«النصرة» و"الجيش الحر" تنافس وتعاون على تدمير الحضارة السورية

12-04-2013

«النصرة» و"الجيش الحر" تنافس وتعاون على تدمير الحضارة السورية

قبل أن يمدّ «الفاتح» أبو محمد الجولاني، زعيم «جبهة النصرة»، يده ليبايع زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري على السمع والطاعة، كانت «النصرة» قد سبقت ذلك إلى استكمال الاندماج في المجتمع الريفي الحلبي والإدلبي، وبدأت تحدث تحولات في منهج العمل السياسي، وتناوله للجماعة السورية مادة رباط وجهاد.وزيرا خارجية روسيا سيرغي لافروف واميركا جون كيري خلال وصولهما للمشاركة في اجتماع وزراء خارجية دول «مجموعة الثماني» في لندن امس (ا ف ب)
لا يبدو توقيت المبايعة عشوائياً ولا متعجّلاً. لم يضع «الفاتح» الجولاني في مبايعته الظواهري موقف الآخرين من المعارضة في ميزان القرار. الاستفتاء في السياسة والحرب على احتساب «النصرة» في «الثورة» سبق بكثير تأمير الجولاني للظواهري على الشام بالسمع والطاعة. كان ذلك عندما انفجر الخلاف في مراكش مع «أصدقاء سوريا»، قبل أشهر مع الأميركيين، على قرار وضعها على لائحة الإرهاب. حينها رأى الجولاني كيف تدافع المجلس الوطني و«الائتلاف» للدفاع عن الجبهة من دون حساب. قال رئيس المجلس الوطني جورج صبرا حينها إن «بنادق الثوار جميعاً مقدسة»، أما رئيس «الائتلاف» معاذ الخطيب فهاجم الأميركيين وطالبهم بالعودة عن موقفهم. كما رأى قائد أركان «الجيش الحرّ» سليم إدريس أمام البرلمان الأوروبي في «النصرة» جمهرة من أشجع المقاتلين. وهو يعكس بأي حال رأياً متداولاً في أوساط الحراك الشعبي عن «العصبة الأكثر فعالية في القتال ضد الجيش السوري».
وتبدو ملامح دولة الجولاني أقرب إلى البزوغ إلى النور من حكومة غسان هيتو المؤقتة. وتفرض «النصرة» مقاربة تجربة القاعدة «الشامية» من منظور جديد لفهم تحولات الجماعة التي تعلو عن تقشف منهج جهادي عدمي لا أفق له، يهجس بدولة الخلافة ولا شيء غيرها، ويخاصم كل أشكال السياسة، ويهجر ما يتوسط الخاصة المجاهدة التي تبايع أميرها على السمع والطاعة، وجمهرة العامة من دهماء المجتمع المدني.
فالنجاح الذي جعل منها تنظيماً شعبياً، يضم مؤسسات وإدارات تشرف على إدلب وحلب، وتعين آلاف العائلات السورية وجيشاً يجنّد 12 ألف مقاتل كما تقول التقديرات، يعود بشكل خاص، إلى مراجعة في آليات وتفكير «القاعدة» التقليدي. وفي التجربة الشامية، ينقل الجولاني «القاعدة» من تنظيم عالمي لا أرض له ولا قاعدة يقاتل الولايات المتحدة، إلى أرض وقواعد وعناوين لا لبس فيها وخطوط إمداد وأسماء ومؤسسات، وجد في سوريا الشروط الملائمة لتحقيق تلك النقلة.
ويقول عالم اجتماع غربي عائد من ريف حلب وإدلب إن «النصرة» والكتائب السلفية المقاتلة والإخوانية الأخرى، استطاعت أن تخلق علاقات زبائنية قوية في الريفين الإدلبي والحلبي، بسب الإفقار المتزايد للأهالي واستمرار الحرب، وتدمير موارد الرزق الأولى. ودخلت «النصرة» التي تتمتع بمداخيل منافسة ودائمة، في سباق مع الكتائب الأخرى، بفضل تمويل خليجي لم ينقطع وتسليح يسبق تسليح الجماعات الأخرى.
