"العدوان" الخلاق..

20-12-2020

"العدوان" الخلاق..

لو كتبتُ قصة حياته فيلماً سينمائياً لبدأتُ بمشهد عودة زوجته (إلهام) وحيدةً في تابوت على متن طائرة حزينة طارت بجثمانها الستيني من مطار دبي إلى مطار اللاذقية، فالمرأة التي رحلت مؤخراً بعد صراع طويل مع مرض السرطان حملتْ اسم زوجها في حياته وبعد موته في اسم "دار نشر ممدوح عدوان" المشروع الذي قررت إلهام متابعته بعد رحيل شريك العمر؛ لتقضي بعده بعشر سنوات بالمرض نفسه الذي أنهى حياة الكاتب السوري في ليلة التاسع عشر من كانون الأول؛ ولعدتُ بعد مشهد البداية هذا إلى سيرة الطفل "مدحت مصطفى" -اسمه الأول في قريته "قيرون" قبل أن يعرفه العالم العربي باسم "ممدوح عدوان -1941- 2004" الرجل الذي اقتحم المدينة بكأس وسعال وقصيدة ذات نبرة ثورية هادرة، تاركاً ما يقارب المائة كتاب في الترجمة والشعر والمسرح والرواية والنقد الأدبي، خلا المسلسلات التلفزيونية التي توّجها برائعتيه " الزير سالم" و" المتنبي" متجاوزاً احتقار المثقف للتلفزيون كأداة للترفيه العمومي، والقصف واللهو اليومي. من هنا كان ظهور ممدوح عدوان في المشهد الثقافي السوري منتصف ستينات القرن الفائت صادماً وحراقاً كغيابه في مطلع الألفية الثالثة، فهو المتحدر من بيئة متنوعة المناهل والاشتقاقات الثقافية، تبدأ بتثليث العرَق البلدي في مدينته مصياف؛ ولا تنتهي بتثليث أبيات " العتابا". ثقافة فتح الطفل عينيه على مستوياتها الغنوصية من باطن وظاهر حين كان يصيخ السمع كل مساء لأشعار القوالين والمتصوفة وحفظة القرآن والحديث والسير الشعبية وقصص الأئمة، فها هي البيئة الأولى تختبر الصبي الصغير الذي كانه، لتصيغه صياغةً أولية تكون فيها اللغة العربية حمّالة أوجه، فظاهرها لا كباطنها، تماماً كالشخصيات التي كان يسمع الشاب الصغير عنها في قريته " دير ماما- قيرون" فعبد الرحمن ابن ملجم – قاتل الإمام عليّ- هو محمودٌ ومذموم معاً في عُرف بيئته؛ مثلما هو "أبو النواس -الشاعر الماجن له مكانةٌ عرفانية عليا. لقد تكونت شخصية صاحب رواية " أعدائي" آخذةً من الدين والخرافة والتراث ونفائس المكتبة الشعرية العربية؛ لتكون شخصية مضادة لشخصية المثقف الموديل، أو المثقف الماركة، هذه الشخصية التي عرّاها ممدوح بكل ما يملك من قوة بطرافته وحضوره كسلطة ثقافية، لا كتابع لحزب أو هيئات أو بلاط سلطاني؛ بل كما يجب أن يكون المثقف مخرزاً في عين البشاعة اليومية؛ فلم يرضخ الرجل لأي نفوذ سياسي أو سلطوي كما كان يروّج عنه بعض الخبثاء بقربه من السلطة في بلاده؛ بل كانت السلطة تتمسح به، وتمالئه بحذر، دون أن تنجح في ترويضه لصالحها. بالمقابل كان ممدوح عدوان يعرف كيف يدافع عن خياراته ويسوّغ لها نقدياً وحياتياً؛ لكنه احتاج وقتاً طويلاً كي يصبح الالتزام -كمفهوم أدبي في كتاباته- ليس عيباً أو تهمة أيديولوجية، وليدافع الكاتب عن هذا الالتزام، خائضاً حرباً عنيفةً مع من حاول جاهداً من أدوات السلطة أو مثقفي صالوناتها أن يصنفونه مع أترابه " علي كنعان؛ فايز خضور، صالح هواري، كمال أبو ديب" ضمنها؛ أو مع موجة مثقفي السلطة الذين جاؤوا إلى دمشق الخمسينيات بتصور مغاير و من منطق يريد الثأر من المدينة لا التصالح مع زحامها وعمرانها ومكتباتها، وانتزاع الاعتراف منها، لاسيما أن العديد ممن حارب شعرية ممدوح عدوان من اللحظة الأولى لبزوغه بعد نشره لأول قصيدة له في مجلة "الآداب" وكانت بعنوان " لقيطان" كان يريد أن يصنفه في خانة من "يضحكون على الجماهير الأمية ويكتبون بأمر من الحاكم، تماماً كشعراء السلطة في الاتحاد السوفييتي السابق". مفارقة وضعت عدوان وجهاً لوجه مع مستوردي " السأم والعبث والوجودية واللا انتماء" كلافتات ثقافية كانت جديدة وقتذاك ومرغوبة في دفع الشبهة عن أصحابها وتقمص الأدوار وتوزيعها على الكتاب الجدد؛ لاسيما ذوي الأصول الريفية منهم؛ وذلك عبر تلميع مثقفين وبتر آخرين من المشهد بأكمله؛ إلا أن صاحب " تلويحة الأيدي المتعبة" سرعان ما تخطى هذا اللبس بنصوصه التي جاهرت بطزاجتها؛ وقربها من الناس دون أن تكون مطيةً للأيديولوجية: " أريد العدل المطلق؛ فليفعل السياسيون ما يمكنهم؛ فليوقعوا اتفاقيات سلام؛ أما أنا فسأظل محتفظاً بمفهومي عن العدل؛ أنا أريد كل فلسطين؛ وما زلتُ أرى أنني عربي؛ يقولون لي: وماذا لو أعادوا لكم الجولان؟ أقول: وفلسطين؛ هذه المعاناة الفلسطينية والعربية الممتدة على مدى خمسين عاماً في ذقن من سنزرعها؟ " – مجلة الكرمل- 2001.
