تحرير العلمانية من السلفية

22-12-2023

تحرير العلمانية من السلفية

1

استوردت الأحزاب السياسية العربية مناهجها من أوروبا الاستعمارية، وكانت العلمانيةُ أحدَ ثمار الاستقلال عن العثماني، وقد رسَّخَ الاستعمارُ الأوروبيُّ المناهضُ للعثمنة جذورَ العلمانية والحداثة في الدول الإسلامية التي كان يحتلها، عبر تشكيل المؤسسات الوطنية؛ بدءاً بمؤسسة الجيش وانتهاء بالمؤسسات التعليمية، كما لو أنه سيبقى فيها للأبد. ثم أبقت حكومات الاستقلال على هذه المؤسسات كما هي، فلم تجدِّد فيها.. وبدلاً من أن يعملَ مثقَّفُو الأحزاب العربية على علمنة المجتمع، فقد تسللوا إلى مؤسسة الجيش وقفزوا إلى السلطة عبرها، على الطريقة الأتاتوركية، فعَلْمَنُوا الدولةَ، وفصلوا الدِّينَ عنها ظاهرياً؛ لكنهم تركوا المجتمع سابحاً في مستنقع الثقافة السلفية، يقودهم علماءُ ليسوا بعلماء، ومشايخُ مذاهب لا مشايخ دين، حيث شكَّلوا منافساً قوياً للأحزاب العلمانية، وكان جمهور الجامع هو حزبهم الوراثي الذي يعيدُ إنتاجَ الماضي وكأنَّ كوكبة "المسلمين" الأوائل، ما زالوا في حالة حرب مع أحزاب "قريش الكافرة" على حدود المدينة، فتخندقوا في الماضي المتخيَّل لأمة الإسلام، واشتروا أحلام المحرومين بالجنة الموعودة بكونهم حُجَّابَها وبَوَّابيها.. غير أن الأحزاب العلمانية نجحت في القرن الماضي بتوجيه طاقة المؤمنين نحو العدو الإسرائيلي باعتباره الكافرَ الذي يتوجَّبُ عليهم الجهادُ ضده، لولا أن الجماعاتِ الإسلاميةَ المناهضةَ قلبت المفاهيم، وقالت بوجوب قتال العدو القريب (السُّلطة العلمانية الكافرة)، قبل العدو البعيد (إسرائيل والغرب الكافر)؛ بحيث غدا كلُّ العالم ساحةَ حربٍ لهم، وكلُّ مَن ليس في فريقهم كافراً يستوجبُ الحذف. صحيح أن الأحزابَ العلمانيةَ فصلت الدولة عن الدين؛ ولكنها قالت بوجوب أن يكون رئيس الدولة مسلماً، وبالتالي فقدَت حيادَها حول لا دينية الدولة، في الوقت الذي فصلت نفسها عن مجتمعاتها المتدينة؛ مما اضطرها بعد عقدَين من الاستقلال والتحديث إلى ممالأة رجال الدين واستقطاب جمهورهم، عبر تشكيل محاكم شرعية للطوائف ووزارات للأوقاف، وفوضت شرعييها بأمر التصرف بعقاراتها التي تحتل ربع مساحات المدن والأرياف؛ بما فيها الأراضي الأميرية التي كان يملكها سلاطين بني عثمان ويؤجِّرُونها للفلاحين، وما زالت المؤسسات الوقفية تجبي ضرائبها إلى اليوم كما لو أنها الوريثةُ الشرعية للعثمانيين. أما الممالك والأمارات العربية التي نهجت نهج الدولة الدينية ظاهرياً، فقد أسقطت ذرائع الإسلاميين بالجهاد ضدها، كون سدنة الشريعة يحرمون الخروج على الحاكم المسلم ولو كان ظالماً مستبداً، ومَن يفعلون يوسَمُون بالخوارج الذين تجب محاربتُهُم كما في زمن علي ومعاوية.


2

وقع العلمانيون العرب في نفس الحفرة السلفية التي يتقوقع بها الإسلاميون؛ حيث حوَّلَ الشيوعيون الماركسيَّةَ إلى دين، و"لينين" و"ماو" إلى رُسُلٍ مناهضين لأديان الآباء والأجداد، وانتهوا إلى محاربة (الموحِّدين الإبراهيميين) بدلاً من العمل على علمنتهم واستخدام طاقاتهم، بينما نافق القوميون رجالَ الدين، فماهوا بين العروبة والإسلام على الطريقة الإسرائيلية التي حولت الدينَ إلى قومية، فقيَّدوا أنفسهم بحكايات السَّلف الصَّالح وقدسوا الماضي "المجيد" و"التَّليد"، وشغلهم نزاعُهُم مع الإسلاميين على السلطة، عن الثورة الثقافية والبرامج الاجتماعية التي كانوا يردِّدُون شعاراتها كلَّ صباح، فكانوا بذلك سلفيين مقنَّعين وهم لا يدركون. والواقع، فإن التَّهويد السِّياسي الذي اعتمده الكيانُ الإسرائيلي، خلق مثيلاً مناهضاً له في المنطقة، وغذَّى حجَّةَ الجماعات الإسلامية بعد نصف قرن من حروب القوميين العرب ضد الإسرائيليين؛ حيث نرى اليومَ كيف تلقَّفَ الإسلاميون الراية وغيَّروا فقهَ الصراع، فاختزلوا القضية الفلسطينية بتحرير المسجد الأقصى (على الرغم من أن فلسطين هي المحتلة والأقصى ليس وحده محتلاً)؛ حيث شكَّلوا العدوَّ النموذجيَّ والتاريخيَّ لليهود وأسهموا بتوحيد العلمانيين والمتدينين في حكومة وحدة وطنية لإسرائيل، وأعادوا إنتاج الصراع التاريخي بين "يهود المدينة" و"الرسول" و"خلفائه المؤمنين" كأنما لم نبارح القرنَ الأوَّلَ للهجرة.


