لماذا نقرأ الأدب؟

18-07-2024

لماذا نقرأ الأدب؟

ماريو فارغاس يوسا:

دائمًا ما يأتيني شخص حينما أكون في معرض كتاب أو مكتبة، ويسألني توقيعًا. إما لزوجته أو ابنته أو أمه أو غيرهم، ويتعذر بالقول بأنها ” قارئة رائعة ومحبة للأدب”. وعلى الفور أسأله: “وماذا عنك؟ ألا تحب القراءة؟”، وغالبًا ماتكون الإجابة: “بالطبع أحب القراءة، لكني شخص مشغول طوال الوقت.”.
سمعت هذا التعبير عدة مرّات، هذا الشخص وبالطبع الآلاف منهم لديهم أشياء مهمة ليفعلوها، التزامات كثيرة ومسؤوليات أكثر في الحياة، لذلك لايستطيعون إضاعة وقتهم الثمين بقراءة رواية، أو ديوان شعر، أو مقال أدبي لساعات. استنادًا إلى هذا المفهوم الواسع، قراءة الأدب هي نشاط كمالي يمكن الاستغناء عنه، لاشك بأنه يهذب النفس ويزودها بالأخلاق الحميدة وبالإحساس بمن حولها، لكنه في الأساس ترفيه، ترف للأشخاص الذين يملكون وقت فراغ. هو شيء يمكن وضعه بين الرياضات أو الأفلام أو لعبة شطرنج؛ وهو نشاط يمكن أن نضحي به دون تردد حينما نرتب “أولوياتنا” من المهام والواجبات التي لايمكن الاستغناء عنها في سعينا الحياتي الشاق.
يبدو بشكل واضح أن الأدب شيئًا فشيئًا يتحول إلى نشاط نسوي. في المكتبات، وفي المؤتمرات الخاصة بالكتّاب، وحتى في كليّات العلوم الإنسانية، نرى بوضوح أن النساء أكثر من الرجال. وهذا الأمر يُفسَّر عادةً أن نساء الطبقة المتوسطة يقرأن أكثر لأنهن يعملن لساعاتٍ أقل، لذلك يستطيع العديد منهن تخصيص وقت أكثر من الرجال لقراءة الكتب التخييلية والتفرغ للوهم. وأنا – بشكل ما – أتحسس من التفسيرات التي تفصل النساء والرجال بتصنيفات جامدة، وتنزع لكل من الجنسين طبعه الخاص ونتائج تترتب من هذه الطباع. لكن مما لا شك فيه أن قراء الأدب في تناقص، وأن غالبية الباقين من القراء هن نساء.
هذا الأمر يحدث في كل مكان تقريبًا، في إسبانيا - على سبيل المثال - كشفت إحصائية حديثة أقامها اتحاد الكتاب الإسبان أن نصف السكان لم يقرأوا كتابًا من قبل. وكشفت أيضًا أن ضمن الأقلية التي تقرأ، النساء اللاتي يقرأن يتعدين الرجال بنحو 6.2%، وهذا الفارق يزداد مع الوقت. أنا سعيد من أجل أولئك النسوة، لكني أشعر بالأسف للرجال، وللملايين ممن يستطيعون القراءة لكنهم اختاروا أن لايقرأوا.
هم يستحقون الشفقة ليس فقط لأنهم يجهلون المتعة التي تفوتهم، بل أيضًا لأني مقتنع بأن مجتمعًا بلا أدب أو مجتمعًا يرمي بالأدب – كخطيئة خفيَّة – إلى حدود الحياة الشخصية والإجتماعية هو مجتمع همجي الروح، بل ويخاطر بحريته. أود أن أطرح تفنيدات لفكرة أن الأدب نشاط للمترفين، وعرضه كنشاط لايستغنى عنه لتشكيل المواطنين في مجتمع حديث وديمقراطي، مجتمع مواطنين أحرار.