هكذا ستصبح مفردات الجوع والفقر والسياط والظلم والرغيف والمحراث؛ وجهاً لوجه مع مفردات النهد والبطن والحلمة والرغبة والاشتهاء، ولتكون مسرحياته " سفر برلك، ليل العبيد، المخاض" ومثلها نصوصه المونودرامية "القيامة، الزبال، حال الدنيا؛ أكلة لحوم البشر" التي اشتغلها مع المسرحي الفلسطيني زيناتي قدسية منتصف الثمانينات؛ في مقدمة تلك العناوين الثورية التي أعمل فيها عدوان قدرته الفريدة في تخليص المشهد الثقافي لبلاده ممن كانوا يجهدون لتحويل الثقافة إلى " قلع أضراس" كما وصفها عدوان ذات مرة في إحدى حواراته الصحفية؛ ليس هذا وحسب، بل تمكنت "القصيدة العدوانية" الغاضبة المتمردة أن تعيد مشروعية الشعر والمسرح في الدفاع عن شرائح اجتماعية واسعة تم تهميشها وتجهيلها على حساب طائفة من أتباع سارتر وجان جينيه وبريخت وكامو وبيتهوفن، وذلك دون أن يكون هذا الغضب الشعري نابعاً من المتاجرة بمظلومية تاريخية أو ابتزاز عاطفي للجمهور، بل كان مسرح عدوان مثل أشعاره بريئاً من النظرية مندمجاً مع الناس وهمومها وغليان طبقاتها الاجتماعية المُبعدة عن دائرة الاهتمام؛ ولهذا كان ثمة من يعمل وما يزال على أن يصور الشعر على أنه في أزمة، كما هو المسرح العربي الذي لا يحضر في أحاديث المثقفين العرب -وخصوصاً السوريين منهم- إلا ويضاف إلى جانبه كلمة " أزمة" كل شيء في أزمة، لكنها كما كشفها عدوان وأوضحها على الملأ هي أزمة تشخيص أزمة لا أكثر، أزمة وهمية يختبئ خلفها القائمون على المؤسسة الثقافية الرسمية، ومثقفو العناوين، وما يسمى بتجار الأزمات الثقافية المستعصية! فهؤلاء لا همَّ لهم ولا غم سوى عقد المؤتمرات وإقامة الندوات وتدبير اللقاءات الدورية لمناقشة " أزمة المسرح" والتداول في " أزمة الشعر".!
إن نظرة خاطفة لمشروع ممدوح عدوان الشخصي تؤكد سعي الشاعر الراحل إلى اغتنام كل أنواع التعبير للوقوف في وجه الإكليروس الديني- المافيوي المتحالف مع السلطة، والذي " يكذب على الناس حتى في نشرات الطقس" التعبير "العدواني" الذي لامس حنق الجمهور حين أراد البعض لهذا الجمهور أن يحيا في المفاهيم، وذلك عبر إبعاد المسرح والشعر والفن عموماً عن الواقع: " يريدون أن يكون الموت هو الموضوع وليس الموتى، الحب وليس المُحب أو المحبوبة؛ الخوف وليس الخائف؛ الفكرة المجردة وليس الذي يعيشها، أو يعانيها؛ وكأن هذه الأفكار المجردة تعوم في الهواء ولا تمس البشر".
ظل ممدوح عدوان حتى آخر أيامه مؤمناً بأن الموت ليس إلا " توقف مشاريع" لكن ما ترك لصاحب " حيونة الإنسان" فرصة أكبر للتأثير في ركام المدن العربية ليست كتبه وحسب؛ بل هي سنوات التدريس التي قضاها كأستاذ لمادة كتابة السيناريو في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، حيث جهد لتخريج جيل قادر على تحطيم مسلمات الفن، والتطلع إلى مساحات مغايرة للسائد والمتاح والممكن؛ فصاحب " الدماء تدق النوافذ" لطالما كان سيد المساجلات الساخنة في الثقافة السورية التي عاشت ركودها الأطول بعد رحيله؛ مخلفةً ذلك الصدى البارد من الامتثال والتدليس والتمسح بأقدام المتنفذين وشركاتهم الريعية، حيث كان غياب عدوان عن الساحة فرصة كبيرة لعودة المثقف المارق في طبعته التلفزيونية الجديدة، خصوصاً بعد هجرة معظم النخب الجديدة ودخول السوريين المرحلة التي أطلق عليها الطيب تيزيني " مرحلة إفساد كل من لم يتم إفساده".
المشهد الختامي لسيناريو فيلمي عن ممدوح عدوان سيكون بمشهد لسيارة حمراء " فولكس فاغن" من نوع " سلحفاة" تخترق شارع 29 أيار ثم تتهادى بعجلاتها عند مسرح القباني بدمشق، يترجل منها " أبو زياد" لحضور مسرحية " ساعي بريد بابلو نيرودا" العرض الذي قام بإعداده عن نص سكارميتا وأخرجه للمسرح القومي الفنان محمود خضور؛ حيث يمنعه قاطع التذاكر من الدخول قائلاً له بغضب: " لوين يا أخ لم يتبقَ محلات، تعال بعد أسبوع" فيضحك ممدوح ضحكته العالية قائلاً لموظف الشباك: " لكن أنا الكاتب؛ أدخلني، سأحضر ولو وقوفاً"..
سامر محمد إسماعيل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...