قراءة في كتاب دين الفطرة لجون جاك روسو

14-05-2015

قراءة في كتاب دين الفطرة لجون جاك روسو

أتوقف في هذه القراءة عند مؤلف متميز لأحد عمالقة فكر الأنوار ومنظر الثورة الفرنسية، صاحب نظرية العقد الاجتماعي، هو جون جاك روسو، وتحديدا مؤلفه، أو بالأحرى الجزء الرابع من كتاب “إميل” حيث وضع تصوراته العقلية لمجتمع تتحقق فيه الحرية في كل شيء ويربى أفراده تربية عقلانية. وسم هذا الجزء المترجم في الكتاب بعنوان عقيدة قس من جبال السافوا، وبسط فيه جان جاك روسو على لسان ذلك رجل دين، قس، رؤاه حول الدين ودوره في الحياة. منافحا بذلك عن طرحه الضخم الذي يؤمن فيه بأن الانسان خيّر بطبعه متناغم مع الطبيعة، وأنه يفقد هذه الخيرية بواسطة ما يتلقاه من تعليم وتربية تقومان على تراكمات تاريخية معقدة، فالإنسان عنده، سعيد بطبعه شقي بثقافته، نجاته في نبذ الزخارف المكتسبة والعودة إلى براءته الأولى .
قبل الخوض في مضامين الكتاب، نتوقف عند روسو، سنة 1712 بجنيف، عاصمة المذهب البروتستانتي الكلفاني. توفيت أمه عقب ولادته مباشرة، تاركة الطفل لينشأ في كنف والده، الذي عُرف بميله إلى الخصام والمشاجرة. ونتيجة لإحدى المشاجرات عام 1722م، اضطر والد روسو إلى الفرار من جنيف، فتولى عم الصبي مسؤولية تربيته. شكلت سنة 1728 نقطة تحول بارزة في مسار حياته رحيله صوب منطقة السافوا، حيث سيتحول عن البروتستانتية إلى الكاثوليكية، وأسباب ذلك يفصل فيها بمؤلفه المعنون بـ“الاعترافات”. بعد سنوات من التشرد في إيطاليا ثم فرنسا، حط الرحال سنة 1742 بباريس، حيث التقى كبار فلاسفة المرحلة (كوندياك، ديدرو، دولباخ، فولتير ..)، اشتغل هناك بالتأليف والتنظير في مجال الموسيقى قبل الفلسفة. التي سيكتب فيها أول كتاب سنة 1754 هو “أصل التفاوت بين البشر”، الكتاب الذي أهداه لحكام جنيف، وأبان فيه عن نزعة ديموقراطية كانت منطلقا لسجال طويل له مع فولتير. بعد حياة من الترف والتفكك الاخلاقي، عاد روسو إلى وطنه ومرجعيته في آن، أي حظيرة الكنيسة الكالفينية، حيث انتصر لحياة التقشف، العدل والبراءة. انبرى كذلك في سنواته الأخيرة وتحديدا ما بين 1763-1778 في الترويج لمواقفه، فكتب رسائل عديدة، أهمها “الاعترافات” سنة 1770، بأسلوب ونزعة محاسبة النفس.
بالعودة لمؤلف دين الفطرة / عقيدة قس من جبال السافوا، نشير كما يورد عبد الله العروي، إلا أنها ليست عقيدة بالمعنى المألوف، بل هو خطاب من ثلاثين موضوع، يلقيه قس من جبال السافوا على مسامع شاب متمرد دينيا بسبب مآسيه، بأسلوب منطقي مركز إلى حد الغموض. ويمكن تقسيمه لقسمين يتناول العقليات في الأول، والنقليات، بالتعبير الاسلامي، في الثاني. بتروي تأمل الفتى المتمرد الخطاب، فأرسل نسخة منه إلى مواطن آخر كان مكلفا بتربية إميل.
هنا يثير العروي عدة تساؤلات وفرضيات في آن. أولاها موقع روسو من الأمر؟ هل هو القس؟ الشاب ؟ فالتشابه واضح مع ما جاء في الاعترافات. ليصل إلى التأكيد بأن جمهور القراء، خلص لتطابق عقيدة القس وعقيدة روسو، بما فيها من التباس وغموض. والتي ستجر عليه غضبا مزدوجا، من الكاثوليك على لسان اسقف باريس، ومن البروتستانت على لسان رئيس كنيسة جنيف. يقول المترجم “نستطيع أن نلخص مقولات روسو في جملة واحدة، الايمان في خدمة النفس، الدين في خدمة المجتمع، المجتمع في خدمة الفرد”، أي أن روسو آمن بفردانية مطلقة، فأعلى مراتب السعادة رضى النفس على ذاتها، مع ضرورة متحررة من الاحكام المسبقة كنسية كانت (الوحي، الرسالات، الجنة، النار ..) أم فلسفية (الخلق، السكون، الغريزة ..).

