مـأزق السينمـا العـربيـة

15-11-2010

مـأزق السينمـا العـربيـة

لم تتبدّل أحوال الغالبية الساحقة من الأفلام العربية، المُشاركة في المسابقة الرسمية الخاصّة بالأفلام الروائية الطويلة في الدورة الثامنة عشرة لـ«مهرجان دمشق السينمائي الدولي» المنتهية مساء أمس الأول السبت، عن معظم الأفلام المشاركة في الدورة الرابعة (14 ـ 23 تشرين الأول 2010) لـ«مهرجان أبو ظبي السينمائي»: لقطة من الفيلم السوري الفائز بالجائزة البرونزية «مطر أيلول» لعبد اللطيف عبد الحميدخلل في البناء الدرامي. عجز عن اشتغال تقني/ فني سليم. ارتباك في رسم الشخصيات. فراغ في السياق الحكائي. هذه مشاكل أساسية، لم تستطع السينما العربية عامة الخروج منها. المحاولات الجدّية قليلة العدد، لكنها تؤكّد دائماً أن هناك براعة إبداعية مرتكزة، أساساً، على مُشاهدة نهمة وثقافة سينمائية واسعة وقدرات فردية على الاستفادة من التطوّرات الحاصلة في الغرب. ثمانية أفلام عربية في المسابقة الرسمية الخاصّة بالأفلام الروائية الطويلة في المهرجان الدمشقي، وثلاثة في مهرجان أبو ظبي. ضمّت برامج أخرى في المهرجانين عدداً من تلك الأفلام. النتيجة النهائية: هذه سينما محتاجة إلى تأهيل جذري. والتأهيل الجذري لا يستقيم من دون تحرير المجتمعات العربية من مآزقها الثقافية والاجتماعية والتربوية أولاً. وهذا ينطبق في سوريا، كما في المجتمعات الخليجية تحديداً. لم تبلغ المجتمعات العربية الأخرى مرتبة التحرّر الميداني الفعلي بعد، لكنها قادرة على إنتاج صناعة ثقافية وبصرية مغايرة للمألوف المهترئ.
هذا نقاش محتاج إلى مزيد من التنقيب، وإلى فسحة أوسع. هناك أمثلة عدّة للتأكيد على وجود محاولات فردية جدّية لصناعة سينمائية أفضل وأجمل وأهمّ. وهناك أمثلة كثيرة للاهتراء السينمائي الإبداعي العربي أيضاً. غير أن مُشاهدة ثمانية أفلام روائية عربية طويلة في المهرجان الدمشقي، حرّضت على إعادة طرح سؤال المأزق السينمائي العربي. في مقالة سابقة، منشورة في «السفير» يوم الخميس الفائت، في الحادي عشر من تشرين الثاني الجاري، توقّفت عند فيلمين خليجيين هما «ثوب الشمس» للإماراتي سعيد سالمين المري و«عقارب الساعة» للقطري خليفة المريخي: مثلان عن الحاجة العربية إلى الابتكار الإبداعي. المغربي داوود أولاد سيّد قدّم فيلماً جميلاً وهادئاً وساخراً، بعنوان «الجامع». زميله التونسي معزّ كمون سار على دربه في «آخر ديسمبر». أقصد أن كمون قدّم، بدوره، فيلماً متين الصنعة والحبكة الدرامية والفضاء الإنساني. دول المغرب العربي مختلفة تماماً. الجزائري رشيد بو شارب انتزع من الأفلام العربية الثمانية جائزة أفضل فيلم عربي في المهرجان الدمشقي بجدارة يستحقّها، وذلك عن جديده «خارج عن القانون». انتزع من الأفلام الأربعة والعشرين المُشاركة في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة «الجائزة الذهبية» أيضاً. هنا، يطول النقاش، لأن المسابقة المذكورة تضمّ عدداً من