هل تحتاج الفلسفة إلى تعريف جديد ؟

14-07-2024

  هل تحتاج الفلسفة إلى تعريف جديد ؟

 كوستيكا براداتان ـ ترجمة سارة حبيب:
عندما جاء المعلم الصوفي الجديد إلى بغداد قادماً من مدينته الأم نيسابور في خراسان، كانت شهرته قد سبقته بزمنٍ طويل. كانت له، كما تروي القصة، سمعة طيبة بسبب روحانيته العالية ومقاربته الفريدة لمسألة الإحسان، لكنه كان مشهوراً على وجه الخصوص بطرقه غير التقليدية. لقد سمع البعض أقاويل عجيبة عنه، أشياء مشينة، لكنهم كانوا، عندما يُلَّح عليهم لأجل التفاصيل، يعترفون بجهلهم. على أيّة حال، وفي ذلك الصباح من شهر شباط، اجتمعت مجموعة صغيرة من الأتباع المتعطشين في الخان للترحيب بالمعلم _متأنقين جميعاً، ومهذبيّ السلوك، هيئتهم وتصرفاتهم ورعة كما ينبغي، وإن يكن على نحو مسرحيّ قليلاً_ واجتمع معهم كذلك أهل المدينة من كلّ المشارب: أصحاب دكاكين وباعة متجولون عابرون، صاغة وصانعو عطور جاؤوا من الرصيف المقابل، وحتى أساتذة وطلاب من الجامعة المجاورة. ومع مرور الوقت، بدأ الحشد يفقد صبره. أما الشيخ فكان بالتأكيد يأخذ كلّ وقته.
وكما هو الحال دوماً في مثل هذه المناسبات، كان بين الحشد المترّقب شحاذون ومتشردون، وأشخاص آخرون ممّن لا يصلحون لشيء. وتبين أن واحداً منهم على وجه الخصوص كان مثيراً للإزعاج. كان يرتدي ملابس بالية، فوضويّ المظهر إلى حدّ يفوق الوصف، وتفوح منه رائحة خمر كريهة. اقتربَ هذا المتشرد أكثر فأكثر من الأتباع ورعيّ الهيئة الذين استبد بهم القلق. ثم راح، مستغرقاً كلّ وقته، وبين حازوقة وأخرى، يتفحصهم بتركيز، واحداً تلو الآخر، ما جعل الصبيان أكثر توتراً مما هم عليه؛ فآخر ما يحتاجون إليه الآن أن يراهم المعلم العظيم في حضرة مثل هذه الجيرة الفاحشة.
بدا بعد ذلك، والحمد لله، أن المتشرد بدأ بالتحرّك مبتعداً عنهم. غير أنه، وبينما كان يفعل ذلك، راح يخاطب الشباب المرتبكين بلغة فارسية رزينة ومثقفة حدّ أن خرزات مسابحهم تجمّدت فجأة في راحات أياديهم: "لم آتِ إليكم لأجل أي شيء، كما أحسب. من أنا لأعلّمكم؟ يبدو لي، من مظهركم، أنكم جميعاً بلغتم حالة من الطهارة لستُ أنا نفسي شيئاً بالمقارنة بها. إن طرقي فوضوية، تعاليمي غير مؤكدة، وسعيي، البعيد كل البعد عن الطهارة، يختلط دائماً مع جسدي، مع دنيويتي، مع علاقتي المبهمة بالعالم. أنا فاشل، أمّا أنتم _انظروا إلى أنفسكم!_ فيبدو أنكم تقيمون أساساً مع الملائكة! والآن، عن إذنكم...
ومع تلك الكلمة، تسلّل خارجاً من الخان. في ذلك الحين بالذات، تضيف القصة، أدرك الناس في الخان أن الشيخ الذي كانوا ينتظرونه قد غادرهم للتو.
تعكس قصة المعلم الصوفي حالة الفلسفة المعاصرة بمعظمها، إذ أن هذه الفلسفة لا تزال تعمل وفق افتراضٍ أصوليّ راسخ: أن الفلسفة ليست إلا ممارسةً منطقية بحتة، تحكمها على نحو صارم، وحصريّ، قواعدُ جدالٍ عقلاني؛ بمعنى أن كل ما لا يمكن تحويله إلى جدال ليس ذي صلةٍ بالفلسفة. إضافة إلى ذلك، يُعتَبر الفلاسفة إلى حد ما مُستثنين من القوانين التي تحكم بقية البشر، فهم يتمكنون من العمل على مستوى ملائكيّ سامٍ، حيث لا تتبعهم دنيويتهم وشؤونهم الأرضية قط.  
غير أن الفلسفة في الحقيقة لم تكن قط محض مجادلة منطقية. ولو أنها كانت كذلك، لكان أمراً محزناً للغاية، كما أنها ما كانت لتستمرّ كل هذا الوقت. إن ما يجعل الفلسفة شأناً قابلاً للاستمرار، في الغرب كما في الشرق، هو أنها لا تستحوذ على إدراكنا وحسب، بل كذلك على مخيلتنا، عواطفنا، حساسيتنا الفنية، ودوافعنا الدينية؛ أو باختصار، على كوننا مخلوقات معقدة، فوضوية، وتشوبها الشوائب. أن تكون إنساناً يعني أن تكون عالقاً دائماً في الأحابيل الوجودية، أن تكون مضطراً للتعامل مع حالات هجينة وفوضى من شتّى الأنواع. ذلك أننا، نحن البشر، نتاج اتحاد غير متوقّع بين الأعلى والأدنى، بين الروح والجسد، المنطق واللامنطق. والفلاسفة، إذا لم يريدوا أن يفقدوا تماسكهم، عليهم أن يأخذوا ذلك التكامل بعين الاعتبار.
