قندهاريون يضربون الناس بقضبان معدنيةوطالبانيون يضعون لحية للديكور

04-03-2008

قندهاريون يضربون الناس بقضبان معدنيةوطالبانيون يضعون لحية للديكور

كانت رحلة محاطة بالموت، تلك التي اختار تركي الدخيل أن يكون أحد أفرادها، فبعد أن كادت المنايا تبعث بروحه إلى السماء أمام منزل وزير الخارجية الأفغاني لسوء تقدير قائد السيارة التي كان يستقلها واثنان آخران، رمت «المنايا» عباءتها عليه مرة أخرى وهو يعبر حقل ألغام تتفوق فيه فرص الفناء على البقاء ضمن قائمة الأحياء، وسماؤه لا يطير فيها شيء غير الرصاص والقذائف والدعوات بالنصر، لكن الله «سلّم» وعبر «السمين السابق» الجبهة الطالبانية المسعودية بحثاً عن أحمد مسعود شاه... يقول ترأحمد مسعود وتركي الدخيل بعد اجراء الحوار كي الذي عمل لفترة محرراً سياسياً في «جريدة الحياة اللندنية»، في أحد فصول كتابه «كنت في أفغانستان» الذي نستعرض أبرز ما جاء فيه: «بدأنا بالاستعداد لقطع خط النار بغية الوصول إلى الضفة الأخرى، الطريق يقارب كيلومترين، وبدأ دويدار ومساعدوه يشرحون لنا أن علينا أن نمضي في خطوات ثابتة على طريق واحدة، خشية أن نطأ لغماً يجعل نهاية حياتنا في هذه الأرض! بدت القصة أكثر جدية الآن، بخاصة وأنا أستمع بين لحظة وأخرى، إلى أصوات تبادل إطلاق النار بين الفريقين».

ويضيف تركي في كتابه الذي نشرت أجزاء منه قبل أعوام ضمن تقارير خاصة بالصحيفة: «كرر دويدار تعليماته. ضعوا أقدامكم في الموضع نفسه الذي تطؤه أقدام الرجل الذي سيقودكم. امشوا بثبات وتؤدة، واستعينوا بالله، وهو لكم حافظ.

بدأنا في المسير، الدليل، فجلال، ثم أنا. وجدتُ الدليل رجلاً نحيلاً، ذا قدمين صغيرتين، وجلال يكبره في مقاس الرجل، لكني بيني وبينهما ما يقارب أربع درجات في مقاس الرجل، وهذا يعني احتمالات أن يضع الرجلان قدميهما في مكان آمن، فأتابعهما وأضع قدمي على موضع قدميهما، لكن زيادة زياداتي قد تخرجني من أمن تقدمهما علي... تذكرتُ من جديد، أثناء السيرِ، تحذيرات دويدار، وتفضيله بقائي في كابول، على المضي في وسط الجبهة عارياً من التحصينات، في مرمى نيران الفرقاء الأفغان.

كان الرجلان، يحثان السير، في خطى متسارعة، بالنظر إلى جسميهما، وكنت رجلاً ثقيل الوزن، بطيء الخطى، وبخاصة وأنا أحمل حقيبة فيها جهاز كمبيوتر، وحقيبة كاميرا، لم يتسن لي استخدامها في مناطق طالبان، بالنظر إلى تحريمهم التصوير، وبخاصة تصوير ذوات الأرواح، وهو الأمر الذي قد يجُرُ إشكاليات لا داعي لها.

كان أزيز الرصاص، غير بعيد عنّا. لقد طلب دويدار من خصومه أن يتوقفوا عن إطلاق النار، بغية انتقال وسيط لتبادل الأسرى، وصحافي يريد أن يغطي النزاع من وجهتي نظر الفرقاء، فأعلن الطرف الآخر أنه سيلتزم بذلك، لكن أصوات النيران ووميض المدفعية، لم تتوقف... ولم أعِ إلا ونحن نوشك على بلوغ الطرف الآخر من الجبهة، حيث تحالف الشمال».