منهج التشخيص :

عمد المترجم إلى نقل النص إلى العربية دون “تعريب” يقول أو “أسلمة”، إذ حاول المحافظة على النزعة الكلاسيكية له. ما لم يكن سهلا البتة لاعتبار قد يجعل النص بالنسبة للقارئ العربي المسلم وغير المسلم تقليديا، ويوقعه في الابتذال والتسطيح. فمنطق روسو هو وجدان الفرد الحر المستقل، عماد الفكر الحديث، المغيب لدى مؤلفي الاسلام، يضمن معان جديدة لألفاظ عادية مثل إيمان، تصديق، إخلاص..

إشكالية الكتاب :

ينطلق الخطاب من سؤال حضور روسو لحظة وصوله باريس ومصاحبة الفلاسفة العلمانيين، هو ما شكل التعبد المناسب لمجتمع يعتقد أنه وجد في علم الماديات بديلا كافيا شافيا عن الدين التقليدي؟ وهنا يحيلنا العروي على ملاحظة مهمة جدا، مفادها أنه في حال استشعرنا بأننا في وضع مماثل يقتضي نفس السؤال، يجب أن يتم الأمر في إطار ظروفنا الخاصة. بمعنى آخر لا يجب أن نحلل وضعنا الماضي والحاضر على ضوء منهجية روسو. لكن والأمر كذلك لماذا الترجمة والكتاب الآن، ما الحي والخصب في فكر روسو اليوم. يجيبنا العروي هي الظرفية المعولمة الخاضعة لمنطق الرفاهية والمتعة، هو زمن خصوم روسو فيه أقرب. لكن دعوته للتقشف والزهد، القناعة بدل المغامرة، الطمأنينة بدل القلق، مسايرة الطبيعة لا معاكستها، المعالجة لا الاستنفاد، هي نفسها أمان ورهانات دعاة عالم بديل. “فكلام روسو في عقيدة القس الجبلي ليس عن الدين بقدر ما هو عن الهم الديني. وهذا الهم عاد بعد أن غاب، وإن قدر له أن يغيب مجددا فهو لا محالة عائد ما دام الانسان إنسانا”.

المضامين :

