ليليت والحركة النسوية الحديثة لحنّا عبود

12-07-2007

ليليت والحركة النسوية الحديثة لحنّا عبود

لم تكن إلا رسالة من عالم الغيب، عندما اكتشفتُ أن الإيقونة المعلقة في صدر بيتي، تلك الكف الزرقاء والعين المكحّلة في وسطها، تعود إلى أكثر من خمسة آلاف سنة مضت! لطالما استطاعت جدتي ليليت أن تحمي أرواح الأطفال والنساء عبرها! كانت رسالة فحسب، تحاول أن تشرّع روحي المغلقة، لتخبرني أني لست سوى ذاكرة متواصلة منذ بداية التاريخ، أو مجموعة من الحيوات المتراكمة عبر الزمن.
"يا ليل يا عين..."، لم تدندنها نساء قريتي فحسب، بل غنّتها النساء قبل ذلك بألوف السنين، وهنّ يهدهدن المهود، ويحاولن استعطاف ليليت بأغنيتها، كي تؤرجح أطفالهن بشعرها الطويل الأسود الشبيه بليل دافئ.
هذه بعضٌ من رسائل يحاول حنا عبود في كتابه الجديد "ليليت والحركة النسوية الحديثة"، الصادر هذه السنة لدى وزارة الثقافة في سوريا، أن يوصلها إلينا عبر سرد حكاية الجدة الأولى ليليت، منذ ولادتها حتى اليوم. هي ليليت نفسها التي أحيتها شعرياً، في لغتنا العربية، ولثلاثة أعوام خلت، الشاعرة اللبنانية جمانة حداد، وها هو حنا عبود يقاربها اليوم من جهة البحث. وهو إذ يقوم بمسح تاريخها المضني والمشرق عبر سبعة فصول، يتكلم في كل منها عن حقبة من حقب تمظهرات ليليت في كفاح النساء التاريخي ضد السلطة البطريركية. كتاب عبود هذا قد يكون عمله الأول على صعيد التأليف، لكنه ترجم قبلاً أكثر من كتاب حول الأسطورة والحركة النسوية، منها "يوم كان الرب أنثى" 1998، و"موسوعة الأساطير، بولفينش" 1997 وغيرها.
ليليت الربة الأسمى، ربة المهد والليل، هي في الفصل الأول "ليليت تنهض من خرائب سومر" حيث تبدو صورتها الأولى أيام العصر الأمومي، حين كانت سيدة مطلقة في تربية الأطفال. كما كانت إنانا أيضاً، صديقتها الحميمة آنذاك، السيدة المطلقة التي تتحكم بالسماء والأرض ومصائر البشر.
مع مرور الزمن ومحاولة الرجل أخذ زمام السلطة، راحت تتبدل الأمور. فليليت ظلت الربة الوحيدة التي لم تتخلّ عن صلاحياتها النسوية في رعاية المهود، ولا عن حقها في أن تكون الربة الأقوى والمتفردة، فيما تخلّت الربات الأخريات، وأولاهن إنانا، عن قواهن وسلطاتهن لمصلحة الأرباب الذكور، مما جعل سيطرة الرجل تنبسط تماماً على كل شيء، وجعل الربة إنانا، التي خانت بنات جنسها، عدوة ليليت اللدودة. تشكل إنانا وليليت نموذجين لسياستين أو تصرفين نسائيين مختلفين تجاه التطورات التي أدت إلى سيادة الذكر على إدارة المجتمع.
يفرد عبود الفصل الثاني ليتحدث عن حكاية ليليت في سفر التكوين التوراتي. كانت آنذاك زوجة آدم الأولى قبل حواء، لكنها لم تُصنع من ضلعه، كما حواء، بل خلقها الله من طين كآدم، وندّاً له. ملحمة الهرب هي سيرتها كامرأة حرة تجاهد للتخلص من ظلم الرجل الأول ورغبته بالتسلط، وفيها تطالب بنظام يوفّر الحرية ويحقق الذاتية، فيما يصرّ آدم على نظام الخضوع والمراتب الجنسية.
يرصد الكتاب من ثم التغيرات التي طرأت على سيرتها عبر التاريخ، حين راح الحكم الذكوري يلوي الحقائق لمصلحته، ويشوّه التاريخ، ومعه سمعة ليليت وصورتها، كي يقتلعها من قلوب النساء، ويقتلع حقها في شيء مهم ومفصلي في الحياة ألا وهو تربية الأولاد، وخصوصاً أنها بقيت الأنثى المعتدّة التي لا ترضى التدجين رغم كل محاولات القمع.  هكذا ستضحي ليليت الجميلة ساحرة شريرة، تسكن الخرائب والبراري المقفرة، وتتربص بالرجال والمواليد الجدد لتخنقهم. شعرها الذي كان مهد الأطفال وأرجوحتهم الليلية، يتحول إلى أنشوطة للخنق! وبإدراك الرجال حجم خطورتها وتأثيرها، راحت الحكايات تتكون في أصقاع العالم، لتغدو ليليت ربة الشرور. ستغدو الدراكولا الذي يمتص دم الصغار والرجال، وقائدة الحروب والخراب وهلمّ. لكن ذلك كله لم يستطع حرمان ليليت من قداستها، فبقيت وحدها التي تمتلك سر الله، أي اسمه، ووحدها التي تلفظت به حين كانت تحاول الهرب عبر أبواب الجنة الموصدة.
ظهرت الربة ليليت في الأساطير والميثولوجيا في أنحاء العالم كافة، من أيام الإغريق، مروراً بالأساطير الليبية، حيث كان اسمها الربة لميا، وصولاً الى مجتمعات البربر، التي لا تزال تعيش مجتمعاً أمومياً بامتياز، فإلى ليليت العربية واليهودية.
تقطع ليليت خلال حياتها الطويلة مراحل متعددة، منذ حاولت السلطة البطريركية تجريدها من استقلالها حتى اليوم، وهي تمرّ بمراحل من الثورات والانتفاضات النسوية، منها قبائل الأمازونات، وتاريخها الطويل الذي يشهد لصراعها المستميت لإعادة السيطرة النسائية على العالم. من أمازونات الإغريق، حتى أمازونات البحر الأسود، إلى الأمازونات الإفريقيات، إلى الأميركيات الجنوبيات، اللواتي قتل منهن الغزو الأوروبي الملايين أثناء اكتشاف العالم الجديد على ضفاف الأمازون الذي سمّي باسمهن.
كانت أسلحة الحركات النسوية الجديدة مختلفة عن أسلحة الأمازونات، التي شابهت الأسلحة الذكورية. سلاحها كان الجنس، ومن ثم إعادة نبش التاريخ. فالحقيقة، وهي حبيسة الأسطورة، لا تحتاج إلا إلى تحرير، من أجل أن تتجلى بكامل أبعادها. وكان للمرأة اليهودية، التي خضعت تاريخياً لأقسى أنواع السيطرة الذكورية، دور كبير في بعث صورة ليليت في العصر الحديث، فأصدرت باسمها الصحف والمجلات والمتاحف والمعارض والفرق الموسيقية.
يذكر عبود العديد من الناشطات النسويات في القرن العشرين، أولهن البلغارية جوليا كريستيفا، وهي من أهم الداعيات النسويات، وكانت عالمة لغوية لسانية. ومن ثم الفرنسية سيمون دو بوفوار وغيرهما. ويبدو أن هناك اقتناعاً عمّ الأوساط المثقفة العالمية، بأن تغيير العالم يبدأ من اللغة، فاللغة الذكورية خلقت مفاهيم ذكورية، وينبغي قلب اللغة كي تنقلب تلك المفاهيم.
كتاب حنا عبود الجميل هذا، وعلى الرغم من الاستطالات والتكرارات، غير المبررة أحياناً، يسرد بطريقة حكائية رشيقة وجذابة تاريخ جدتنا ليليت، منذ ولادتها في الألف الثالث قبل الميلاد حتى انبعاثها من القبر في القرن العشرين، وكل ما مرّت به من ويلات وفظائع وكوارث ومجازر، في محاولاتها الدائمة لاستعادة حقوقها المسلوبة، والاحتفاظ بتفردها واعتدادها، كأنثى فاعلة ومؤثرة وأبية، مهما تحاول السلطة البطريركية، على اختلاف أشكالها وعلى مدار ذاك الزمان الطويل، أن تشوهها وتلغيها وتجعلها تابعاً للرجل فحسب!.