الأفلام الأوروبية المهمّة جداً. منها: «بخصوص شقيقها» للياباني يوجي يامادا و«إذا أردتُ أن أصفّر، سأصفّر» للروماني فلورين سيربان و«لا تدعني أرحل أبداً» للإنكليزي مارك رومانيك، وغيرها. مع هذا، يُمكن القول إن بو شارب نموذج يُحتذى في اشتغالات عدّة له: قدرته على موازنة الإمكانيات المادية والفنية والتقنية الجيّدة بإعمال المخيّلة والعقل. أي إن رؤيته السينمائية لا تغيب أمام الإمكانيات القادر على الحصول عليها. والإمكانيات المتوافرة له لا تجعله فاقداً براعة الترجمة السينمائية لمادته الدرامية. لا تنجح هذه المعادلة معه دائماً، لكن «خارج عن القانون» دليلٌ عليها: إمكانيات تقنية وفنية مهمّة، ورؤية واشتغال سينمائيان سويان وجدّيان. عودته إلى التاريخ متحرّرة من الخطابية الفجّة. لا يسعى إلى درس في الوطنية، بل يُصوّر حالات إنسانية في داخل الانقلابات الحادّة التي تعاني آثارها شخصيات متفرّقة (ثلاثة أشقاء جزائريين فرّقتهم الحياة قبل أن تعيد جمعهم في فرنسا، ومسيرة المواجهات التي قاموا بها من أجل أنفسهم أو من أجل بلدهم). مشاهد المواجهات النارية مثلاً مشغولة بحرفية لافتة للانتباه. بل بارتكاز أساسي على المهنية البحتة. سيناريو محبوك بلغة مبسّطة وحوار سلس.
«خارج عن القانون» نقيضٌ واضحٌ لـ«حرّاس الصمت» للسوري سمير ذكرى، المقتبس عن رواية الكاتبة السورية غادة السمّان «الرواية المستحيلة: فسيفساء دمشقية». الأمانة المفرطة في نقل الرواية إلى الشاشة الكبيرة (كما أكّد ذكرى مراراً) إساءة فادحة بحقّ الفنان أولاً، والإبداع السينمائي ثانياً. بحقّ المُشاهدين أيضاً. من يرغب في قراءة النصّ الأدبي، يستعن بالرواية. من يذهب إلى صالة سينمائية، يرد مُشاهدة فيلم سينمائي. لا يُختَصر الخلل الفظيع في «حرّاس الصمت» بهذا الأمر. هناك أسبابٌ عدّة أدّت إلى القول إن ما عُرض على الشاشة الكبيرة يستحقّ هذا الوصف: «الفيلم المستحيلة مُشاهدته من دون ضجر أو عذاب». المأزق الأول كامنٌ في سيناريو مرتبك وضائع بين الأمانة المفرطة للنصّ الروائي والغياب الفادح للمخيّلة الإبداعية الخاصّة بالمخرج. الثرثرة البصرية والكلامية نافرة. الشخصيات باهتة. دمشق الخمسينيات بدت بشعة في «حرّاس الصمت»، الخاضع للكليشيهات السخيفة عن كوزموبوليتية وعيش مشترك بين مسيحيين ومسلمين وانفتاح اجتماعي وتمسّك بعادات وتقاليد وتفاصيل العيش اليومي. السيناريو ركيك. والركاكة منسحبة على تقنيات أخرى، أبرزها المونتاج. التمثيل ظلّ تمثيلاً، بدلاً من جعل الممثل يغيب في الشخصية من دون أن ينمحي بها. على الرغم من هذا، منحته لجنة تحكيم الأفلام العربية تنويهاً. والتنويه، إذ بدا متصنّعاً، نتج من اعتبارات سورية محضة، مع أن «مطر أيلول» لعبد اللطيف عبد الحميد فاز بـ«الجائزة البرونزية». هناك من رغب في إيجاد توازن ما بين فيلمين منفصلين عن بعضهما البعض تماماً، بل متناقضين كلّياً. «مطر أيلول» أجمل وأفضل. إنساني بحت. شفّاف برومانسيته