فخري البارودي: 45 سنة على وفاته من خدمة الوطن إلى خدمة الفن

19-06-2011

فخري البارودي: 45 سنة على وفاته من خدمة الوطن إلى خدمة الفن

عرفته في أواسط الستينيات، كان الزبداني مصيف عمي والد زوجتي كان ينزل طوال الصيف تقريباً في فندق قريب من المنشية، وكنت بحكم زياراتي المتكررة إلى فندقه، أجده جالساً مع رجل عرفته عن طريق صوره، وغاب عن ذاكرتي اسمه،.

كان يأخذ ابنتي ذات السنوات الخمس رنا عندما يلقاها معي بين يديه، ويقول لها «يا جدو.. يا جدو» فتجلس وتحكي له حكايات تعلمتها من أمي وخالاتي، وفيها غناء، كان يطرب لغنائها ويقول لي: لابنتك مستقبل رائع في عالم القص والرواية والغناء، وهو الذي لم أعد أذكره. من الأغاني التي سمعها المجاهد والوطني الكبير فخري البارودي، أغنية تتوج بها حكاية تعلمتها «يا كمون» التي تقول في مطلعها «كمون يا كمون يا زراعة الكمون نقشي وترتيبي يا ريت تعذيبي اليوم على فراش النوم» (1).
 
‏ هكذا عرفت فخري البارودي في الفندق، في أواخر حياته، وتجلى لي عملاقاً من عمالقة الوطن السوري، فتهيبته، وزاد احترامي له عندما نقل نشاطه وحيويته من ميدان الوطنية إلى ميدان الفن، إحساساً منه بأنه، لكبر سنه، لم يعد قادراً على حمل المسؤولية السياسية أولاً، ولأنه كافح وحبس ونفي حتى حقق الاستقلال مع غيره من زعماء سورية في صراعهم ضد المحتل الفرنسي، ثانياً. ‏

الولادة والدراسة ‏
ولد الزعيم الوطني الكبير فخري البارودي عام 1887م، ويقال إنه ولد قبل ذلك بتسعة شهور، أي في عام 1886م، وربما كان هذا الفارق بين التاريخين ناتجاً عن اختلاف مدة السنة الميلادية عن مدة السنة الهجرية والتي كانت السلطنة العثمانية تعمل بها في تركيا وباقي بلاد الامبراطورية، ومنها بلاد الشام، التي ولد فيها، وبالتحديد في «دوما» ولاية دمشق، على ما يقال، وقد درس في «الكتاب» مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، وعندما أنهى دراسته، في دمشق التي سكن فيها ذووه، حاملاً الشهادة الثانوية، وكانت نهاية ما يصل إليه المتعلمون في مطلع القرن العشرين، وقد حصل عليها عام 1908م، وكان قد تربى على الوطنية ربما من أبيه، ومن المدارس التي كانت لا تفكر إلا بالنزوع إلى الاستقلال، فانضم إلى جمعيات ذات طابع فكري، ظاهرياً، وتشتغل بالمسألة القومية حقيقة، واتجه إلى الصحافة، فأصدر مجلة ساخرة، باللهجة العامية، وشاركه فيها صديق له، سماها باللهجة نفسها «حط بالخرج». ‏

جريدة «حط بالخرج» ‏
كانت الجريدة عائدة للسيد محمد عارف الهبل (2)، ويبدو أنه بسبب صداقته مع المجاهد فخري البارودي قد أشركه في تحريرها، وقد استمر يكتب فيها بسخرية، حتى انفك عنها يوم أتيح له أن يسافر إلى باريس، ليطلع على الحضارة التي تنعم بها، وعلى تقدمها في مجالات الفنون والآداب والصناعة، ولما عاد كانت همته أكبر لمقارعة العثمانيين، خاصة وأن الحرب العالمية الأولى قد اندلعت بعد عودته ليقيم ثانية في دمشق. ‏

المشاركة في الحرب ‏
وباعتبار أن الامبراطورية العثمانية قد اشتركت في الحرب العالمية الأولى، إلى جانب ألمانيا، فقد جند في الجيش العثماني كضابط احتياط، وحارب الإنكليز في فلسطين (منطقة بئر السبع)، واعتقل وحبس في القاهرة التي كان يستعمرها الإنكليز، ومنذ ذلك الوقت فهم البارودي حقيقة القضية الصهيونية، وتآمر بريطانيا لتمكينها من المجيء إلى فلسطين وتهويدها، وتشريد سكانها العرب. ‏