< يقول تركي الذي مر على صراط من موت محتوم: عندما وضعتُ قدميّ داخل أراضي مسعود، قابلت في البداية قائد خط المواجهة الأمامي، وكان رجلاً في العقد الخامس من عمره، وهو ضابط سابق في جيش نجيب الله، اسمه عبدالخالق باينجار. أول ما تلحظه في عبدالخالق أنه مُدخنٌ شره، ففي الدقائق العشر التي أقلنا فيها بسيارته، التهم ما يزيد على خمس سجائر.

كان أشبه ما يكون بمن يشعل السيجارة من عقب شقيقتها، قبل أن يطفئ هذه الأولى!

احتفى بنا عبدالخالق، وأقلّنا في سيارة بيك أب (سيارة نقل بأربعة أبواب ومقعدين)، وجلس في المقعد الأمامي. قال لي القائد عبدالخالق، إن قائداً تابعاً لمسعود اسمه زالمي له أخوان في صفوف طالبان، وهما يتواجهان يومياً، لكن بالقتال والمدافع. وكنتُ شهدتُ في الطرف الآخر، حواراً عبر اللاسلكي بين رجلين من الفريقين.

كان دويدار القائد العسكري في «طالبان»، يضحك على الحوار، وهذه ترجمة جزء منه:

> هل أنت مسلم؟

- أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، هل يكفي هذا لتقبلني مسلماً؟

> لكن تصرفاتك لا تدل على ذلك؟

- أنتم لا تعلمون من نحن، لقد أعلنتم الجهاد على أحمد شاه مسعود، وأنتم لا تعرفون من هو مسعود ومن هم الذين معه؟ ثم تحول الحوار إلى سباب ... وسألتُ قائد خط المواجهة لدى مسعود، عبدالخالق: هل يفرح ورفاقه إذا أوقعوا خسائر في صفوف عدوهم؟ فقال: «نحن مجبرون على ذلك. وإلا لا أحد يحب أن يقتل أخاه المسلم». واستشهد على ذلك بقوله: «أسرنا ذات مرة مولوي في صفوف طالبان، وأخذ أحد عناصرنا ساعته عنوة، فلما رأيتُ ذلك، نهرته وضربته، وأعدت الساعة إلى صاحبها، وبادلناه بخمسين أسيراً».

يروي تركي: اقتنصتُ فرصة لأطرح أسئلتي على مساعد أحمد شاه مسعود (باسم الله) خان وهو أحد أبرز قادته المقاتلين وأشدهم قوة، فهَشّ وبشّ ورحّب، كل ذلك والابتسامةُ، ووجهه المريح، صنوانٍ لا يفترقان...

طلبت من باسم الله خان الإجابة عن بضعة أسئلة، فلم يتردد:

> ماذا تريدون من طالبان؟

- نريد منهم طرد الأجانب الباكستانيين في صفوفهم إلى خارج البلاد، وأن ينظروا إلى القوميات المتعددة في أفغانستان بعين المساواة.

> لكنكم أنتم تحصلون على دعم من دول أجنبية، مثل إيران وطاجيكستان والهند؟

- (ابتسم بهدوء، بعد أن أثارَ السؤالُ استفزاز عينيه الهادئتين)، وقال: هذا صحيح، هم يدعموننا لكننا نحن الذين نقاتل، ثم إن دعمهم يتمثل بالسلاح فقط. نحن ندفع الأموال لنشتري منهم السلاح، كما أنهم يقدمون لنا دعماً لوجستياً.

> ومن أين لكم الأموال؟

- لا تنس أن مصارف أفغانستان كلها في يدنا. ما زلنا نحن الدولة المعترف بها عالمياً. والمصارف الأفغانية في أيدينا. وما يغطي النقد الأفغاني تحت تصرفنا.

> هل يقاتل مسعود عن نفســه، أم عن برهان الدين رباني؟

- رباني هو رئيس الحزب ورئيس الدولة. ومسعود وزير الدفاع. وهو بالتأكيد تحت قيادته.

