الإسلام والإمبراطورية البيزنطية ... علاقات متشابكة

10-07-2015

الإسلام والإمبراطورية البيزنطية ... علاقات متشابكة

يُعد المؤرخ الفرنسي ألان دوسلييه Alain Ducellier من أهم المؤرخين المختصين في تاريخ بيزنطية والمسيحيين في الشرق. يتخطى مجال اهتمامه العلمي هذا الحيز ليمتد إلى الروابط بين الإمبراطورية البيزنطية وبلدان البلقان. أصدر مجموعة من المؤلفات في الفرنسية منها: «العصر الوسيط في الشرق» (Le Moyen Age en Orient)، «بيزنطة والعالم الأرثوذوكسي» (Byzance et le monde orthodoxe)، «الكنيسة البيزنطية بين السلطة والروح: 313- 1204» (L’Eglise byzantine: Entre pouvoir et esprit، 313 - 1204). في كتابه «مسيحيو الشرق والإسلام في العصر الوسيط» (ترجمة: رشا الصبّاغ ورندة بعث، مراجعة، جمال شحيّد ومروان الداية، دار الساقي، بيروت، ورابط العقلانيين العرب، الطبعة الأولى، 2014) يتناول دوسلييه العلاقة بين الإسلام ومسيحيي الشرق منذ القرن السابع حتى سقوط الإمبراطورية البيزنطية في القرن الخامس عشر. صدر المؤلَّف في الفرنسية عام 1996. يمكن القول إنه عمل أكاديمي بامتياز لأسباب عدة: الأول، الدقة العلمية في تغطية الأحداث والسجالات اللاهوتية التي واكبتها، والثاني، مناقشة المصادر التي اعتمد عليها المؤرخ؛ والثالث، الكشف عن معطيات تاريخية جديدة تبرهن على مستوى التعقيد والتداخل التي طبعت العلاقات بين بيزنطة والإسلام خلال الفترة المدروسة. بذلت المترجمتان جهداً ملحوظاً ضمن ثلاثة مسارات: تعريف القارئ على المصطلحات؛ التعقيب على المعلومات الواردة في الكتاب والتعليق عليها، الدقة في الترجمة وسيولة النص المترجم وكثافته في آن.

ليس الكتاب عملاً عادياً. يتخذ بجدارة صفة العمل الموسوعي. لقد غطى بالتفصيل فترة تاريخية تعتبر من أكثر الفترات دقة وتوتراً بين الإسلام والإمبراطورية البيزنطية. تكمن أهميته في دراسة كيفية تشكل صورة الآخر: المسلم والمسيحي والتي تحكمت فيها غالباً أنماط التصورات الدينية وإسقاطاتها في الديانتين الكبريين اللتين جمع بينهما الجوار الجغرافي وافترقا نتيجة الاختلاف العقدي وسوء الفهم المتبادل.

استند دوسلييه إلى مصادر ووثائق عامة وخاصة إلى جانب مجموعة من النصوص المهمة احتوت على السجالات ورسائل المنافحة عن المسيحية الموجهة ضد الإسلام غداة الفتح العربي. توزعت مصادره على: المصادر الشرقية التي تضمنت الحوليّات الأرمنية، والمصادر السريانية وخصوصاً النسطورية منها؛ والمصادر البيزنطية، بعضها تاريخي محض وسابق للفتح العربي بفترة طويلة يعود الأقدم بينها إلى القرن التاسع وهي لثيوفانس المعترف وجرجس الراهب، وهي حوليات رهبانية، زاخرة بالأحداث، ولكن أهميتها - كما يوضح دوسلييه - تأتي من كونها مرجعاً لدراسة الأحكام المسيحية المسبقة عن الإسلام. إلى هذه النصوص تم الاعتماد على مجموعة حوليات القرن التالي، وكلها مستمدة من نص فقدت نسخته الأصلية، وهي حوليات سمعان الماجسطي.

في القسم الأول من الكتاب يدرس المؤلف بداية الفتح الإسلامي آخذاً في الاعتبار الروح الدينية التي طبعت تلك الفترة. نُظر إلى العرب من قبل الأرمن الذين خضعوا للسلطة الإسلامية عام 651 م بوصفهم تجسيداً لقوى الشرّ. تقاطعت الحقبة مع صراع ديني مسيحي - مسيحي على خلفيات لاهوتية وعقدية طبعت مرحلة طويلة من الزمن. لم يكن المسيحيون في الشرق يجهلون الدين الإسلامي على رغم معرفتهم السطحية. تقدم حوليات نسطورية كُتبت حوالى 670 - 680 صورة تقريظية للإسلام وفي المقابل ترسم وثائق أخرى صوراً سلبية تركز على الطابع الديني، وتجادل في أصول الديانة الإسلامية ومنابعها باعتبارها تنهض على أسس مسيحية ويهودية. فنجد أن نساطرة بلاد الرافدين يعترفون بالإرث العبراني للإسلام في حين تُقر نصوص مسيحية أخرى بالأصل الإبراهيمي للعرب.

