هذا اليسار (الرخو) لم تمارس العنف المسلح إلا في أحلامها أو مفرداتها الشعبوية، والأمثلة على ذلك كثيرة، طبعاً إذا ما تغاضينا عن الأساطير والحكايات التي كرّسها شعراء اليسار عن ثورات مسلحة، لا تتعدّى أن تكون حوادث عابرة تم فيها الاحتكاك مع بعض الدرك!
اليسار العربي عموماً كان بمجمله يساراً ثقافياً تنويرياً ولم يتعدّ ذلك إلا في حالات نادرة مارس فيها اليساريون المقاومة، كما فعل اللبنانيون وبعض الفصائل الفلسطينية، وإذا كان مظفر النواب وحيدر حيدر قد تغنوا بثورة الأهوار في جنوب العراق؛ فقد سمعتُ منذ سنوات شهادة تلفزيونية لــ «عزيز الحاج» أحد القادة الشيوعيين الذين ينسب لهم هذا النشاط الثوري المسلح يقول مبتسماً: إن ثورة الأهوار لم تكن إلا مجموعة رفاق من تسعة أشخاص تاهوا في أحراج القصب، وصادفوا في طريقهم مخفراً للشرطة فيه بعض الحراس النائمين، فاستولوا على بعض البنادق وتمت مطاردتهم والاشتباك معهم. وسمعت أساطير مشابهة عما كان يُسمّى منظمة «أنصار» المشكّلة من بعض عناصر من ثلاثة أحزاب شيوعية انبرت للمشاركة في العمل الفدائي، وكان هذا تعبيراً عن الجدل القائم داخل اليسار الشيوعي حول الكفاح المسلح، والذي تطور إلى انشقاقات كبيرة داخل هذه الأحزاب.
عصر اليسار
 أما اليوم وقد مضى عصر اليسار، وبات وكأن الزمن الذي يفصل بيننا وبين ماركس ولينين وتروتسكي يعادل قروناً؛ حتى يصحّ أن يتوهم البعض أن الأبطال الكلاسيكيين الثلاثة بكل ما أحدثوه من وقع شديد على إيقاع العالم الحديث ينتمون إلى عصور ما قبل التاريخ، ويا لها من مفارقة! تجيز لنا أن نستشهد لها بمقطع من قصيدة بتلر يتس «المجيء الثاني» وكأنها رثاء متقدم لليسار على شكل نبوءة: «المركز يتفتت والخيّرون يفتقدون أي يقين!». نحن اليوم، وقد دخلنا في عصر اللويثان الجديد، بعد أن بدا العالم للوهلة الأولى وكأنه يوضع بين أيدي (التكنوقراط المحايد) ليتبين أنه بين أيدي أعتى اليمين (المحافظ) الذي لم يتوقف للحظة عن تسعير الحروب، وإحياء العنصرية، وتغذية أشد الحركات الدينية ضراوة وظلامية، وفي ظل غياب تام لليسار بعد أن سُرق منه كل شيء، واستُخدمت شعاراته من قبل أعدائه التاريخيين في أبشع صورة! في عصر يضجّ بالحركات المجتمعية الخالية من المضمون اليساري والاجتماعي، يسمّونه: عصر الفوضى واللايقين، وعصر المتاهة و»المتاهة وطن المتشككين»، حسب وولتر بنيامين، عصر «مابعد اليسار واليمين والثالثيين» عصر لا يستطيع أحد أن يجزم أين سيكون المستقر. والعلم يكشف لنا اليوم مداخل للجحيم، وأعتقد أنه قد عثر حتى الآن على خمسة مداخل، قد تكون كافية لإدخال العرب كدفعة أولى ثم ليأتي بعدهم مَن يأتي. أما مَن يتحدثون عن أمل في انبثاق يسار عربي جديد، فشخصياً وبكل أسف لا أراه في الأفق القريب، بل يلوح في الأفق الشبح المشؤوم لغراب إدغار ألن بو وهو ينعق بجملته الكارثية وفي ليلنا الحالك: «ما مضى لن يعود».
إن تاريخ هذا اليسار العربي الذي انقضى له كل الحق في الدخول في النسق المأسوي، على أنه سردية ثقافية تنويرية يجب أن تقرأ بما لها وما عليها. وما من شيء يمنع إخلاصاً للثقافة والشعر والفن والتاريخ؛ من أن نرفع القبعات وننحني إجلالاً للرومانسيين الثوريين الذين احترقوا على فوانيس القرن العشرين الخادعة، وكانوا أبطالاً بلا انتصارات كبرى.

ناظم مهنا

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...