وفانتازياته وأشيائه الجميلة، المنكسرة ببشاعة القدر في نهاية المسار الدرامي. بائع بطيخ عاشق، كأبنائه الخمسة. أحد هؤلاء يمارس عشقه بطريقة مؤثّرة. لكن الحياة غدّارة. لا مكان لعشق سليم فيها. لعشق رومانسي طاهر، في زمن البشاعة والقرف والفساد والفوضى والاهتراء. لعشق حقيقي مليء بالانفعال، ومتحرِّر كلّياً من أي كلام. فالكلام الوحيد الذي يُقال بين العاشقَين، اختزلته الفتاة الجميلة بهمسها في أُذن حبيبها «أنا أحبك»، قبل لحظات قليلة جداً على مقتلها في حادث سير، أمام عينيّ الحبيب وذهوله، بل صدمته القاتلة. فيلم أحاسيس هو، ذاك الذي أنجزه عبد اللطيف عبد الحميد. خارج الزمان والمكان. خارج المنطق أيضاً. إذ لا يلتقي المنطق الحياتي بالعشق المنزّه عن كل عيب أرضي وسمائي. سلسٌ هو. جميل على الرغم من الصدمات المتلاحقة في «ربع الساعة» الأخير، المرتبك والعاكس عجزاً درامياً في وضع خاتمة واضحة تليق بمسار الأحداث.
هذه ثلاثة أفلام (خارج عن القانون، حرّاس الصمت، مطر أيلول) محتاجة إلى قراءة نقدية خاصّة بها. محتاجة إلى تشريح يطال أشكالها والمضامين. مختلفة هي عن بعضها البعض، وإن التقى الأولان في العودة إلى التاريخ. يُمكن إضافة فيلم رابع إليها: المصري «الوتر» لمجدي الهواري. إنه نموذج الفيلم المصري التجاري، بالمعنى العادي للكلمة، كي لا أقول السيئ. ادّعاء معرفة التقنيات البوليسية مزعج. تصنّع التشويق نافر. إدخال الموسيقى (شقيقتان عازفتا تشيلّو وكمان) في طيّات السيناريو والحبكة هشّ. التمثيل عاديّ. المعالجة الدرامية خالــــية من أي إضافة درامية أو ثقافية أو إنسانية. ظــلّ الـــفيلم بعيداً عن أي جائزة. لا يستحقّ أكــــثر من عرض تجاري عابر. ممثـــلاه الأولان مصطفى شعبان وغـــادة عادل عاديان للغاية. إدخـــال الاضطراب النفسي في بناء الشخصيات عديم الفــــائدة الدرامية، بسبب عجز الكتابة عن إيفائه حقّه العلمي والطبي والإنساني. التمثيـل أضاف سوءاً عليه أيضاً.
النتائج النهائية
الأفلام الروائية الطويلة:
الجائزة الذهبية: «خارج عن القانون» للجزائري رشيد بوشارب، الفائز بجائزة أفضل فيلم عربي أيضاً. الجائزة الفضّية: «الرجاء عدم الإزعاج» للإيراني محسن عبد الوهاب. الجائزة البرونزية: «مطر أيلول» للسوري عبد اللطيف عبد الحميد. جائزة مصطفى العقّاد لأفضل إخراج: «كوزموس» للتركي ريها إيردم. جائزة لجنة التحكيم الخاصّة: «حياتنا» للإيطالي دانييل لوتشيتي. جائزة أفضل ممثل: الروماني جورج بيستيرينو عن دوره في «إذا أردتُ أن أصفّر، سأصفّر» لفلورين سيربان. جائزة أفضل ممثلة: الألمانية غابرييلا ماريا شميد عن دورها في «مصفّفة الشعر» لدوريس دوري.
الأفلام الروائية القصيرة:
الجائزة الذهبية: «الأرجوحة» للبلجيكي كريستوف هيرمانز. الجائزة الفضية: «حجارة» للسلوفاكية كاترينا كيريكسوفا. الجائزة البرونزية: «موجة» للتونسي محمد بن عطية.

نديم جرجورة

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...