تستخدم غالبية الحوليات والوثائق خلال حديثها عن المسلمين مصطلحات مثل: الإسماعيليين أو السراسنة أو الهاجريين. هذه التصنفيات اختفت وما عادت تستعمل في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. احتفت بعض نصوص مسيحية في أرمينا بالمسلمين. بالنسبة إلى الراهب غيفونت فإن عمر بن عبد العزيز: « يبدو (...) أكثر إنسانية ونبلاً من سائر بني قومه؛ فما إن ارتقى عرش الخلافة حتى رفع المظالم عن الناس وأطلق الأسرى الأرمن وأذن للرجال والنساء منهم بالعودة إلى ديارهم... وقد عُني عمر بنشر الهدوء والأمن في أصقاع إمبراطوريته».

اتخذ موقف الأقباط في مصر من الفتح الإسلامي مسارات متداخلة. يشير دوسلييه إلى الأسقف القبطي يوحنا النيقوسي الذي تحدث عن قسوة المسلمين، وشدد على أشكال العسف الضريبي. المصادر القبطية التي استند إليها يغلب على سياقها الإطار التاريخي الذي واكب الفتح إلى جانب السجال الديني. «ومع انقضاء زمن الفتح، كانت العداونية تجاه المسلمين في مصر أقل بكثير منها في أرمينا، ويبدو أن الأقباط هناك قد وجدوا تسوية تناسب فاتحيهم من دون أن يُخفوا الارتياح الذي أشعرهم به زوال السلطة البيزنطية». في سورية وبلاد ما بين النهرين اتصفت العلاقات بين المسيحية والإسلام «بالثقة والاطمئنان». يموضع دوسلييه هذا النمط في سياق التمييز بين موقف الغالبية المؤمنة بعقيدة الطبيعة الواحدة السريانية وموقف الكنائس الأرثوذوكسية الملكية وخصوصاً الكنيسة السورية الشرقية، أي النسطورية.

لا يتوقف الكتاب عند الأحداث التاريخية التي واكبت الفترة الزمنية الممتدة من بدايات الفتح الإسلامي حتى العهد العثماني، حيث يبرز المناقشات العقدية الأولى التي تواجه بها الإسلام والمسيحية في سورية تحديداً. وقد اقتصر هذا الجدل على المسيحية الشرقية. انطبعت المناظرات اللاهوتية بسياق مزدوج: الأول، الدفاع عن المسيحية بالاعتماد على حجج تستمد قوتها من امتلاك المساجلين المسيحيين شروط القياس المنطقي والاستدلالات الفلسفية والتي اكتسبها المسلمون لاحقاً من خلال علم الكلام، والثاني، تقديم الأحكام المسبقة عن الإسلام. والملاحظ أن السجال اللاهوتي الذي خاضه اللاهوتيون وعلى رأسهم يوحنا الدمشقي وعلى رغم طابعه الهجومي والعنفي احتوته السلطات الإسلامية ولم يقع الاشتباك إلاّ حين تصل المناظرات لحدود المساس بشخصية الرسول.

ظهر الحديث عن الفتوحات الإسلامية في المصادر البيزنطية إبان القرن التاسع. وهو التاريخ الذي حرّر فيه الراهب ثيوفانس حوليّاته. يشير المؤلف إلى أن المؤرخين البيزنطيين كانوا شديدي التحفظ في روايتهم وقائع الفتح «فلم يكرس ثيوفانوس، الأكثر إسهاباً، أكثر من أربع صفحات صغيرة، أما سكيليتزس وكدرينوس الذي اقتبس منه في القرن الحادي عشر، فقد نجحا في تجاوز الموضوع من دون كبير عناء». في ما يتعلق بالبعد اللاهوتي لم يختلف البيزنطيون عن اللاهوتيين الدمشقيين في ما يتعلق بالنهج الذي صور من خلال الفتح الإسلامي، وكذلك الرؤية الدينية البيزنطية للإسلام التي سيطر عليها الخلط والتشويه والمعلومات الناقصة التي يبدو أنها سمة غلبت على التصورات التي حملها كلا الطرفين.