وبرغم أن ولاءات المقاتلين في الريف الإدلبي تتصف بالتغير والانقلاب بشكل عام، حافظت النصرة على احتياطي كبير من المقاتلين الدائمين. ولا تتمتع كتائب بحق حصري بأرض أو بلدة أو مدينة في الريف الإدلبي، كما أن بوسع الأفراد التنقل من كتيبة إلى أخرى ما يدلل على ضعف الإنغراس الإيديولوجي في صفوف المقاتلين وغلبة الدوافع المحلية والزبائنية على غيرها من الدوافع. وهو ما يفسّر اتساع التجنيد في صفوف «النصرة» الذي يحلو للمعارضين إرجاعه إلى طبيعة محافظة في إدلب وتديّن غالب أكثر مما يعود إلى التحاق بجهاد عالمي. وهو ما استوعبته «قاعدة» سوريا وقبلت به شرطاً لبقائها في ساحات القتال وخروجها من عزلة النخبة. وكانت كتائب بأكملها قد شهدت عمليات انتقال من مجموعة إلى أخرى، خصوصاً أحرار الشام التي خسرت مؤخراً كتائب مقاتلة التحقت بـ«النصرة».
وبسبب غياب «ملكية الأرض» عسكرياً، ينعدم وجود تجمّعات أو ثكنات للمقاتلين الذين يأوي أغلبهم إلى قراهم في الريف الإدلبي والحلبي، بسبب وجود حاضنة شعبية قوية، انضبطت الصراعات بين الكتائب المقاتلة، وتراجع مستوى التنافس والاقتتال على الغنائم، عن المستوى الذي شهدته مناطق أخرى بين بعض كتائب «الجيش الحر» ومجموعات محلية مقاتلة.
ويبدو أن «النصرة» والجماعات السلفية الأخرى ذهبت شوطاً معقولاً في التعايش مع نفوذ الأعيان والوجهاء والقوى المحلية التي برزت مع انكفاء الأجهزة الأمنية و«البعث». فالراديكالية في طورها الحالي لا تزال مجبرة على التعايش مع هذه المجموعات، بانتظار تغيير جديد في ميزان القوى. كما أن الإغراء الذي ينتاب قيادة «النصرة» أو بعض كادراتها بفرض برنامج سلفي كامل على الأرياف الحلبية والإدلبية يلجمه عدم القدرة أصلاً على التعبير عن راديكالية إسلامية في مجتمع محافظ أصلاً ومنافسة قوية من الجهاز الديني المحلي.
ولا تريد «النصرة» الدخول في مواجهة مع المجتمع المحلي وفرض الحدود الشرعية بعدما تعلمت من دروس العراق، التي سهلت على الأميركيين تنظيم انقلاب العشائر عليها وتجنيد جيش الصحوات ضدها. ونجحت الكتائب المقاتلة بخلق آليات لضبط الصراعات في المناطق التي تسيطر عليها بأن فوّض العسكر المدنيين كلياً العمل في الهيئات الشرعية.
ومن بوابة الهيئات الشرعية، دخلت «النصرة» المجتمع الإدلبي والحلبي لتطبيع علاقاتها بالمجتمع السوري. وسيكون صعباً على أي إدارة مقبلة انتزاع السلطة من الهيئات الشرعية التي أقامتها الكتائب المقاتلة بعدما تحوّلت إلى نواة حكومة حقيقية. ودخلت الهيئات التسع في ريف إدلب طور التمكين بعدما وسعت دائرة حكمها من القضاء إلى الشرطة، فالإشراف على الأمن والشرطة وإدارة السجون.
وتتجه الهيئات في إدلب إلى التوحّد في مجلس شرعي قضائي أعلى يشرف على عمل الفروع الأخرى، ولكن تركيبة المحاكم يغلب عليها الديني لا المدني، ففي كل هيئة يحكم شيخان إلى جانب قاض مختص بالقوانين الوضعية. ويُعد القانون الجزائي العربي الموحّد مرجعية الهيئات الشرعية. والقانون أعدّته الجامعة العربية يستوحي في بعض مواده الشريعة الإسلامية ولكنه لا يطبق حدودها.
ويحدّ من امتداد «النصرة» استمرار سيطرة جهاز ديني محافظ ،على الأغلب منقسم بين رابطة علماء الشام، أكثرهم من تلامذة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الأقرب إلى النظام، وبعضهم يتبع اليوم سارية وأسامة الرفاعي، وبين «رابطة العلماء المسلمين» التي تضم شيوخاً مقربين من «الإخوان المسلمين».