لهذا السبب، يمكن القول إنّ الفلسفة _ليس النوع الأكاديمي المضجر، بل النوع المستمر المُغيِّر الذي نعثر عليه عند لاو تزو، فيثاغورث، أفلاطون، القديس أوغسطين، جلال الدين الرومي، مايستر إيكهارت، اسبينوزا، ماركس، نيتشه، غاندي، سيمون فايل_ لا توجد في حالة نقية. إنها تختلط دوماً مع الأسطورة، الشعر، الدراما، الصوفية، التفكير العلمي، روح النضال السياسي، أو الفعالية الاجتماعية. وما يزيد الأمور تعقيداً ملاحظتنا أن كتّاب الأدب (لنقل دوستويفسكي، هكسلي، أو بورخيس) هم فلاسفة متبصرون على وجه الخصوص، وكذلك هم صنّاع الأفلام _مثل بيرغمان، كوروساوا، وتاركوفسكي_ الذين يفلسفون الأشياء بذات التبصّر على الشاشة. إنّ كلّ هذه التشابكات والشوائب تسم الفلسفة إلى حد كبير؛ إنها، في حقيقة الأمر، ما يجعل الفلسفة ما هي عليه.
لنأخذ مثلاً قصيدة كتبها جلال الدين الرومي: أنّى لنا أن نعرف، ونحن نترك لها أن تستحوذ علينا، أين ينتهي الشعر وأين تبدأ الفلسفة، أو متى وكيف تبدأ الصوفية بالتسلّل إلى القصيدة؟ وعندما يتحدث لاو تزو عن الماء _"إن أفضل البشر مثل الماء. الماء شيءٌ حسنٌ؛ إنه يعود بالنفع على كل الأشياء ولا يتنافس معها. يقطن في الأماكن الواطئة التي يزدريها الجميع. ولهذا السبب فهو كثير الشبه بفلسفة التاو"_ فهل لاو تزو هنا "يثير نقاشاً؟" لماذا نهتم بذلك؟ إنّ ثمةَ رؤيةً كونية مضمّنة هنا؛ إحساساً بالوجود في العالم وفهماً للشرط الإنساني يتحدى أفكارنا المحدودة عن الكيفية التي يجب على الفلسفة أن توجّه نفسها بها. أن نشرّح عملاً مثل هذا لنستخرج منه "نقاشاً" _متخلّصين من كل شيء آخر، متجاهلين تصوّر مؤلفه ورؤاه_ يعني أن نقتل القلب النابض لهذا العمل، ونتعامل معه كجثة. فلماذا عسانا نفعل ذلك؟
استخدم فالتر بنيامين أيضاً القصّ بتصرّف في أعماله الفلسفية. ألّف قصصاً، طويلة وقصيرة، أو استعار قصصاً من الآخرين، ولم تكن تلك نزوة عابرة: اعتقد بنيامين فعلاً أن الفلسفة والأدب مترابطان على نحو وثيق؛ كما تحدث عن "الجانب الملحمي من الحقيقة"، وربطه بـِ"فن القص". البشر كائنات مُنساقة للسرد، والشكل بالنسبة إليهم هام بقدر المضمون. كما أننا قادرون على فهم أنفسنا والعالم الذي نعيش فيه بمقدار ما نحن قادرون على نسج حكايات عن أنفسنا وعن العالم. من ناحيته، أراد سارتر الذي كان ملمّاً بالفلسفة والأدب، أن يكون في أعماله اسبينوزا وستاندال معاً.
في واقع الأمر، إذا اختبرنا كل شيء بوصفه قصة في طور الكتابة، فهذا يعني أنه يوجد بالفعل "جانب ملحميّ" للحقيقة، وأن الفلسفة محكومة، بالتعريف، بأن تستخدم الصنعة الأدبية. إننا مع كل قصة جديدة نعيد خلق العالم من جديد. كما أنّ سرد القصص يوسّع حدود معنى أن نكون بشراً: إنه يتصوّر أشكالاً جديدة من التجارب ويتمرّن عليها، كما إنه يعطي قواماً محدداً لشيء لم يكن يوجد قبلاً؛ إنه يجعل اللامتخيل جليّاً على حين غرّة. القصّ والفلسفة توءمان. على سبيل المثال، يوضّح "مجاز الكهف" عند أفلاطون فكرةً فلسفية هامة بأسلوب مؤثر، وهو يفعل هذا تحديداً لأنه يشكّل قصة جيدة. لكن، كيف لنا أن نميّز، في تلك الحالة، راوي القصص من الفيلسوف؟ "كيف لنا أن نميّز الراقص عن الرقصة؟"، تساءل شاعرٌ ذات مرة. غير أن السؤال الأهم هنا: لماذا علينا أساساً أن نفعل ذلك؟