تُنسب القصيدة الأولى (المعروفة) التي كُتِبت عن ليليت الى شاعر فرنسي مغمور من القرن الثالث عشر، اسمه اوغوست لول. ولكن لا شك في أن قصائد كثيرة كُتبت عن هذه المرأة القدرية قبل ذلك، وبعد ذلك على السواء. في ما يأتي لقاء انترنتي سريع مع شاعرة وشاعر معاصرين استلهما ليليت: الأولى هي الشاعرة الكندية من أصل ياباني جوي كوغاوا، التي أصدرت عام 2001 كتابا عنوانه "أغنية ليليت" بالانكليزية. أما الثاني فهو الشاعر الغواتيمالي فرناندو لويس خواريث، الذي أصدر عام 2006 مجموعة شعرية بالاسبانية عنوانها "البحث عن ليليت". يذكر أن من المقرّر أن يكون لجمانة حداد قراءات مشتركة حول ليليت مع خواريث في مهرجان "اللقاء العالمي للشعراء" في السلفادور، وأن يتم الشيء نفسه في كندا مع كوغاوا لدى صدور الترجمة الانكليزية من "عودة ليليت" (يعمل عليها الشاعر البريطاني ديفيد هارسنت).
طرحنا الأسئلة نفسها على الشاعرين عبر الإيميل، وهنا أجوبتهما:

