الإسلام في الزَّمن

01-09-2024

الإسلام في الزَّمن

نبيل صالح

يرتبط وجود الإنسان بالزَّمان، بينما الزَّمان موجودٌ وغيرُ منظور، كالله تعالى، فهو ظاهرٌ وباطنٌ وأوَّلٌ وآخرٌ... وفي التَّصوُّر الإغريقي للزَّمان تطالعنا أسطورة "كرونوس" إله الزَّمان وابنِ السَّماء، الذي يلد كلَّ شيء ويقتل كل ما يلد... ويربط هيروقليطس فكرة الزَّمان بالوجود فيقول: "الوجود واللاوجود شيء واحد، كل شيء موجود وغير موجود". وفي الحديث الشريف أنَّ الزَّمن هو الله ( وأنا الدَّهرُ بيدي الليل والنهار) وقد ربط الفلاسفة المسلمون جميعاً بين الزَّمن والحركة، فقد عرَّف الكندي الزَّمانَ بأنه "عدد الحركة، فإن كانت حركةٌ، كان زمان، وإن لم تكن حركة، لم يكن زمان".. وكذلك الفارابي يقول بتلازم الحركة والزمان: "إن الزَّمان مقدار الحركة فلا يمكن تحقُّقُه بدونها" كما يربط الزَّمانَ بالفضاء، ويجعله مقياساً لحركة الفلك.  ويذهب ابن سينا هذا المذهبَ إذ يقول: " وأمَّا الزَّمان فهو شيء غير مقداره وغير مكانه، وهو أمر يكون به القَبْلُ الذي لا يكون معه البَعْدُ" ، ويمثل ابنُ باجة للفكرة بقوله: "إنَّ الزَّمان يمثل ثورة أبدية يصبح الإنسان معها مجرد نبتة أو زهرة تقتطف كما في النباتات، وأنَّ كلَّ شيء ينتهي بانتهاء الإنسان".  فهو يربط وجود الزَّمان بالإنسان، فمنذ وجوده يدخل في صراع معه... وكلُّ ذلك يؤكِّدُ أنَّ فلاسفة الإسلام كانوا يَعُون تاريخية النَّصِّ المقدَّس ولا يقولون بها خوفَ التكفير، بعد محنة خلق القرآن وانتصار الفقهاء على الفلاسفة أواخر العصر العباسي، حيث كان يُقْطَعُ رأسُ كلِّ من يقول بأنَّ القرآنَ مخلوق، وأنَّ الزَّمنَ يمرُّ عليه ويفعل فِعْلَهُ فيه كما كلِّ الأشياء المخلوقة...


فطبقاً للكتابات المقدَّسة، فإنَّ اللهَ يتكلَّمُ بطريقة مستمرَّةٍ ومتواصلة داخل زمنِ التَّاريخ المحسوس للبشر، وليس خارج الزمن. فإذا كان اللهُ الذي ندركه ولا نشاهده هو الزَّمن، وجب أن تكون الرِّسالاتُ المخلوقة خلاله وعَبْره خاضعةً لِشَرْطِه الفيزيائي حتماً، بما يعني أنَّ الأديان هي منجزات تاريخية جامدة محكومة بزمانها ومكانها، بينما قدرة الله سائلة ومتدفقة في الزَّمان والمكان، وعلى المؤمن المرتبط بالروح الكلية أن يتدفق معها في الزمن، فإذا انتكص أو توقَّفَ فهو كمن يعاند حركة الحياة وإرادةَ الله، وهذا قريب من فكرة هيغل: "أنَّ التَّاريخ بصفة عامة هو تطوُّرُ الرُّوح في الزَّمان، كما أنَّ الطَّبيعة هي تطوُّرُ الفكرة في المكان".


