الصفحات الثقافية:يديرها شعراء ومبدعون أم إقطاعيون يتبادلون المصالح؟

16-05-2007

الصفحات الثقافية:يديرها شعراء ومبدعون أم إقطاعيون يتبادلون المصالح؟

السهام تأتيها من كل حدب وصوب، القراء يقولون إنها لا تلبي حاجاتهم، فإن هي اقتصرت على الخبر السريع اتهمت بالسطحية، وإن هي دخلت في سجالات وتحليلات قيل انها تنحو إلى التزييف والتلفيق والافتعال، وتقدم مطولات لا يحتملها العصر. القيمون على الصفحات الثقافية متهمون في غالب الأحيان بالتدليس والاستغلال لوظائفهم، وتبادل المنافع مع زملاء لهم، والترويج لنتاجاتهم إن كانوا مبدعين. وحين لا يكون مسؤول الصفحة الثقافية مبدعاً، وصاحب نتاج، قد يتهم ايضاً بأنه دون مستوى العبء الذي اسند اليه. وبكلام آخر، فإن الصفحات الثقافية التي يحشر فيها المبتدئون والمتدربون من الصحافيين، وكأنها "جراج" الجريدة، صارت في وضع صعب، بحسب قرائها وكتابها، في آن واحد، ولا تجد في الساحة من يدافع عنها. فما هي التهم الموجهة إلى صفحات، كانت منذ عقود قليلة فقط، المكان الذي يتخرّج فيه كبار أدباء الأمة وجهابذتها. أي لعنة حلّت على هذه الصفحات، ولماذا؟

قبل أسابيع فتح الشاعر سعدي يوسف نيرانه على الشعراء المسؤولين عن الصفحات الثقافية، واتهمهم بفرض أنفسهم على الساحة الأدبية، واتهم معظمهم بتبادل التربيت كنوع من التربيطات التي تكرسهم على حساب آخرين. وهو ما سبق وورد في مقالة نشرها سعدي يوسف في أسبوعية «أخبار الأدب» بتاريخ 29 إبريل الماضي، حيث كتب ان: «كل من تولى صفحة ثقافية أو بعض صفحة، صار بقدرة قادر قاصا لامعا، أو شاعرا رائعا». وتدريجيا كانت لهجة سعدي يوسف تعلو: « وشعراء الصفحات الثقافية وقصاصوها صاروا شعراء أمة وقصاصي أمة ابتليت بأبنائها العاقين»، وعاد إلى الماضي المجيد ( قبل اثني عشر قرنا) حين كان الشعراء الكتاب يسمون كذلك، لأن شعرهم هو أضعف الشعر! قال الشاعر العراقي في مقالته القليل لكن ما بين السطور كان أدهى، وفتح بكلماته جرحا مزمناً، كما أثار شهية الكثيرين للكلام.

يؤيد الروائي فؤاد قنديل ما قاله سعدي معتبراً ان:" معظم ادباء الصفحات الثقافية يمارسون اقصى استغلال لها. والاستغلال له اشكال متعددة تبدأ من نشر اعمالهم في صفحاتهم او نشر أعمال من يتبادلون الخدمات معهم، هذا غير تنمية علاقات تمتد لخارج البلد. وهذا النوع اكثر استشراء في مصر من غيرها. صحيح أن مستوى العمل الأدبي هو الذي يحسم في النهاية، لكن إلى أن يحدث هذا، يعلو البعض درجات عن طريق الصحف التي تتحول الى إقطاعيات. وهذا نراه في المؤسسات الثقافية أو في التلفزيون، حيث يدار بعض منها بمنطق الإقطاعية، ليتحول المكان الى ملكية خاصة يبيع فيها من يمتلكها ويشتري كما يشاء". الأمر زاد على الاحتمال، من وجهة نظر قنديل: "وأصبحت القاعدة هي النفعية، وهذا لم يكن شائعاً قبل ثلاثين عاما، ويبدو انه جاء مع الانفتاح ورياحه. قديما كان عبد القادر القط لا ينشر لنفسه في "إبداع" ولا يحتكم لغير الجودة. وهي معايير لم يعد معمولا بها ولسنا في حاجة الى ذكر اسماء لانها معروفة جدا".

لكن ألا يعتبر الكلام عن استغلال الصفحات الثقافية كوميديا في ظل اختفاء قرائها؟ سؤال يرد عليه قنديل قائلا ان :«محدودية القراء لا تعني أن ينتهي الاستغلال الذي هو أنواع. فهناك كاتب لا ينشر في صفحته لكنه يستثمر الصفحة لصالح آخرين، يتلقى استفادة منهم، في المقابل».