ر.ر.
مع فرناندو لويس خواريث

¶تناولت مئات الكتب ليليت، في الشعر وفي الأدبين التخييلي وغير التخييلي. فما الذي حدا بكَ الى الكتابة عنها بدورك؟
- صحيح أن كثرا كتبوا عن هذه الشخصية، ولكن نحن ككتّاب، وحتى كبشر، لا نعيش التجارب والعلاقات والخيالات بالطريقة نفسها. تالياً فكّرتُ أن أكتبها على طريقتي. هل ينبغي لنا مثلا ألا نكتب عن الحب لأن سوانا سبقنا الى الكتابة عنه؟ ليليت هي رمز ومعيش، تماما كالحب. ولا يمكن أن نقارب هذا الرمز أو هذا المعيش بأسلوب واحد موحّد.
¶ حدثنا عن كيفية عملك على الشخصية، هل واجهت صعوبة في التعامل معها "شعريا"؟
- بالعكس. إنها أكثر شعريةً من موهبتي ولغتي وأفكاري.
¶ هل أجريت أيّ نوع من الابحاث قبل ان تنكبّ على الكتابة عنها؟
- قرأتُ أبحاثاً عنها، وأيضاً بعض الأعمال الأدبية بالاسبانية والانكليزية خصوصا.
¶ ألم تتأثر بما قرأته عنها؟
- لا. آمل على الأقل أني لم أتأثر.    
¶ هل أضفت منحى تخييليا على الشخصية أم التزمت القصة الأصلية وحوّلتها شعراً؟
- فعلا، كانت الكتابة عنها عملية اختراع أكثر منها اختبار وفاء لقصّتها .
¶ تراها ألهمتك في يومياتك أيضا؟
- انعكست معرفتي بها على علاقتي مع النساء عموما، ومع المرأة التي أحبّ خصوصا. نحن هنا في أميركا اللاتينية نعيش في مجتمع ذكوري الى حد كبير، وقد ساعدتني ليليت في تجاوز بعض مظاهر ذكوريتي المزعجة. علّمتني "الاستسلام".
¶ هل شعرت خلال مسار الكتابة عنها أنك تكتب أيضاً عن نفسك؟ هل تماهت الشخصية والشاعر في لحظة محددة؟
- لا أعرف. ربما. في أي حال استغرب كثر أن أكتب عنها، لأنها تستميل الكاتبات أكثر من الكتّاب عموما.
¶ وما هو التحدي الذي واجهته خلال كتابتك عنها؟
- مثلما ذكرت سابقا، كانت التحدي الأعظم في أنها اجمل من قدرتي على وصفها شعريا.
¶ أتختار بيتاً شعرياً ورد في كتابك عنها وتفضله؟
- "أنتِ أنا، ليليت،
عند المقلب الآخر
من جسدي".

- مع جوي كوغاوا

¶ تناولت مئات الكتب ليليت، في الشعر وفي الأدبين التخييلي وغير التخييلي. فما الذي حدا بكِ الى الكتابة عنها بدورك؟
- في الواقع لم أكن أعرف شيئاً عنها. بل كنت ببساطة أستجيب طلب موسيقي وفنانة اهتما بالتعاون معي في سبيل تنفيذ عرض "مولتي ميديا". جاءتني شتى المعلومات التي حصلت عليها من الفنانة ليليان بروكا.
¶ حدِّثينا عن كيفية عملك على الشخصية. هل واجهتِ صعوبة في التعامل معها "شعريا"؟
- لا أدرك تماماً كيف تبلور ذلك كله. أتت الكلمات ببساطة خلال "شهر من منتصفات الليالي المتتالية".
¶ هل أجريتِ أيّ نوع من الابحاث قبل ان تنكبّي على الكتابة عنها؟
- لا. بعثت لي ليليان بروكا بالمعلومات وكانت الوحيدة في حوزتي.
¶ ألم تتأثري بما قرأته عنها؟
- لا أظن. تطورت الافكار من تلقاء نفسها.
¶ هل أضفتِ منحى تخييليا على الشخصية أم التزمتِ القصة الأصلية وحوّلتِها شعراً؟
- أدركت انها شخصية ميثولوجية وتراءت لي امرأة قوية وعادلة تغلبت على تجارب متنوعة. صممتُ التجارب الثلاث التي ركزت عليها في كتابي بناء على تجارب السيد المسيح.
* تراها ألهمتكِ في يومياتك أيضا؟
- لا يمكنني الجزم.
¶ هل شعرتِ خلال مسار الكتابة عنها أنك تكتبين أيضاً عن نفسك؟ هل تماهت الشخصية والشاعرة في لحظة محددة؟
- لم أكن واعية تماماً، لكن في رأي بعضهم ثمة جزء من السيرة الذاتية في كل عمل بالمطلق.
¶ وما هو التحدي الذي واجهته خلال كتابتك عنها؟
- على نحو عام، يكمن تحدي الكتابة بالنسبة اليَّ في التزامي الانفتاح على مخاطر عجزي عن الولوج، وتالياً عجزي عن نقل اختبار وضع جلي وصائب في منحى ما. في هذا المعنى، أحدس أن كتابي عن ليليت غير ناجح. 
¶ أتختارين بيتاً شعرياً ورد في كتابكِ عنها وتفضلينه؟
- لا أدري. أجتاز الآن مرحلة من تفتت الثقة.
آه ليليت، أين أنت؟

روزا ياسين حسن

المصدر: النهار

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...