> لكن جميع معارضي طالبان خارج أفغانستان الآن، ولم يبق إلا أنتم؟

- (أجاب فوراً، بكلمات لا تنقصها المرارة والحرقة) نحن لأننا في خط المواجهة الأول نعتبر كل الذين خرجوا من أفغانستان أعداء لنا.

> بمن فيهم رباني، الذي يقضي معظم وقته خارج أفغانستان، وتحديداً في إيران، هذه الأيام؟

- (ابتسم وأطرق قليلاً)، ثم قال: رباني هو زعيمنا.

> إلى متى تتوقعون أن يستمر القتال في أفغانستان؟

- حتى يتنازل زعماء طالبان عن غرورهم ويقبلوا الجلوس إلى طاولة المفاوضات. ويشكّلوا حكومة موسعة.

> قلتَ لي قبل الحوار إن في صفوف طالبان من كان صديقاً لكم، وكان معكم أيام الجهاد ضد الروس... لماذا انضموا إلى طالبان برأيك؟ أقصد كيف أصبح أصدقاء الأمس، فجأة، أعداء اليوم؟!

- لكل شخص فكره وذوقه وتفكيره ومزاجه، إنها بطبيعة الحال، تقودهُ إلى اختيار الفريق الذي ينحازُ إليه.

> أليس في صفوفكم الآن مقاتلون عرب؟

- كان العرب يقاتلون معنا أيام الجهاد (ضد الروس)، أما الآن فلا يقاتل معنا إلا الأفغان... العرب يقاتلون ضدنا مع «طالبان». معهم يمنيون وجزائريون وفلسطينيون وسعوديون، أكثرهم أنصار أسامة بن لادن.

> وهل يقاتل ابن لادن مع «طالبان» ضدكم؟

- إذا كان أنصاره يقاتلون ضدنا، فهو بالتأكيد يقاتل ضدنا. قبل أيام، هجمنا على ثلاثة مراكز للعرب. ووجدنا آثارهم بعد أن قُتلوا في المعركة، ولدينا أوراقهم الثبوتية. إنهم أنصار لابن لادن. ووجدنا في مراكزهم أسلحة لم نجدها في مراكز طالبان التي سيطرنا عليها. هذا يعني أن لديهم قيادة مُستقلة، وإن انضموا إلى صفوف طالبان من حيث الإجمال. أعداؤنا يقولون إن معنا إيرانيين وطاجيكستانيين، لكنهم لا يستطيعون إثبات ذلك. إنني أتحدى أحداً أن يثبت أن في صفوفنا من ليس أفغانياً.

> كيف تُقَوِّم قدرات «طالبان» القتالية؟

- لو لم يكن الجيش الباكستاني معهم، فلن يحققوا انتصاراً، أنا واثق من أنهم لا يفهمون فنون الحرب.

حواري مع مسعود

ما إن جلسنا مع أحمد شاه مسعود، وتبادلنا التحايا، حتى بدأت لواعج النفس تستغل كل لحظة، أن أبدأ معه حديثاً من نوع آخر... حديث الصحافي الذي جاء يحمل صفحة بيضاء، يُريد أن يدوِّن عليها بعضاً من كلام الفرقاء.

> ماذا تريد من طالبان؟

- أول ما نريده هو أن نحل مشكلة أفغانستان من طريق المفاوضات، هذا هو طلبنا. هم يريدون تطبيق الشريعة، ونحن جاهزون لذلك. يريدون تجريد الناس من السلاح، ولا مانع لدينا. يريدون الحرب ضد المنكرات، ونحن جاهزون لذلك. هذه مطالب بديهية، ونحن جاهدنا من أجلها. كل طلباتهم مقبولة لدينا، ولا نجد في ذلك فرقاً بيننا وبينهم. وما نريده هو الجلوس سوياً لحل المشكلة.