3

تبنَّى العلمانيون العربُ التعريفاتِ الغربيةَ للعلمانية، واختلفوا حول شروحها وتطبيقاتها، مثلما اختلف الإسلاميون على تفاسير النصوص المقدسة، وأخذ منظِّرُو الأحزاب دور الفقهاء، وأحزابُهم، شكلَ المذاهب والطوائف، فحملوا أمراضها السلفية نفسها، وعاملوا أعضاءهم المجدِّدين كمهرطِقين استوجبوا الفصلَ من أحزابهم ومحاربتهم، مثلما عومل المرتدون عن دولة المسلمين في زمن الخليفة أبي بكر الصديق، ذلك أن العلمانيين العرب (الذين تربَّوا في كنف طوائف سلفية متعصبة وحفظوا سردياتها في طفولتهم قبل أن يتكوَّن عقلُهم النقديُّ) قد ورثوا بنية الاستبداد في لا شعورهم، على الرغم من رفضهم حكاياتها وأساطيرها المؤسسة بعد نضوجهم الفكري، فلم يتمكنوا من تغيير جلدهم السلفي على الرغم من توقهم العلماني، بينما نجح الإسلاميون في الانتقال من الأشكال الراديكالية إلى ما دعوه بـ"الإسلام المعتدل"، بعدما أثبتت جماعاتُهم الراديكالية فشَلَها في إقامة دولة الخلافة، فتحوَّلوا إلى جمهورية الخلافة ودخلوا لعبة الانتخابات الديمقراطية؛ ولكن هدفهم ما زال نفسه: إقامة الدولة الإسلامية، دون أن تكون لديهم نسخة واضحة عنها غير النسخة الوهابية التي تبنَّتها المملكة السعودية، والنسخة العثمانية المنافسة التي يسوِّقُ لها الإخونجيةُ منذ أيام مؤسِّسها حسن البنا، الذي كان غاضباً من إسقاط طربوش الخلافة العثمانية وبُرْقُعِها، حيث اشتغلوا طوال قرن مضى على ترسيخ ثقافة الحجاب كرمز سياسي يختزل شخصية المرأة المسلمة ويحتفظ  للرجل بحق القوامة عليها وتقييدها بسلطته كأب وأخ وزوج بدلاً من شعار المساواة الذي رفعه العلمانيون. وما تقدم يستوجب تحديث فهمنا للعلمانية، وتجديد أدوات عملنا داخل مجتمعاتنا الهجينة؛ لحمايتها من إعادة دورة العنف والاستبداد التي شهدتها دولُ الخلافة منذ أيام الأمويين.. فقد كانت علمانيتُنا جوفاءَ ترتدي أسمالاً أوروبية من القرن التاسع عشر، ولم نستطع زراعة علمانية مشرقية مناسبة لتربتنا، وقادرة على إنتاج ثمار لذيذة يُقْبِلُ عليها المجتمعُ المسلم.


4

يبدأ طريقُ العلمنة العربية بعقلنة المناهج الشرعية، وتقليص نسبة المحفوظات النَّقليَّة في التعليم المدرسي والجامعي التي يتفوَّقُ فيها أصحابُ الحافظة المرنة على الأذكياء، ويتم تقديمهم للوظائف العامة وإدارة الدولة؛ فيكون أداؤهم نقلياً لا إبداعياً، وغالباً ناقصاً وسيئاً، إذ لم تكن النمطية يوماً عاملاً للتقدم، حيث نحصل على حكومات "سلحفاتية" بائسة غير قادرة على اللحاق بمواكب الأمم المتقدمة.. ولا بأس من تقليص أو إلغاء كتب المحفوظات، والتعامل مع التلميذ على أنه هو الكتابُ واللوحُ المحفوظ، بحيث يكون دورُ المعلم مساعدته على قراءة نفسه ومعرفة مواهبه وقدراته وتحويله إلى الاختصاص في مجال إبداعه في سن مبكرة؛ إذ لا يوجد طفل ليست لديه موهبة في أمر ما، ونحن نقتلها بعدم معرفتنا بوجودها، ونقوم بهدر عمر أبنائنا في محفوظات ينقضها الزمن في كل حين.. فالعلمنة تُبْنَى على مجتمع المعرفة السَّائلة لا الجامدة، وعلى المتحول لا الثابت، حسب تلخيص أدونيس لتاريخنا العقلي، حيث الأسئلة تحطم الأجوبةَ القديمةَ، وتخلق أخرى جديدة في حالة تغيير مستمرة، ودون ذلك سنبقى بحالة "الفوات التاريخي"، حسب نظرية المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ، أحد العلمانيين الذين نفتهم أحزابهم العلمانية؛ لأنهم تجرؤوا على تحطيم أصنام آبائها المؤسسين لها، فلطالما تخوَّفَ النظام الرسمي العربي من كلِّ فكرٍ جديد.

نبيل صالح: مجتمع للدراسات الثقافية والتاريخية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...