وتشكل حلب ميدان منافسة كبيرة بين «الإخوان» و«النصرة»، حيث يسيطر «الإخوان» على الجزء الغربي من الأحياء الحلبية التي تديرها المعارضة، ويشرف على هيئتها الشرعية جماعة مقربة من «الائتلاف». في المقابل، تدير «النصرة» وهيئتها الشرعية الجزء الشرقي من هذه المنطقة، بالتحالف مع «لواء التوحيد» و«أحرار الشام» و«أحفاد الرسول».
ومدّت الكتائب يدها إلى الإغاثة، حيث نجحت «النصرة» بتنظيم عمليات توزيع للمساعدات في المناطق التي تنتشر فيها. وفي سياق العمل المدني المستجد على «النصرة»، يقول عالم الاجتماع العائد من حلب إن «النصرة» بدأت تضمّ إلى صفوفها عشرات الكادرات من العاملين في الإغاثة، حيث يقيمون علاقات يومية مع مئات الآلاف من السكان الذين يعيشون على المساعدات التي تقدمها «النصرة» والكتائب الأخرى، بشكل خاص.
ولم يعترض على قرار المبايعة سوى سطر «فايسيبوكي» يتيم على صفحة معاذ الخطيب قائلاً إن «خط القاعدة لا يناسبنا، وعلى الثوار أن يأخذوا موقفاً». أما «الائتلاف» فلم يجد ما يقوله في دخول «القاعدة» رسمياً الى بلاد الشام، حيث يُعدّ مع ذلك لفرض حكومة مؤقتة على كامل سوريا يجدر بهيتو أن يتساكن عندها مع الدولة الإسلامية التي يرعى قيامها الجولاني.
ذلك أن المعارضة السورية الخارجية يسيطر عليها الخوف من احتمال عزلها إذا ما ذهبت بعيداً خلف المواقف الغربية، وأشهرت خصومتها للجولاني. فلا يسع رئيس الحكومة السورية المؤقتة المغمور في وقت واحد استعداء «النصرة» والسقوط بين مطرقتها وبين سندان «الجيش الحر» الذي رفض تعيينه، ويرفض منصب وزارة الدفاع التي عرضت عليه. وهو يحتاج إلى كليهما لكسب شرعية لا بد منها للعودة إلى الداخل السوري، وبسط سلطة إدارته عليه.
والأرجح أن إشكالية التعايش مع «القاعدة» لا تطرح إلا في دوائر صغيرة من معارضة الداخل من هيئة التنسيق وتيار بناء الدولة وبعض التيارات العلمانية. وتطرح أيضاً على نطاق مختلف مع الغربيين الذين يخشون ليس انقلاب سوريا دولة إسلامية وإنما غلبة الفوضى فيها، وتحوّلها إلى قاعدة خلفية لجهاد عالمي يهدد الجوار السوري وإسرائيل والمصالح الأوروبية والاقتصادات التابعة.
أما «الائتلاف» والمجلس الوطني اللذان يسيطر عليهما تحالف ليبرالي إسلامي، فقد تفاديا في الماضي أي نقاش في طبيعة «النصرة» والكتائب الجهادية الأخرى التي لا تقل سلفية أو جهادية عن «النصرة». الوقت ليس للنقاش في التجاوزات، إنما لإسقاط النظام وسنرى بعد إسقاطه جواب المعارضين الجاهز على أي انتقاد لأداء النصرة والجهاديين، وهيمنتهم على إدارة المدن لا سيما في الرقة وأرياف حلب وإدلب التي تحوّلت إلى إمارات إسلامية في أجزاء منها.
وبرغم أن خلافاً صامتاً يدور بين المجلس العسكري الموحّد و«النصرة» قد يتطوّر إلى عمليات اغتيال وتصفيات كما جرى مع كتائب «الفاروق» في حمص وتل ابيض، إلا انه من الصعب التصوّر أن تنساق الآن وحدات من «الجيش الحر» إلى مواجهة مفتوحة مع «النصرة» أو «القاعدة»، كما كان يخطط الغربيون قبل أشهر، عند تشكيل المجلس العسكري الموحّد لعزل وتحجيم «النصرة» والجهاديين.
كما أنه من المستبعد أن يكون لقرار الفرنسيين الطلب من مجلس الأمن وضع «النصرة» على لائحة الإرهاب أي اثر سواء على علاقة الفرنسيين بالمعارضة السورية، كائناً ما كان موقفها من «النصرة» أو القاعدة، لأن الأولوية بنظر الفرنسيين لا تزال هي إسقاط النظام السوري، بأي ثمن، وبعدها يمكن الالتفات للأمور الأخرى.

محمد بلوط

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...