يواكب الكتاب فترة مشحونة بالتوتر السياسي والديني، شهدت تبدلات تاريخية عميقة لا سيما إبان حرب الاسترداد المسيحية، حيث انتقلت بيزنطة في القرنين التاسع والعاشر إلى مرحلة الهجوم المضاد، بسبب ما تعرض له مسيحيو الشرق من «اضطهادات فردية متفرقة، تتفاوت شدتها تبعاً لما يبدونه من طاعة وخضوع، لكنهم تأقلموا إجمالاً مع السيطرة الإسلامية، بل أفادوا منها في كثير من الأحيان». يتساءل دوسلييه: فهل تراهم كانوا على استعداد لاستقبال حرب الاسترداد اليونانية بالترحاب؟ المفارقة - التي يبرهنها - أن أكثرهم عرضة للاضطهاد، والذين يفترض بهم بالتالي أن يكونوا أول من يتوق إلى ذلك الاسترداد، هم أنصار الطبيعة الواحدة. والحال أننا نعلم أنهم فضلوا منذ زمن طويل، وبعد حساب متأنٍ المسلمين على الأرثوذوكس.

يتطرق دوسلييه إلى الحملات الصليبية التي شهدت توتراً سياسياً ودينياً، ويقاربها من زاوية جديدة تختلف إلى حد كبير عمّا هو متداول تاريخياً، علماً أن بيزنطة كانت تواجه أخطار الهجمات التركية. وبعد رصده التيارات الفكرية، العلمانية والدينية، التي ناقشت جدوى هذه الحملات وتداعياتها، يشير إلى أنه ومنذ الحملة الصليبية الرابعة، أدرك البيزنطيون أخيراً أن الخطر الأكبر يأتي من الغرب. فقد تحولت تلك الحملة الموجهة إلى مصر لحملة معادية للإمبراطورية البيزنطية لتدمير منافسي البندقية في التجارة في البحر المتوسط.

يستفيض الكاتب في التأريخ للعلاقات البيزنطية - التركية كاشفاً عن حدودها السياسية والاجتماعية والدينية والتي تحكمت بالطرفين ضمن الأقاليم التي سيطر عليها الأتراك وكانت جزءاً من بيزنطة. ثمة كشوف علمية تسجل له، تبدو للعديد من القراء، معطيات جديدة. ظهرت في الأناضول فرق دينية/ توفيقية إسلامية - مسيحية نمت غالباً عبر الطرق الصوفية التي دخلت إلى الوسط التركي الأناضولي، لا سيما المولوية التي أسسها جلال الدين الرومي، حيث ناضلت مثلما فعل السكونيون ضد التمسك بالشكل التقليدي للإيمان، وكانت مفتوحة لغير المسلمين، وسمحت بالانتقال من المسيحية إلى الإسلام حيث بلغت مرونتها حداً يمكِّن المرء من أن يصبح تلميذاً للرومي من دون التخلي عن المسيحية. غير أن الأهم في ما يلحظه دوسلييه من أنساق هذه الأنماط الدينية التوفيقية إشارته إلى معطيين: الأول، ما تتحدث عنه المصادر التركية عن مسلمين كانوا يحرصون على تعميد القساوسة الذميين لأبنائهم قبل ختانهم، خصوصاً أن نشر أطروحات توفيقية لم يقتصر على المولوية: ففي نهايات القرن الثالث عشر توسع نشاط حاج بكتاش، واعتُبر شخصية قريبة من المسيحيين. والثاني، تطور هذا النمط في العصر العثماني دفع البكتاشيين إلى أن يضموا إلى فرقتهم قديسيين مسيحيين شعبيين، وعلى رأسهم القديس جورجيوس، فيما بجّل مسيحيو سيناسوس حاج بكتاش تحت اسم القديس خارالامبوس.

يشكل «مسيحيو الشرق والإسلام في العصر الوسيط» اضافة نوعية إلى المكتبة العربية. يحتاج إلى مزيد من الإضاءات. لا تدعي هذه القراءة أنها قدمت عرضاً وافياً له. هذا العمل تبين نتائجه وخلاصاته أنه ليس مجرد كتاب تاريخي، إذ إنه يميط اللثام عن حقائق ومعطيات نوعية لا تكتفي في التأريخ للأحداث التاريخية والسجالات اللاهوتية.

ريتا فرج

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...