نحن نعيش في عصر تخصص المعرفة، وذلك بفضل التطور الهائل للعلوم والتكنولوجيا، وبفضل تقسيم المعرفة إلى وحدات صغيرة وعديدة. وهذا الاتجاه الثقافي سيستمر بالنمو لسنوات قادمة. للتأكيد، فإن التخصص له منافع عديدة. فهو يسمح باكتشاف أعمق وتجارب أعظم وأكبر، وهو محرك التقدم. غير أن له أيضًا عواقبه السلبية. فهو يمحي الصفات الفكرية والثقافية بين الرجال والنساء، والتي تسمح لهم بالتعايش، والتواصل، والإحساس بالتضامن فيما بينهم. التخصص يؤدي إلى نقص في الفهم الاجتماعي، يؤدي إلى تقسيم البشر إلى جيتو1 من التقنيين والأخصائيين. إن تخصيص المعرفة يتطلب بالتالي لغة دقيقة ورموزًا تزداد غموضة كل مرة. وبالتالي، فإن المعلومة تصبح أكثر انفرادية وتشتتًا. هذا هو التخصيص والتقسيم الذي كان يحذرنا منه المثل القديم: “لاتركز كثيرًا على غصن أو ورقة، وتنسى أنهما جزء من شجرة. ولاتركز على الشجرة فتنسى أنها جزء من غابة”. الوعي بوجود الغابة يخلق شعورًا بالجماعة، شعور الانتماء، ذلك الذي يربط المجتمع ببعضه ويمنع تفككه إلى عدد لايحصى من الأجزاء بسبب هوس الخصوصية الأناني بالنفس. هوس الأمم والأشخاص بأنفسهم لم يخلق إلا الارتياب وجنون العظمة، وتشويهًا في الواقع هو مايولّد الكراهية، الحروب، وحتى الإبادات الجماعية.
في عصرنا الحالي، لايمكن للعلم والتكنولوجيا أن يكمل بعضهما الآخر. وذلك للثراء اللامتناهي من المعرفة وسرعة تطورها، والذي قادنا إلى التخصصات وغموضها. لكن لطالما كان الأدب وسيبقى واحدًا من القواسم المشتركة لدى التجربة البشرية، والتي يتعرف البشر من خلاله على أنفسهم والآخرين بغض النظر عن اختلاف وظائفهم، خطط حياتهم، أماكنهم الجغرافية والثقافية، أو حتى ظروفهم الشخصية. استطاع الأدب أن يساعد الأفراد على تجاوز التاريخ، كقرَّاء لثرفانتس، شكسبير، دانتي، وتولستوي. نحن نفهم بعضنا عبر الزمان والمكان، ونشعر بأنفسنا ننتمي لذات النوعية، لأن من خلال الأعمال التي كتبوها، نحن نتعلم مانتشاركه كبشر، وماالذي يبقى شائعًا فينا تحت كل الفروقات التي تفصلنا.
لاشيء يحمي الإنسان من غباء الكبرياء والتعصب والفصل الديني والسياسي والقومي أفضل من تلك الحقيقة التي تظهر دائمًا في الأدب العظيم: أن الرجال والنساء من كل الأمم متساوون بشكل أساسي، وأن الظلم بينهم هو مايزرع التفرقة والخوف والاستغلال.
لايوجد من يعلمنا أفضل من الأدب أننا نرى برغم فروقنا العرقية والاجتماعية ثراء الجنس البشري، ولايوجد ماهو مثل الأدب لكي يجعلنا نكافئ ونمجد فروقنا بوصفها مظهرًا من مظاهر الإبداع الإنساني متعدد الأوجه. قراءة الأدب الجيد هو مصدر للمتعة بطبيعة الحال، ولكنه أيضًا تجربة لنعرف من نحن وكيف نكون، بعيوبنا وبنقصنا، من أفعالنا وأحلامنا وأشباحنا، وحيدين وفي العلاقات التي تربطنا مع الآخرين، في صورتنا العامة الظاهرة لدى الآخرين أو في تجاويف وعينا السرية.