> إذاً، ما المآخذ لديك على طالبان؟

- المآخذ عليهم، ليست الموضوع المهم الآن.. المهم هو أنهم إذا كانوا يريدون حل مشكلة أفغانستان، فأنا مستعد للجلوس معهم من أجل ذلك.

> أنت الوحيد الذي لم يُلقِ السلاح في وجه طالبان، فهل تقاتل الآن باسمك أم باسم غيرك؟

- حكومة طالبان حكومة ظلم. والحكومة لا تستطيع الحكم بالسلاح. والذين تخلوا عن السلاح في مواجهة طالبان، فعلوا ذلك ربما لأنهم لم يستطيعوا حمله. بل ألقوا السلاح تحت تهديد القوة. لكنهم سيعودون إلى حمله في ما بعد... وكل المناطق التي تسيطر عليها طالبان الآن ستحارب هذه الحركة لاحقاً. وقلتُ لطالبان إما أن نحل المشكلة بالحوار، أو سنحاربكم إلى آخر مدى. حتى ولو كنت آخر رجل حي، سأحارب، ولن أستسلم للظلم، ولا للقوة. ولو كنت أستسلم للقوة، لاستسلمت للروس.

وكما ترى، كل البناء الذي شاهدته في بنجشير، سواه الروس بالأرض. ونحن بنيناه من جديد، ولم نستسلم لهم، فكيف نستسلم لطالبان؟ قلنا لهم: تعالوا نجلس لنرى ماذا نريد. تريدون الشريعة فعلاً؟ اجلسوا لنتحدث.

عندما يكون هناك خلاف بين المسلمين، فإنهم يرجعون إلى الله وإلى رسوله، كما في القرآن الكريم، فلماذا هم غير مستعدين للرجوع إلى الله ورسوله؟ أنا قلت لهم هذا الكلام من أول يوم.

> هل جلست معهم وقلت لهم ذلك؟

- عندما وصلت طالبان إلى أبواب كابول، وكنا نحن المسيطرين على المدينة، ذهبت إليهم بنفسي، مع ثلاثة – فقط - من حراسي وقلت لهم: ماذا تريدون؟ كان ملا رباني (رئيس حكومة طالبان حين المقابلة)، وملا ترابي، وملا غوث، كلهم كانوا موجودين، باستثناء ملا عمر (زعيم الحركة)، لم يكن موجوداً. قلت لهم: ها أنذا بنفسي عندكم فماذا تريدون؟ قالوا: نريد الشريعة. قلت: أنا أريدها. قالوا: محاربة المنكرات. قلت: هذا مقبول عندي. قالوا: ألا نترك الحكم والمناصب للضباط الشيوعيين؟ فقلت: لا مانع لدي في ذلك.

قالوا: نريد أن ننزع السلاح من البلاد.

قلتُ: أنا كذلك. لكني أشرت إلى أني لست كأي قائد، يملك عشر قطع كلاشنيكوف، فيسلمها فوراً لهم. أنا عندي جيش كامل، بدباباته ومدافعه ومعداته وذخيرته، كيف أُسَلّم هذه الأشياء؟ قلت لهم: أوجدوا لنا آلية لحل المشكلة.

عندها نظر كل منهم إلى الآخر، وقالوا: نحن إلى الآن لا ندري كيف سنتعامل مع الوضع!

> ماذا تقصد؟

- اسألوهم عن ذلك. قلت لهم: تعالوا إلى كابول لنجلس سوياً ونبحث عن حل للمشكلة.

بعد يوم جاؤوني إلى كابول، جاء ملا ترابي، وملا محمد غوث، وعبدالواحد بهران، نيابة عن طالبان. وجلسنا جلسة أخوية، كي نحل المشكلة، اتفقنا على الإعداد لاجتماع يضم مئة عالم، خمسين من كل جانب، يحددون مستقبل البلاد كلها. وقبلوا جميعاً الاقتراح. وتم تعيين اليوم المحدد للاجتماع فجمعنا نحن علماءنا من أنحاء أفغانستان، لكنهم هم لم يُحضِروا علماءهم. واسألوهم عن ذلك. وعدونا، وحضرنا، ولم يَحضُروا، ثم ومن دون مقدمات، بدأوا الهجوم علينا.