الثورة العربية ‏
وبعد أن أفرج عنه التحق بالثورة العربية ناشراً فكر الوحدة العربية، وما علم به كغيره عن معاهدة سايكس بيكو، وبعد دخول القوات الفرنسية سورية، بعد معركة ميسلون التي قدم فيها وزير دفاع المملكة السورية يوسف العظمة روحه، وسفر الملك فيصل إلى العراق، انتقل البارودي إلى مقارعة الاحتلال الفرنسي، فأنشأ مكتباً لنشر الوعي القومي باسم «مكتب فخري البارودي لخدمة القضايا العربية» وتعاون مع رجال الكتلة الوطنية في إضراب عام 1936 الذي دام ستة أشهر (3). ‏

نفيه واستقباله ‏
واعتقل من قبل المحتل الفرنسي، ونفي ويذكر بعض كبار السن أنه عندما عاد من النفي، خرجت دمشق عن بكرة أبيها، لاستقباله، وقال لي عجوز كان قد استقبله أن الناس من أهالي دمشق وبعض المدن السورية الأخرى قد ملؤوا الشارع الممتد من جسر «ثورا» إلى بلدة دوما ينتظرون طلته لتحيته (4). ‏

وقال لي معاصر للبارودي أنه أسس كتيبة شبه عسكرية باسم «الحديدية»، بعد عام 1936 وهذا هو سبب اعتقاله ونفيه. ‏

بقي البارودي مع أماني الشعب في سورية، حتى نالت الاستقلال، وخرج الجيش الفرنسي من سورية عام 1945 ونعمت بالاستقلال عام 1946، فاعتبر البارودي أنه أدى ما كان يتوجب عليه، وتفرغ للبحث الموسيقي، وكتابة القصائد والمذكرات وبعض الكتب، متخذاً من بيته الذي سكنه في «كيوان» في دمشق، يستقبل فيه الفنانين وعشاق مواقفه القومية، ولاحقاً الفنية مكان إقامته الدائم، لا يخرج إلا في الصيف إلى مصيفه في الزبداني. ‏

وكان البارودي يستقبلهم بقبلاته، وبالقرنفلة البيضاء التي كان يضعها دائماً في عروة جاكيت بزته. ‏

بلاد العرب أوطاني ‏

عرف فخري البارودي بنشيده الذي دوى في جميع أرجاء الوطن العربي ولا تزال الجماهير تردده حتى الآن. ‏

بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ‏

وقد ترك إرثاً موسيقياً ضخماً كما ترك مؤلفات أدبية هي: ‏

المؤلفات: ‏

1- مذكرات شرطي ‏

2- كارثة فلسطين ‏

3- مذكرات البارودي ‏

4- المجموعة الشعرية ‏

5- تاريخ يتكلم ‏

6- مجموعة قلب ‏

7- المعجم الموسيقي ‏

8- المعجم الشامي ‏

وفاته عام 1966 ‏

في حزيران عام 1966 ذهبت مع زوجتي وابنتي رنا (التي كانت قد بلغت السادسة من عمرها) إلى الفندق الذي كان عمي، والد زوجتي، يضيف فيه، وسألت أول ما سألت عن المجاهد الكبير فخري البارودي، فقيل لي: لقد توفاه الله قبل أسابيع، ودفن في دمشق، فكأنهم دفنوا تاريخاً من النضال ومقاومة الاستعمار، حزنت ونزلت دمعتان من عيني، وكذلك حزنت ابنتي التي كان يلاعبها البارودي قائلاً لها: يا جدو.. يا جدو وأهداها صورته المنشورة مع الموضوع (5). ‏

رحمه الله رحمة واسعة، فقد كان كبيراً بوطنيته وبأبحاثه الموسيقية وباحتفائه بالأضياف الذين كانوا يزورونه كلما حطوا في دمشق العروبة. ‏

1- من التراث المحلي الشعبي. ‏

2- جريدة «حط بالخرج» صاحب امتيازها محمد عارف الهبل، وقد صدرت في 9/11/ 1909م وكان للهبل جريدة قبلها صدرت عام 1901، وقد توقفت بعد 47 عدداً. عن معجم الجرائد السورية لمهيار الملوحي. ‏

3- مذكرات البارودي. ‏

4- راجع شهادة طاعن في السن. ‏

5- هي صورته الرسمية التي كانت توزع على الناس.

عادل أبوشنب

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...