وهل هناك أمل في تجاوز هذه الأزمة؟ يجيب فؤاد قنديل: «لعلنا نحتاج لاتفاق على مقاطعة هذه الصفحات. المشكلة تحتاج الى تضافر جهود لاحتوائها، لأنها مرتبطة بمناخ عام. فاذا تحسنت القيم قليلا، ربما يصل الإصلاح لهذه الصفحات. الغريب أن هناك من يتولى أحيانا صفحة ما ويكون عفيفا ثم يتغير بعد أن يقنعه آخرون أو يفتحوا له أبواب الاستفادة!».

ويؤيد الروائي فتحي امبابي كل ما قيل، ويضيف:"هناك مبدعون يستمدون قوتهم من مواقعهم في المناصب الإعلامية أو المؤسسات الثقافية. ولا يتوقف الأمر عند حدود حصول البعض على مكانة إبداعية لا يستحقها، وإنما يستثمر عمله الصحافي في مجال (بيزنس) الوجود المحلي والعربي والدولي". ويرى امبابي أن هناك نوعا من المقايضة يتم عادة :"وتبادل المنافع في هذه الحالات يكون عابرا للحدود، وتمتد إلى الدعوات لحضور المؤتمرات والمهرجانات، بحيث يحرم المستحقون من حضورها بسبب المنتفعين". يواصل فتحي امبابي: «حتى الوجود الصحافي والتلفزيوني أصبح حكرا في أحوال عديدة عليهم، وهو ما يلحق ظلماً بالمبدعين الحقيقيين. هنا تتسع عملية المقايضة التي سبق أن أشرت اليها، لأن نتائج التبادل تؤدي إلى تكريس أسماء بعينها على حساب أخرى».