> أين هاجموا؟

- هاجموا كابول ونحن داخلها. اتفقوا مع مزاري (زعيم حزب الوحدة الشيعي الموالي لإيران)، وهاجمونا من (منطقة) تشارسياب، مستعينين بمزاري. وكل الناس يعلمون ذلك.

بل هم أنفسهم، يعترفون أحياناً بهذا الخطأ. وبدأت الحرب منذ ذلك اليوم. ومرة ثانية، قالوا: نريد أن نتحدث. فقلت لهم، الكلام السابق: نرجع إلى الله ورسوله (صلى الله عليه وسلّم)، ونرى ماذا نعمل، وما الذي يقبله الشعب الأفغاني. وأنا أقبل بما يقبله الشعب. لكني لن أستسلم بالقوة أبداً وهذا مستحيل... هذا هو رأيي من أول يوم واليوم وإلى الأبد.

> كان بينك وبين عبد رب الرسول سياف (زعيم الاتحاد الإسلامي) عداء شهير أيام الجهاد، كيف تحالفتم الآن في وجه طالبان؟

- عندما كان سياف بعيداً عن البلد، كانوا يعبئونه ضدي. وكانت صورتي عنده سيئة. هو بنفسه اعترف لي بأن انطباعه عني كان خاطئاً تماماً. وعندما جاءنا ورأى كل شيء، اختلف التصور.

> أهي صداقة بعد عداوة؟

- خذ مثالاً آخر: الدكتور عبدالله عزام، كان يخالفني في كل شيء وضدي على طول الخط.

والغريب، أنه لم يرني ولم أره. ومع ذلك كان ضدي. ثم جاء إلى منطقتنا مرتين، واعترف بعدها بنفسه، بأنه لو قال له الزعماء الأفغان إن الليل حَلَّ، فإنه لن يصدق، حتى يرى الليل بعينيه.

لأن الكلام الذي نقلوه لعزام عني، كما يقول، كان مختلفاً تماماً عن الحقيقة.

كذلك الآن، هناك من يقول إن معي (مقاتلين) روساً. اذهب وفتش في جبهاتنا كلها. ولو وجدت أجنبياً واحداً، فحاسبني. وإذا أراد أحد أن ينشر مراقبين في الجبهات، للتأكد من عدم وجود أجانب يقاتلون معنا، فنحن مستعدون لذلك.

> مشهودٌ لك باستقلاليتك حتى إنك لم تخرج من أفغانستان طوال أيام الجهاد، وهو ما لم يفعله أي قائد أفغاني آخر، لكنك الآن تتلقى دعماً من دول مثل إيران، وطاجكستان، وغيرهما، فهل يتوافق ذلك مع هذه الاستقلالية؟

- كيف يؤَثِّر ذلك في استقلاليتي؟ في يوم من الأيام، كنا نحارب الروس، وكانت السعودية تساعدنا، فماذا أثر ذلك في استقلاليتنا؟ هل كانت السعودية تتحكم فينا؟ هذا غير صحيح.

> ولكن الدول التي كانت عدوة أصبحت تقدم لك الآن الدعم فما السرُّ؟

- هم يدعمونني لأجل مصالحهم، وليس لأجلي أنا.

> ولكن هل تقبل أن يدعمك اليوم عدوك بالأمس؟

- (يضحك). ثم يستشهد بالقرآن: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه).

> إذاً، أنت ترى أن دعم باكستان لكم وقت الجهاد كان فقط لمواجهة دخول السوفيات إلى باكستان؟

- كان الدعم فقط لمنافعهم الخاصة.

> إذاً، أنت لم يكن معك مجاهدون عرب؟

- كان عندي عرب. كان عبدالله عزام يرسلهم إلي يجاهدون ثم يعودون، وكان الجزائري عبدالله أنس من أشهر الذين قاتلوا معي. وهو الآن في إنكلترا.