لم يهتمَّ المفسِّرُون كثيراً بتاريخيَّة النَّصِّ القرآني، ولم يتعمَّقوا في فيلولوجيا القصص والأحداث القرآنية، وإنَّما اكتفوا بالشَّرح اللُّغويِّ أو التَّأويل الفقهي لها! ولو دققوا في الآية 106 من سورة البقرة: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لوجدوا أنَّها آيةٌ تقبل بتاريخيَّة الكلام الإلهي. إذ ينزع الوقتُ بمروره حيويَّة الأشياء وحياتَها بما فيها معاني الكلمات والنُّصوص التي تشكِّلُ محتوى الرسالات، حيث تتغيَّر وتتحوَّر مدلولاتُها عبر الزَّمن، وبعضُها يموتُ ويُدْفَنُ في طيَّات المعاجم بعدما يتوقَّفُ النَّاس عن استخدامها وإحيائها على ألسنتهم، إضافة إلى اختلاف مستويات فَهْمِهِم لها، بحسب مستوى ثقافة المَتلقِّي وتجربته وعمقه الرُّوحي، بمعنى أنَّها وإن جاءت كنُسخة موحَّدة في كلماتها، فإنَّ مستويات فَهْمِها ستكون متمايزة بين مُتلقِّيها، حيث يأخذُ الماءُ شكلَ الإناء، لولا أنَّ ماء العقل يأسَنُ بعد ثلاثة أجيال فلا يعود صالحاً للاستهلاك، وقد يكون مُضِرًّا بشاربه، لهذا يحتاج أن يتدفَّقَ مجدَّداً في الزَّمن الإنسانيِّ المتحقِّقِ على الأرض، وهذا ما يمكن أن نسمِّيه "العقل في الزَّمان" حسب هايدغر، حيث تَبلى النُّسخةُ الأولى بعد مضيِّ قرن عليها، ولا تعود تُلَبِّي احتياجات النَّاس والتحديات التي يواجهونها، فيحتاجون إلى ترقيةٍ للنُّسخة السَّابقة (مثل إصدارات برنامج ويندوز)...