يبدأ الكتاب بخطاب لقس يوضح فيه الغاية المتوخاة من النصيحة وهي نقل تجربة ذاتية موجهة. اصطدم فيها الواقع بالقيم، وأثار حالة شك وارتياب أعقبها تأمل وتساؤل في آن “لماذا يحتجب الحق عن قلب متشوق إليه متحمس لعبادته”؟ بيد أن الحصيلة كانت أفكارا مضطربة، غامضة، متهافتة عن سر الوجود ونظام الحياة. وهنا انتقد الكنيسة التي إن رفضت الجزء تركت الكل، وفي نفس الآن الفلسفة المادية العالمة بكل شيء، العاجزة عن إثبات أي شيء لحججها يقول الهادمة. لذا يقول القس، يجب الاكتفاء بالمهم “فلا أغتم إلى حد الارتياب إلا بما تنفعني معرفته”. والبديل هو الوجدان، فحتى إن أخطأ فهو خاص والضرر أخف. أي أن “ما اطمأن إليه قلبي من دون تردد اعتبره حقيقة بديهية، وكل ما ترتب في نظري عن هذه الحقيقة حكمت بأنه صحيح مقرر. وغير ذلك وضعته بين المنزلتين، لا أقره ولا أنفيه، بل لا يعنيني توضيحه إن كان لا يؤدي إلى منفعة ثابتة”. لكن يعود القس ليتساءل ومن أنا أصلا ؟ والأحاسيس قادمة من الخارج ؟
    يقر هنا بصعوبة الفصل بين الوعي المنفصل عن الذات وبين المتصل بالمحسوسات لأن الانسان معرض باستمرار للمحسوسات الموجودة حوله في ذات اللحظة وبين المحفوظة في الذاكرة. ثم يصل إلى نتيجة أن المحسوسات داخلية تشعره بأنه موجود لكن أسبابها خارجية تؤثر فيه رغماً عنه. ليخلص للقول: “إذن أنا موجود لكن غيرى موجود أيضاً، أعنى مضمون المحسوسات وحتى عندما تكون مجرد أفكار يبقى صحيحاً أنها ليست أفكاري أنا. وعليه فكل ما أشعر به خارجاً عن نفسى مؤثراً فيها، أسميه مادة. وكل مادة أراها مجسدة في كائن قائم بذاته أسميه جسماً.”
يقر هنا أن القوة الذهنية الممارسة على الأشياء المحسوسة، تجعل من الانسان فاعلا عاقلا، بيد أن الحقيقة تبقى محكومة بالأشياء ذاتها وليس الأحكام التي يصدرها العقل بشأنها. فكل ما يدرك بالحواس مادة، تارة تبدو متحركة، وهنا لا بد لها من سبب وهو خارجي دائما، وتارة أخرى ساكنة إذا ارتفع هذا السبب، وهذه هي حالتها الطبيعية. مثلا الكون متحرك، الشمس والأرض، خاضع لقوانين قارة. لكن يقول بل هي لإرادة، وهي المبدأ المركزي في العقيدة، “فوراء حركة الكون ونشاط الطبيعة توجد إرادة، على هذا المبدأ أشيد عقيدتي فهو بندها الأول”. وهنا الإرادة بنتائجها وليس في طبيعتها، وهي منفصلة عنها. فإن كانت الحركة تدل على إرادة، فالمادة المتحركة تدل على عقل، وهذا هو المبدأ الثاني في العقيدة. فالمتأمل الدقيق في نظام الكون، يدرك دقته وإن استعصى الوصول للغاية من ذلك. يورد القس: هل يخفى على أي ناظر منصف أن النظام الظاهر في الكون ينبئ بوجود عقل أسمى؟ يجيب الوجدان يفند مزاعم المجيب بالسلب. ويتابع “رغم تحذلقهم لا أستطيع تصور مجموعات من الكائنات منتظمة انتظاما قارا بدون أن افترض عقلا هو المسؤول عن ذلك الانتظام ... لا أستسيغ ... أن يكون الدهر قد أبدع من غير قصد كائنات عاقلة وأن ما لا يفكر قد أنشأ كائنا يفكر”.
هذا العقل المحرك للكون يؤكد القس واحد، فوحدة النظام ووحدة الغاية تحيل على اسم الرب، المرادف للعقل والقدرة والمشيئة والجود. لكن يقف ويؤكد يجب تفادي المجادلة في ماهية الرب، هي مخاطرة كبيرة لا تليق بعاقل، “أينما ملتُ تجلى لي الرب في أفعاله. أشعر به في ذاتي وأراه في كل شيء خارج ذاتي. لكن إن رمت رؤيته في ذاته، إن سألت أين هو؟ من هو ؟ ما جوهره؟ غاب عني، اضطرب ذهني ولم يعد يرى أي شيء”، المهم موجود وكفى.
ينتقل بنا لمناقشة الإنسان، الذي هو بالنسبة له كائن سام مالك للقدرة على التأثير في الأجسام المحيطة به، مطاوعة كانت أم ممانعة، وبشكل انفرادي. وهذا رد قوي على من يقلل من شأنه، يقول: “ويحك، أيها الفيلسوف، أستطيع أن أراقب، أن أعرف ... أن أفهم ... أن أتأمل ... أن أحب ... ومع هذا أساوي نفسي بالعجماوات؟ أيها الشخص الدنيء، فلسفتك المقيتة هي التي تضعك في مستواها ... لو وجب علي أن أختار في سلم المخلوقات رتبة لنفسي، لما تطلعت إلى ما فوق الانسان”. وبالتالي يحث على الامتنان وشكر الخالق.
