كارلوس ليسكانو يحمل جروح الروح بين أوراقه

28-09-2011

كارلوس ليسكانو يحمل جروح الروح بين أوراقه

هل الأدب الملتزم الذي يعانق هموم الإنسان وطموحاته بغد أفضل، صار صفة ملازمة للشعوب المقهورة، وتحديداً شعوب قارة أمريكا اللاتينية؟ وهل ستبقى هذه القارة تضخ لنا هذا الأدب الإنساني الرائع، بعد أن يختفي الجيل الذي ذاق كل صنوف القهر والعذاب خلال النصف الأخير من القرن الماضي؟

كارلوس ليسكانو، واحد من أهم الأدباء الذين صنعت موهبتهم الفذة في ظلمة وصمت الزنزانة الأبدي. ‏

ولد كارلوس ليسكانو في مونتيفيديو، عاصمة الأورغواي عام 1949. دخل السجن في بداية السبعينيات من القرن الماضي، ومكث فيه ثلاثة عشر عاماً، بتهمة الانتماء إلى منظمة التوباماروس اليسارية، شأنه كشأن الكثير من المثقفين في تلك الحقبة، الذين كانوا ضحايا أقسى أشكال الديكتاتوريات العسكرية، التي نصبتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية فيما كانت تسميه «حديقتها الخلفية». ‏

بعد إطلاق سراحه، هاجر فوراً إلى السويد وأقام فيها حتى عام 1996. عاد إلى بلاده بعد أن بدأت تسقط الأنظمة العسكرية في أمريكا اللاتينية الواحدة تلو الأخرى، فتم تعيّينه بمنصب نائب لوزير الثقافة والتربية. وهو يشغل منذ مطلع العام الماضي 2010، منصب المدير العام للمكتبة الوطنية. ‏

أصدر كارلوس ليسكانو العديد من الروايات التي تحدث في معظمها عن تجربة السجن المريرة التي عاشها، وعن عمليات التعذيب الوحشية التي تعرض لها. ‏

الكتابة بالنسبة لكارلوس ليسكانو بحث دؤوب عن ما هو غير موجود أساساً. ‏

عن ماذا أكتب؟ يتساءل في سره، ويجيب: ‏

عن الليالي البيضاء في مونتي فيديو؟ عن شوارعها في أيام ماطرة، أم عن جريان الأنهار فيها؟ أم عن الحياة التي يجب أن تعاش في جميع الأحوال؟ ‏

يعترف ليسكانو بأنه مدين بكونه أصبح كاتباً معروفاً على المستوى العالمي، لسنوات سجنه المريرة، لصمت الزنزانة الانفرادية الموحشة، التي لم يكن يخترق وحدته فيها، إلا وقع أقدام الجنود المتواترة، وضجيج صوت المفتاح في القفل، حين إحضار وجبة الطعام الرديئة في موعدها المحدد، من كل يوم. ‏

كانت الأوراق والأقلام، التي تمكن من تسريبها خفية إلى الزنزانة، بمنزلة حاضنة لكلمات تولد بين سطورها الروح، كي لاتموت بين جدران قاتمة، وصمت حزين. ‏

أن يعيد قراءة ما كتبه باليوم الفائت، كان أيضاً بمنزلة تنشيط لسحايا الدماغ كي لاتخمد. هروب من الجنون، وإعادة خلق شيء جديد، يشبه الحياة بوساطة العقل. ‏

الكتابة بالنسبة لكارلوس ليسكانو، كانت حاجة أيضاً، لأنها تسمح له بفتح نفق مضيء بين الزنزانة، وعالم الحرية في الخارج، عبر فيض من البوح والمناجاة، وإعادة طرح الأسئلة من جديد، كل يوم بطريقة مختلفة. ‏

يقول: «اكتشفت بمرور السنين الرتيبة بين أربعة جدران قاتمة، أن الأدب صنو الحياة، ولايمكن لهما أن يوجدا إلا في تناغم كل منهما مع الآخر. وعندما تغدو الكتابة فعلاً مستحيلاً، تصبح الحياة أمراً مستحيلاً كذلك. ‏