فقد تغيَّرَت النسخة الأولى للإسلام بعد عبورها لبَوَّابات الزَّمان والمكان: نحو بلاد الشَّام ومصرَ والعراق وسائر بلدان العالم القديم خلال القرون الهجريَّة اللاحقة. ومنذُ انشقاق معاوية عن المصدر المُحَمَّديِّ والراشدي، بدأت نسخة الإسلام الأُمويِّ بالتَّشكُّل، بعد الفتنة الكبرى، حيث باتت السِّياسةُ مرتبطةً بالاقتصاد والسُّوق أكثرَ منها بالأيديولوجيا الإسلامية المؤسِّسة، وعلى هامش النُّسخة المُحَمَّدية والأُمَويَّة، تشكَّلَت نسخةُ الخوارج المناهضين لحكومات قريش. وغيرُ بعيد عن دمشق الأموية، كانت نسخةُ الإسلام العبَّاسيِّ المعارِضة قد بدأت بالتَّشكُّل في بغداد لتحلَّ محلَّ الأُمويَّة بعد مرور ثلاثة أجيال على صدورها، وكذا كان الأمر في العصر العباسيِّ الثَّاني حيث تشكَّلت مدارسُ جديدةٌ صادرةٌ عن شركتين متنافستين هما الشِّيعة والسُّنَّة، كمثل (مايكروسوفت وآبل)، لتُصَدِّرا بدورهما نسخاً فرعيَّةً تمَّ وَسْمُها بالمذاهب: فالشَّركةُ السُّنِّيَّة أصدرت نسخاً لمذاهب الحَنَفيَّة والمالكيَّة والشَّافعيَّة والحنبليَّة، بينما أصدرت شركةُ الشِّيعة نسخاً لمذاهب الجعفريَّة والزَّيديَّة والظَّاهريَّة والإباضيَّة... وبما أنَّ الدِّينَ مُقَيَّدٌ بالنَّصِّ بينما معاني مفرداته متغيِّرةٌ في الزَّمان، فقد غدا ثوبُ النَّصِّ ضيِّقاً على جسد المسلم المُسافرِ في الزَّمن ، فقام الخيَّاطُون (الفقهاء) بتعديل حجم الثَّوب بما يتناسب مع نُمُوِّ الجسد الإسلامي، فتعمَّقُوا في التَّفسير والشَّرح والقياسِ والتَّأويل لتوسيع ثوب الإسلام على مقاسِ حياة المسلم وأطوارها المتبدِّلة في البلدان الجديدة، وقد انتبه بعض فقهاء الإسلام إلى الأمر كابنِ حزم الأندلسي (القرن الخامس للهجرة)، الذي أشار في كتابه "المُحَلَّى بالآثار" إلى (محدوديَّة النُّصوص ولا تناهي الوقائع) ، حيث يجهدُ الفقهاءُ أبداً في توليد قوانينَ وتشريعاتٍ وشروحاتٍ جديدةٍ للنَّصِّ القديم، بما يواكبُ متغيِّرات المجتمع وسياسة الدَّولة عبر الزَّمن، غير أنَّ اجتهادهم لم يتجاوز البُعْدَ اللُّغويَّ للنَّصِّ، فهم لايستعينون بعلم التاريخ أو الفلسفة لتحرير النَّصِّ من زمنه، فيبقى التَّفسيرُ ناقصاً غيرَ مكتمل... ومع كلِّ قرنٍ جديدٍ كان الفقهاءُ يضيفون المزيد من الفتاوى والتَّفاسير والشُّروحات، حتى ابتعد الغصنُ الطَّريُّ عن الجذع اليابس، وبات لدى المسلمين عشراتُ الفروع والمذاهب، وملايينُ الفتاوى المتشعِّبةُ التي تزيد من تعقيد حياتهم وتقييدها بدلاً من تبسيطها حتى باتوا بحاجة إلى مؤسسة للكهنوت تقدر لهم دينهم فيما يجوز ولا يجوز! لهذا يفترض بنا اليوم أن نأخذ سَمْتَ الإسلام ومقاصدَهُ العامَّةَ متحرِّرين من حرفيَّة النُّصوص الأولى بما يلائم متغيرات زماننا هذا، بمعنى أنَّ كلَّ عودةٍ لحرفيَّة التَّفسير في النُّسخ الماضية سوف يكون أشبهَ بعبادة أصنام الأجداد التي حطَّمَها مُحَمَّد (ص)، ومِنْ قَبله إبراهيم الخليل، إذ من غير المقبول أن تتحوَّلَ ثقافة "السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته" التي وحَّدت كواسرَ الجزيرة العربية وآختهم في كيان واحد، إلى عقيدة للعنف والفوضى... وفي الواقع، لو لم يمرَّ الإسلامُ الراشدي عبر واحة دمشقَ وسوقها لما شكَّلَ الأمويُّون نُسختَهُم الجديدةَ، ولما تمدَّدَت دولتُهم في العالم القديم، وكذا العباسيُّون في نُسختهم العراقيَّة، والفاطميُّون في نُسختهم المصريَّة... وقد لاتكون نُسخاً مثاليَّةً بقدر النُّسخة المُحمَّديَّة في حينها، ولكنها كانت جيِّدةً لتماسُك الدَّولة واستمرارها في عصورها اللاحقة، إلى أن انتهت صلاحيَّتُها السياسية بنهاية الدولة العثمانية، حيث سقطت المؤسَّسة الدينية، لتقوم على أنقاضها دولةُ المواطنة، وبات المسلمون أقرب إلى نُسختهم المكيَّة المنقحة في العبادة والمعاملة والسَّلام مع بعضهم وغيرهم، ونعموا بعطاءات العلمانيَّة قبل ظهور جماعات الإسلام السياسي التي عملت على إحياء النُّسخة الخوارجية منذ النصف الثاني من القرن العشرين.

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...