بيد أن المثير هو انتظام الطبيعة وفوضى الانسان، تعاضد الطبيعة وتناحر البشر ! السبب يجيب، كامن في ازدواجية طبيعة الانسان، فهو، الجزء العلوي فيه، محب للعدل والفضيلة، وفي الآن أسير للحواس مطاوع للشهوات، معاكس لما يلهمه الأول. اختيار يحيل على حرية الإنسان في الفعل، أي من ذات الإنسان وليس من الرب، فهو لا يدخل في النظام الذي اختاره الخالق، بل هو “الإسراف في توظيف مواهبنا” وهو سبب الشقاء والنزوع نحو الشر، أي مسؤولية الانسان لذاته عن الشر، فالخالق عادل كريم. وبالتالي “فمن يظل على الفطرة ويعيش عيشة بسيطة يتعرض لقليل من الداء ولا يكاد يعرف المرض أو الشهوة ... لو رضينا بوضعنا لما ندبنا حظنا، لكننا نلاحق ملاذ وهمية فنجني ألف ضرر حقيقي”. فالإنسان خير بطبعه، قيم العدل والمساواة والمروءة قيم متاحة للبشرية جمعاء، بعض النظر عن المرجعيات والعقائد والاثنيات، الكل يقدس البر والإحسان ويزدري الظلم والجور.. وهنا يلح على أن الضمير هو الفيصل وليس العقل الذي يخدعنا كثيرا، عكس الأول. فما يصدر عنه هو الشعور وليس الاستنتاج، و “الوجود بالنسبة لنا يعني الشعور، والشعور سابق لا محالة على الفكر”، وبذلك فالطبيعة أولى والاستدلال العقلي غير لازم. لا يتحقق التوازن أو الفطرة، إلا بالموت، حيث يفنى الجسد وتستمر الروح، فعندما ينتهي اقترانهما يعود كل واحد إلى وضعه الطبيعي. لكن يستحيل إدراكنا لمآل هذه الروح، أستكون سعيدة أم شقية؟.
يتوقف القس الواعظ لحظة، ليتحدث التلميذ المستمع طالبا من أستاذه الخوض في الوحي والكتب المنزلة، متشابهات الايمان التي استشكلت عليه، وتاه فيها بين الرفض والقبول، الفهم والايمان. يستجيب المرشد ويغوص في أغوار مواضيع مربكة ممتنعة غامضة، تطرح الشك والريبة، ليطرح بذلك تساؤلات لا آراء، وفق ميثاق اختصره لتلميذه قائلا : “الحقيقة ابحث عنها أنت، أما أنا فلا أعدك إلا بالصدق وحسن النية”. هو إلحاح على النظر للكون استنادا للوجدان للفطرة، لأن التعاليم الخاصة بالشرائع لا توضح أسرار الكائن الأعظم بقدر ما تزيدها غموضا وتضيف تناقضات سخيفة، “ما أن بدا للبشر أن ينطقوا للخالق حتى أنطقه كل واحد على هواه”.
في حين أن غاية الخالق عبادة صادقة واحدة، بغض النظر عن عبادة الظاهر (الصلوات، الحركات، الطقوس ...) التي تكرس الخلاف والفوضى فكل ملة كل نحلة تصيح أنا وحدي على حق، من اتبعني نجا ومن خالفني غوى. أي أن الديانة لا يجب أن تكون ملغزة غامضة، لأنها بذلك تزرع الشك وتطمس نور العقل. وهنا القس ينكر تعدد المعجزات، مؤكدا أن الرب لا يمكن أن يصطفي أحدا دون الآخر، وهو أب الانسانية جمعاء. فتعدد الديان والرسالات إشكال، إن صح أن دينا واحدا يضمن الخلاص لمن يعتنقه. هو بحر لا ساحل له، يقول روسو على لسان القس ، معلنا: “عدت القهقرى وحصرت عقيدتي في أبسط التعاليم” التي يحصرها فيما يخص السلوك، لأن العقائد لا أثر لها في الأفعال والأخلاق.
لكنه يعود ليحسم بأنه يقبل كل الشرائع والديانات مادام الخالق يعبد فيها عبادة تليق بعظمته، المهم في الأمر خشوع القلب يعلن. هي دعوة للتعايش والتسامح فـ“القلب الصادق هو معبد الرب الحقيقي”. ومفتاح الصدق والتواضع، منهيا رسالته هاته قائلا لتلميذه: “إن جهلت شيئا اعترف بجهلك، فلن تخدع أحدا ولن تنخدع بأحد. إن نمت مواهبك وأصبحت جديرا بمخاطبة الجمهور، كلم الناس بما تكنه في ضميرك و لا تأبه إن صفقوا لك أو لا...”

إبراهيم أيت إزي 

المصدر: الأوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...