> هل تعترض على تصرفات الأفغان العرب، خصوصاً ابن لادن؟

- جداً. فهذه التصرفات ليست لمصلحة الإسلام، وان قالوا إنها لمصلحة الإسلام. هم يدمرون سمعة الإسلام ويظهرونه وحشياً، وعلى أي حال هذا ليس في مصلحة المسلمين ولا في مصلحة أفغانستان. فما مصلحتنا في أن يستخدم ابن لادن أراضينا ويسبب لنا مشكلات لا نهاية لها؟ نحن نختلف معه، ونعتبر أن هذا ليس في مصلحة أو خير الإسلام أبداً.

وأي شخص يعتقد بأن هذه التصرفات لمصلحة الإسلام، أو حتى لمصلحة أفغانستان فإنه مخطئ. لن نستطيع أن نسقط أميركا بهذه الأمور.

هذه التصرفات تسيء إلى سمعة الإسلام.

أن تضع قنبلة لتنفجر في فندق فتقتل أميركيين اثنين، ويموت مئات المسلمين الآخرين ويجرحون. هل هذا جهاد؟ أي شريعة هذه؟

إن قتل أي إنسان، حتى لو لم يكن مسلماً، بهذا الشكل عمل خاطئ. ماذا يستفيد الإسلام من ذلك؟ هذا يحول رأي العالم كله عن الإسلام. طريقة النهوض بالإسلام ليست بالإرهاب، ولا بهذه التصرفات.

> لو كان الأفغان العرب الموجودون الآن في أراضي «طالبان» وعلى رأسهم ابن لادن تحت سيطرتك، فهل ستسلمهم إلى الحكومات التي تطالب بهم، سواء كانت الحكومات العربية أو أميركا؟

- أفضل شيء كنت سأعمله هو أنني سأحاول الإصلاح بينهم وبين حكوماتهم، وكنت سأطلب من الحكومات ألا تسجنهم ولا تقتلهم، وأن تدعهم يعيشون في بلادهم، وإذا كان هؤلاء الأفغان العرب يريدون أن يحاربوا لأجل الله ورسوله (صلى الله عليه وسلّم)، فسنرشدهم إلى الطريق الصحيح. هناك طرق كثيرة يمكن من خلالها خدمة الإسلام، والدفاع عنه من دون الإساءة إلى سمعته.

حديث آخر

يقول تركي: بعد أن أجريت الحوار مع مسعود، وتجولت في بنجشير، دعانا مسعود إلى غداء في الرابعة عصراً، وهو وقت لم يعتد فيه الأفغان على تنـــاول الطـــعام، لكن مــفاوضاته مع جلال امتدت حتى هذا الوقت. كانت مائدة مسعود عامرة فاخرة، بالمقاييس الأفغانية، وعلى المائدة كنت أكمل الحوار معه، فقال لي مسعود ضمن ما قال: إن «طالبان» ظالمة!

تركي: أي ظلم هذا الذي تتحدثُ عنه؟

مسعود: القندهاريون مشهورون بسوء الأخلاق. كما إنهم لا يُقدرون الناس، ويضربونهم بالكيابل. إذا دخلوا بلداً طلبوا من أهلها إلقاء السلاح وتسليم الأسلحة، فتأتي أول مجموعة وتسلم أسلحتها، ثم تأتي مجموعة من «طالبان»، وتطالب من سلّم السلاح لمجموعة طالبانية أخرى بأن يسلم السلاح، فإذا قال لهم ليس لدي سلاح، قالوا له إما أن تسلم سلاحاً أو أن تدفع نقوداً، أو أنهم سينهالون عليه ضرباً. هناك كثيرون ضربهم الطالبان حتى ماتوا من شدّة الضرب، وهم معروفون بأسمائهم، حتى لا تتصور أني أختلق القصص على «طالبان».