في النتيجة، وبما أن الفلسفة والأدب مترابطان على نحو وثيق، فإن إثارة المشاعر أو الباثوس ليست شيئاً يوشّي الفلاسفة عملهم به، بل هي موجودة هناك في الأصل، مُضمّنة ومُدمَجة في عملهم. وبمجرد أن نبدأ بفلسفة الاشياء، فإننا نبدأ بوضع الأفكار ضمن حبكة، نجرّب على صعيد الشكل، نوظّف مجازات بلاغية، نداعب العواطف، ونفسح المجال للتعاطف؛ وليس ذلك كلّه مختلفاً عن القيام بصياغة قطعةٍ أدبية. يكتب أحد الفلاسفة، بارتياح متروٍّ، عن الوصول إلى "أرض الحقيقة"، التي هي "محاطة بمحيطٍ شاسع وعاصف، هو منطقة الوهم، حيث العديد من الشواطئ الضبابية، العديد من الجبال الجليدية، تبدو للبحّار، في رحلته الاستكشافية، مثل بلد جديد". ليس الاقتباس من عمل لنيتشه أو بينامين، ليس حتى لأي من "الفلاسفة الأدبيين" الآخرين؛ إنه من كتاب كانط "نقد العقل المحض". بالتالي، يبدو أنه لا يمكن حتى لأكثر الفلاسفة جموداً أن يتفادوا استخدام الصور والاستعارات الأدبية، أو الحكايا الرمزية والقصص. (والمفارقة هنا أن مجرد "إثارة نقاش" الذي يحلف به اليوم الأصوليون الفلسفيون هو، إلى حدّ كبير، شكلٌ من أشكال القصّ، لكن تلك مسألة أخرى).  
علاوة على ذلك، تجري مؤخراً مناقشةٌ حيوية حول الفلسفة السائدة في الغرب اليوم،وحول الطريقة التي تتعامل بها مع التقاليد الفكرية غير الغربية على أنها غير كافية فلسفياً. إن مثل هذا التحيز، على الرغم من جدّيته، هو مجرد إشارة _واحدة من بين إشارات كثيرة_ إلى سوء فهم الفلسفة الأصولية، ضيقة الأفق، لذاتها. فهي لا تكتفي بأن تنبذ التقاليد الفلسفية الأخرى بسهولة، بل إنها فوق ذلك ترفضُ، حتى ضمن التقليد الغربي ذاته، أساليبَ هامة، مفكرين، وأعمالاً، بالقدر ذاته من التعجرف.
كذلك، يأتي ذلك التعجرف مع قِصاصه المُضلِّل: إذ أننا لا نعود قادرين على تمييز الجوهري من التافه، أو المشكلة الأصيلة من البدعة العابرة. ولا نعود قادرين على تبيّنِ الفلسفيّ ما لم يأتِ إلينا على شكلِ مقالةٍ أكاديمية محكّمة، منشورة (يُفضّل بالإنكليزية) في مجلة ذات تصنيف ممتاز، وهيئة تحرير من الطراز الأول. لا عجب إذاً أن الفلسفة أضحت اليوم منفصلة عنّا. فأي حاجة بنا للفلاسفة، إذا كانت الفلسفة تَحدُّ من ذاتها على ذلك النحو الراديكالي؟  
ما نحن بأمس الحاجة إليه اليوم هو جرعة تواضع منفتحة: أن نفهم أن الفلسفة تأتي بأشكال عديدة، وبأسماء كثيرة؛ أنها لا تأتي أبداً بشكل صرف، بل تحب الفوضى والتهجين، وتتداخل مع حيوات الفلاسفة وشؤونهم الدنيوية؛ وأن ندرك أن مثل ذلك التواضع لن يُفقَر الفلسفة قط. بل إنه، على العكس، سيطلق يد الفلاسفة، ويجعل الفلسفة موضوعاً أكثر غنىً، أكثر تطوراً، واتصالاً بنا. ليتنا فحسب نعثر على معلّمٍ صوفي يجعلنا أكثر تواضعاً!

_________________
كوستيكا براداتان: فيلسوف أميركي من أصل روماني وأستاذ في العلوم الإنسانية في جامعة تكساس للتكنولوجيا. يعمل على مواضيع تشمل: الفلسفة الغربية، فلسفة الدين، فلسفة الأدب والأفلام. من كتبه "الموت في سبيل الأفكار: الحياة الخطيرة للفلاسفة" (2015)، "في مديح الفشل: أربعة دروس في الإنسانية (2023). وقد ترجمت إلى عدة لغات منها الألمانية، الإيطالية، التركية، الصينية وغيرها. يكتب المقالات ومراجعات الكتب في عدة مواقع منها نيويورك تايمز، واشنطن بوست. وهو المشرف على سلسلتي كتب هما "صناع أفلام فلسفية" و"لا حدود"

 

منصة قناص

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...