هذا المجموع المعقد من الحقائق المتعارضة – كما يصفها أشعيا برلين – تشكل جوهرًا للحالة الإنسانية. في عالم اليوم، هذا المجموع الضخم والحي من المعرفة في الإنسان لايوجد إلا في الأدب. لم تستطع حتى فروع العلوم الإنسانية الأخرى – كالفلسفة أو الفنون أو العلوم الاجتماعية – أن تحفظ هذه الرؤية المتكاملة والخطاب الموَحَّد. العلوم الإنسانية خضعت أيضًا لتقسيم التخصصات السرطاني، وعزلت تلك التخصصات نفسها في أقسام مجزأة وتقنية بأفكار ومفرديات لايستوعبها الشخص العادي. بعض النقاد والمنظرين يودون تحويل الأدب إلى علم، وهذا ما لن يحصل أبدًا، لأن الكتابة التخيلية لم توجد لتبحث في منطقة واحدة من تجربة الإنسان. وُجدت الكتابة لكي تثري الحياة البشرية بأكملها من خلال الخيال، والتي لايمكن تفكيكها، أو تجزئتها إلى عددٍ من المخططات أو القوانين دون أن تضمحل. هذا هو معنى ملاحظة بروست حينما قال أن “الحياة الواقعية، هي آخر مايكتشف وينوَّر. وأن الحياة الوحيدة التي تعاش بكاملها، هي الأدب”.
بروست لم يكن يبالغ، أو يعبر عن حبه لما يجيد. هو كان يقدم قناعته الخاصة بأن الأدب يساعد على فهم الحياة وعيشها بطريقة أفضل. وأن العيش بطريقة أقرب للكمال يتطلب وجود الآخرين بجانبك ومشاركتهم الحياة.
هذا الرابط الأخوي، الذي ينشأ بين البشر بسبب الأدب، يجبرهم على التحاور ويوعيهم بالأصل المشترك وبهدفهم المشترك، وبالتالي فهو يمحي جميع الحواجز التاريخية. الأدب ينقلنا إلى الماضي، إلى من كان في العصور الماضية قد خطط، استمتع، وحلم بتلك النصوص التي وصلت لنا، تلك النصوص التي تجعلنا أيضًا نستمتع ونحلم. الشعور بالانتماء لهذه التجربة البشرية التراكمية عبر الزمان والمكان هو أعظم إنجاز للثقافة، ولاشيء يساهم في تجددها كل جيل إلا الأدب.
كان بورخيس ينزعج كثيرًا كلما سُئل “ماهي فائدة الأدب؟”. كان يبدو له هذا السؤال غبيًا لدرجة أنه يود أن يجاوب بأنه “لاأحد يسأل عن فائدة تغريد الكناري، أو منظر غروب شمس جميل.”. إذا وُجد الجمال، وإذا استطاع هؤلاء ولو للحظة أن يجعلوا هذا العالم أقل قبحًا وحزنًا، أليس من السخف أن نبحث عن مبرر عملي؟ لكن السؤال جيد بالفعل. لأن الروايات والأشعار لا تشبه بأي حال تغريد الكناري أو منظر الغروب، هي لم توجد عن طريق الطبيعة أو المصادفة، هي إبداعات بشرية. ولذلك فمن اللائق أن نسأل كيف ولماذا أتت إلى العالم، مافائدتها ولماذا بقت كل هذه المدة.
تأتي الأعمال الأدبية – في البداية كأشباح بلا شكل – أثناء لحظة حميمية في وعي الكاتب، ويسقط العمل في تلك اللحظة بقوة مشتركة بين كل من وعي الكاتب، وإحساسه بالعالم من حوله، ومشاعره في ذات الوقت. وهي ذاتها تلك الأمور التي يتعامل معها الشاعر أو السارد في صراعه مع الكلمات لينتج بشكل تدريجي شكل النص، إيقاعه، حركته وحياته. حياة مصطنعة، وللتأكيد، هي حياة مُتخَيلة، صنعت من اللغة، وحتى الآن يسعى الرجال والنساء لتلك الحياة، بعضهم بشكل متكرر، والبعض الآخر بشكل متقطع، وذلك لأنهم يرون أن الحياة الواقعية لاترقى لهم، وغير قادرة على تقديم مايريدون. لاينشأ الأدب من خلال عمل فردٍ واحد، بل يوجد حينما يتبناه الآخرون ويصبح جزءًا من الحياة الإجتماعية عندما يتحول، وبفضل القراءة، إلى تجربة مشتركة.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...