تركي: إذا كان هذا هو وضع «طالبان»، وهم بهذا السوء الذي تتحدث عنه، فلماذا كررت عليّ في الحوار استعدادك للجلوس معهم من أجل التفاوض؟

مسعود: أريد مصلحة أفغانستان، وأرغب في التخفيف عن هذا الشعب المسكين.

تركي: ألا تعاني من ضعف في موقفك العسكري في صراعكم مع «طالبان»؟!

مسعود: صحيح أن «طالبان» تهاجمني من خمس جهات، لكنهم يظنون أنني سأستسلم بهذه الطريقة. إنهم لا يعلمون أن هذا مُحالٌ بالنسبة إلي. تأكد أن أهالي المناطق التي تسيطر عليها «طالبان»، سيثورون عليهم في أي لحظة، فظلمهم لا يُحتمل.

تركي: لكنهم متدينون والأفغان يحبون المتدينين.

مسعود: هل تدري أن في «طالبان» من يضع لحية للديكور، مع أنهم من حزب خلق الشيوعي.

بعد الغداء، عاد مسعود وجلال لمزيد من المفاوضات، ولمّا دخل الليل، كان لا بد لنا من المبيت في بنجشير، قبيل العودة إلى الجزء الطالباني، نحن والأسرى المفرج عنهم من قبل مسعود.

رواتب المقاتلين

في بنجشير، التقيتُ شخصاً تابعاً لعبد رب الرسول سياف (زعيم الاتحاد الإسلامي السني الشريك في المعارضة)، وقال إن سياف يدفع لكل واحد من أتباعه الذين يبلغ عددهم 7 آلاف، راتباً شهرياً يعادل مئتي دولار، وهو مبلغ مرتفع جداً قياساً بالوضع الاقتصادي في أفغانستان وباكستان أيضاً. أما مسعود فأكد لي أنه يدفع للمقاتل من أتباعه ما يعادل خمسة دولارات شهرياً فقط. وعندما أخبرته كم يدفع حليفه سياف لمقاتليه، قال: «أتباعي يقاتلون بالروح وليس لأجل المال».

في الوقت نفسه يتلقى مقاتلو «طالبان» عشرة دولارات شهرياً، فيما لا يزيد راتب الوزير في حكومة الحركة على سبعة دولارات! وعلى رغم محبة أهالي بنجشير لمسعود وقادته، إلا أن الزائر يلاحظ فرقاً في تعاملهم مع الناس العاديين، خلافاً لما يحدث في أراضي «طالبان». فقادة «طالبان» يتناولون وجبة متواضعة ويجتمع كل المقاتلين مع قادتهم على مائدة واحدة. أما قادة مسعود فمائدتهم «فارهة» بمقاييس أفغانستان، ولا يشاركهم فيها المقاتلون العاديون، في ممارسة لنوع من الطبقية.

وتتضمن مائدة «طالبان» عادة، البطاطس بالطماطم مع الخبز واللبن الأفغاني. أما مائدة مسعود فتتضمن الرز والبطاطس باللحم والكباب واللبن والفاكهة.


التحدث بالهاتف ممنوع... إلا بشروط!

وصل تركي ومن معه إلى بنجشير ليلاً، ولم يكن سهلاً أن يتبينوا المكان، لا سيما والظلام كان يلف الأرجاء... وصلوا في التاسعة، بعد ساعتَيْ مسير، إلى منزل في بنجشير، كان داراً للضيافة، وبقوا ينتظرون دخول مسعود عليهم، مضت ساعة، وهم ينتظرون، فساعتان، حتى بدأوا يتململون.

يروي تركي القصة: دخل علينا أحد الرجال الذين يقومون في شأن الخدمة في المنزل، وقال لنا: يجب أن تذهبوا إلى مقر آخر. بُلغنا أن المهندس مسعود لن يأتيكم هنا، ستجدونه هناك، في «اندراب». السيارة بانتظاركم الآن، في أمان الله.