في روايته الأخيرة «الكاتب والآخر» الصادرة في بداية العام الماضي 2010، يعرب كارلوس ليسكانو عن قلقه من صعوبة الكتابة المتأتية من الألم، الألم الذي يحدثه السجن في الروح. ‏

رواية «الكاتب والآخر»، توقظ فينا ألم الوحدة، وتنقل إلينا أحاسيس الكاتب اليومية، وكأننا كنا نقاسمه تلك السنوات الصعبة في زنزانته. ‏

الكاتب في الرواية هو بالطبع ليسكانو. أما الآخر، فنحن جميعاً، خارج أسوار ذلك السجن الرهيب، الذي كان مفروضاً، ليس فقط على بلده، بقدر ماكان سجناً كبيراً، يستوعب كل قارة أمريكا اللاتينية، في سبعينيات القرن الماضي. ‏

في روايته «إفلات الجناة من العقاب»، الصادرة عام 2007 نكتشف مأساة مثقف يساري، خوان غيلمان، الذي لجأ إلى المكسيك إثر اغتيال ولده، ابن العشرين عاماً في شارع بالأرجنتين، ولم يعثر على رفاته، إلا بعد مرور ثلاثة عشر عاماً، ظل حينها يبحث عن زوجة ابنه، التي اختفت هي أيضاً، في ظروف غامضة، على يد الطغمة العسكرية الحاكمة، وكانت حاملاً في شهرها الثالث. ‏

تستمر رحلة الوالد-الجد، في البحث عن زوجة ابنه ومولودتها، ليعلم رسمياً، وبعد زهاء ربع قرن من البحث والانتظار المضنيين، أن السلطات العسكرية قد تركت الأم في السجن ثلاثة شهور فقط، بعد ولادة حفيدته لكي ترضعها، ثم تم إعدامها في السجن بتهمة الانتماء لمنظمة التوباماروس، كزوجها، وقد تولت عائلة أحد رجال شرطة السجن رعاية حفيدته، التي تعرف إليها وهي في سن الخامسة والعشرين. ‏

«إفلات الجناة من العقاب» رواية تكشف ليس فقط، عذاب خوان غيلمان، الذي فقد ابنه الوحيد وزوجة ابنه وحفيدته، ورحلة البحث عن رفاتهما، وانتظار ربع قرن لكي يتعرف على حفيدته، بل تسلط الضوء أيضاً، على حقبة من التعسف والقمع والقهر والفقر وتسلط الديكتاتوريات العسكرية المدعومة من الولايات المتحدة، على مجمل دول قارة أمريكا اللاتينية، طيلة نصف قرن من الزمن. ‏

يستهل كارلوس ليسكانو روايته «عربة المجانين» الصادرة عام 2006، بالقول في أول صفحة منها: ‏

مافائدة مجيئنا إلى الحياة، إذا لم نعمل على تغيير العالم؟ ‏

يعود كارلوس ليسكانو إلى الموضوع الذي يستأثر على كيانه، موضوع سنوات السجن الرهيب، ليروي اللحظات الأخيرة من ذلك المعتقل، وهو خارج منه مع العشرات من رفاقه على متن عربة قطار شحن مهترئة، تنقلهم،إلى العاصمة مونتي فيديو، ليصار إلى استكمال إجراءات إطلاق سراحهم نهائياً. ‏

بلغة تسيطر عليها نبرة الحزن في العديد من فصول الرواية، يستعيد ليسكانو، وهو يقف بخشوع في المقبرة، ذكرياته مع أبويه وأخته الصغرى، الذين فقدهم جميعاً وهو بين جدران الزنزانة. ‏

لاتملك وأنت تطالع فصول هذه الرواية إلا أن تشارك ليسكانو حزنه وألمه وحسرته على سنوات الشباب التي أضاعها بين جدران السجن، فقط لأنه كان يؤمن بفكرة الحرية والعدالة، التي تأخر وصولها إلى بلاده، فدفع هو وغيره من شبان جيله، ثمنها من حريتهم، وفقدان أعز الناس على قلوبهم. ‏

يبكي ليسكانو بصمت أمام قبور والديه وأخته الصغرى التي لم يخبره أحد سبب موتها. فلا تملك إلا أن تتفاعل معه، وتتألم لألمه.

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...