أخذنا حاجاتنا، وركبنا السيارة، التي يفترض أن تنقلنا إلى حيث أسد بنجشير. وصلنا بيتاً في اندراب، بنجشير، لم ينته بناؤه، لكنه بيت كبير، ودخلناه، فإذا في مدخله مجموعة يقودهم رجل في نهاية الستينات، فرحّب بنا أيما ترحيب، وأكرمنا أفضل إكرام، واحتفى بنا كما يجب أن يكون الاحتفاء، وزيادة.

تبين أن هذا الرجل، هو الحاج تاج الدين، والد زوجة مسعود. وعلمنا أن هذا المنزل للحاج تاج الدين، لكن مسعود يقضي الكثير من وقته في بيت أنسبائه، حيث تكون زوجته لدى أهلها، بسبب كثرة سفره في متابعة شؤون القتال والمواجهات.

ويضيف: عندما دخلنا منزل تاج الدين، كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة ليلاً، فطلبت منه أن أستخدم الهاتف. فالليلة هي مساء الاثنين - الثلثاء، ومضى منذ سافرتُ من الرياض ثلاثة أيام ولم أتصل بالعمل، ولا بالمنزل. قلت له: هل تصدق أني منذ أربعة أيام لم أخبر أسرتي أين أنا. أرجو ألا يكون القلق تسرّب إليهم!

قال لي تاج الدين ردّاً على طلبي: لا!... استغربتُ كيف تحوّل لطف الرجل إلى فظاظة!... من حقه ألا يسمح لي باستخدام الهاتف، فإتاحة الفرصة لي للاتصال بأهلي، فضلٌ، والفضل ليس واجب الأداء، وإن كان الله تعالى حضّ عليه بقوله: (ولا تنسوا الفضل بينكم)... لكن أمام الرجل المسن، ألف طريقة وطريقة، ليمتنع عن تلبية طلبي استخدام الهاتف، بعيداً من الفظاظة.

كان تاج الدين ينظر في وجهي بعد أن أطلق «لاءه» باتجاهي، فلاحظ أني استغربت، ثم تداركتُ ما أصابني من ارتباك المفاجأة، وقلت له: عموماً هو ليس أمراً ضرورياً، يمكنهم أن ينتظروا حتى يتيسر الهاتف... ضحك تاج الدين من أعماقه، حتى سعل من أثر الضحك!

تعجبت. هل هذا الرجل طبيعي. حفاوة بالغة، واستقبال نادر لا يفعله إلا الأهل مع بعضهم البعض، ووجْه طلق مبتسم، ثم رافض لتقديم خدمة، ومطلق لضحكة من أقصى أقاصيه، بلا مناسبة تبدو لي.

بقيت أنا وسيد جلال نرقب جدّ أبناء مسعود، متى سينتهي من الضحك، لنعرف ما القصة؟

وما أن انتهى، حتى قال لي: نحن لا نسمح لأحد باستخدام الهاتف، قبل أداء واجبات الضيافة إليه. ستأكل أولاً وتشرب، ثم أبشر بالهاتف ولو أردت أن تستخدمه ساعة.

ضحكنا مع الرجل، وامتثلنا لضيافته، فسقانا ماءً من أعذب المياه التي شربتها، ولما سألته عن مصدر الماء. فتح النافذة، وقال: هل تسمع صوت النهر؟!

قلت له: نعم.

قال: إنه ثلاجتنا، ومصدر حياتنا. منه نشرب، ونسقي ضيوفنا.

بعد أن تناولنا المكسرات، والكيك، وشربنا العصير والماء، قال لي تاج الدين: الآن حان الوقت لتطمئن أسرتك. سيكونون قلقين عليك، فدارنا دار حرب، وهم لا يسمعون في الأخبار إلا الحرب والقتل، فأزل قلقهم عنك.

أخذني إلى غرفة من غرف المنزل الكبير، ذي الأدوار الثلاثة، وأشار إلى هاتف (ساتلايت)، كان برقم فرنسي.

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...