على الجانب الآخر يؤكد المشرفون على الصفحات الثقافية من المبدعين أن ما يتردد عنهم ما هو إلا شائعات لا أساس لها في الواقع، يبدأ الشاعر أحمد الشهاوي المشرف على القسم الثقافي بمجلة "نصف الدنيا" حديثه قائلا:" لم أتعود أن أرد على أحد، لذلك لن يكون كلامي تعقيبا على كلمات الشاعر الكبير سعدي يوسف، وعموما هو كلام طرح من قبل، على ألسنة مبدعين آخرين". لكن رغم ذلك يعود الشهاوي إلى كلمات يوسف ليؤكد:"أنا قرأت مقاله أكثر من مرة، وأرى أن وراءه خلافاً "عراقي-عراقي". فهناك عدد من الشعراء العراقيين الذين يديرون منابر ورقية أو إلكترونية ويتحكمون في مصائر شعراء العراق الآخرين. الأمر إذن عبارة عن معركة لسعدي مع آخرين، أشار لهم عبر اتجاهاتهم الشعرية، وأراد أن يقتص منهم وينفي عنهم شعريتهم كما فعلوا هم معه من قبل. لكني آخذ على المقال تعميمه عندما قال ان الشاعر العربي الآن كاذب مزيف حقائق وجبان". في مقاله أكد سعدي أن الصفحات الأدبية في الغرب لا يشرف عليها مبدعون بل نقاد، لضمان الموضوعية. غير أن الشهاوي يملك وجهة نظر مغايرة: "ليس هذا صحيحا، فمثلما عاش هو في أوروبا عشت أنا وتجولت كثيرا في بلدان عديدة، وقابلت شعراء يشرفون على صفحات وملاحق وسلاسل إبداعية. قبل أيام كنت في القيروان وقابلت شاعرا إسبانيا مهما هو رودلفو هلسا، ويتولى الإشراف على القسم الثقافي بإحدى الصحف الإسبانية". ويؤكد الشهاوي أن الإشراف على قسم ثقافي لا يقدم أي مميزات :"على العكس، أرى اهتماما أكثر بالمبدعين الموجودين خارج السياق الصحفي، لأن زملاءنا في المهنة يعتبروننا مجرد زملاء ولسنا مبدعين". ويدعم الشهاوي كلماته بدليل عملي:"جمال الغيطاني مبدع كبير ومهم، كما أن تجربته تلفت اهتمام أي قارىء، لكن بعض أعماله مرت دون أن يكتب عنها أى حرف مثل مجموعته القصصية "نفثة مصدور". يحاول الشهاوي أن يبرهن على أن فكرة المجاملات والمنافع المتبادلة ليست حقائق مسلم بها، وإلا كان هذا حدث مع الغيطاني بقيمته الأدبية مع كل عمل جديد يصدر له خاصة أنه رئيس لتحرير "أخبار الأدب" وظل لسنوات مشرفا على الصفحة الأدبية بـ"الأخبار". لكن الشهاوي وهو يدافع عن نفسه لا ينسى أن يؤكد على أن هناك استفادات يحققها آخرون: "لا أتصور أن يكتب عني في المجلة التي أشرف على القسم الثقافي بها، لست مثل أحمد عبد المعطي حجازي الذي نُشرت عنه دراستان في عدد واحد من مجلة "إبداع" التي يشرف عليها. لا يمكن أن أستغل منبري للترويج لنفسي". يمكنك ألا تنشر لنفسك في مجلتك لكن تتبادل النشر مع آخرين، تكتب عن أعمالهم ويكتبون عن أعمالك؟ تعليق يعقب عليه أحمد الشهاوي قائلا:" لنتحدث بصراحة، هل توجد لدينا صفحات ثقافية في مصر؟ هل توجد مجلات ثقافية؟ من إذن يمكن أن أنشر له أو عنه وأنتظر أن ينشر لي في المقابل؟ المسألة كلها شائعات، سبق أن رددها كثيرون". ويتابع الشهاوي:"هذا الاتهام وجه لكثيرين غيري، رغم انني أرى أننا كمبدعين يشرفون على صفحات ثقافية نعاني من ابتزاز ما. فقد لا تروقني رواية فلا اكتب عنها لأنني لست ناقدا لذلك لا أكتب إلا عما يروقني. كما أنني لا أحاور إلا الذين أحب إبداعهم، لكن من حق الجميع أن أكتب أخبارا عنهم. المشكلة أن البعض يتركون أعمالهم لي في فترة لا أكون موجودا فيها في مصر فلا أراها ولا أكتب عنها فأشتم". يقدم الشهاوي المبررات التي قد تجعل المبدع المشرف على صفحة ثقافية محل انتقادات قد تصل إلى حد السباب، وهو ما يتضمن إشارة إلى أن ثمن المنصب قد يكون مزيدا من السلبيات لا الإيجابيات. وهو ما يؤيده الشهاوي قائلا:" في رأيي لن يرتاح المحررون الثقافيون إلا بعد أن يتركوا أماكنهم، ستترتب حياتهم الإبداعية أكثر، ويصبحون أكثر تواصلا مع زملائهم، ولن يضار إلا من أقام إبداعه وكتابته على المنافع المتبادلة". إذن هناك أسس تجعل الاتهام صحيحا في بعض الأحيان، يعلق: "أعترض على أن تكون الاتهامات مطلقة، لكن لا شك أن الفساد موجود، حتى بين أولئك الذين يتهمونني(...) المشكلة أننا نرى الآن ذبحا على النت والتحالفات والصدامات أصبحت شبه يومية. كل الذين اتهموني وهاجموني لهم منابر ثقافية وأستطيع أن أسميهم". من هم الذين تتحدث عنهم تحديدا؟ سؤال يجيب عليه أحمد الشهاوي قائلا:" إبراهيم داوود أصبح زميلا في "الأهرام" وقديما كان يتهمني بأنني شاعر مؤسسة. الأمر نفسه ينطبق على مهدي مصطفى، ومحمود قرني يشرف على صفحة ثقافية في مصر ويراسل "القدس"، وفتحي عبد الله يكتب بين الحين والاخر عن الدواوين التي تصدر في الصحف المصرية، وغيرهم كثيرون ممن أصبح لديهم منابر ثقافية وينبغي أن يطرح عليهم السؤال نفسه". أي أن الاتهام يدور ليرتد إلى الذين سبق أن أطلقوه على غيرهم. هذا ما يريد الشهاوي أن يؤكد عليه قبل أن يختتم كلامه:" هذا التطاحن اليومي يأكل الروح".

تجربة الأديبة سناء صليحة تبدو مختلفة، فرغم إشرافها على صفحة ثقافة وفنون بـ"الأهرام" هناك من يعتقد عند صدور كل مجموعة قصصية جديدة لها أنها الأولى، مع أنها نشرت ست مجموعات. وترى سناء صليحة أن ذلك يؤكد أنها لم تستغل صفحتها التي تشرف عليها في الترويج لنفسها كمبدعة. وتضيف: "يمكن أن تسهم الصحافة في إثراء الأديب بجعله أكثر احتكاكا بمشكلات الواقع، لكنها لا يمكن أن تصنع أديبا. هناك أدب أو لا أدب والحكم في النهاية للقارىء، لأن أي دعاية ستتلاشى بعد فترة وتفقد بريقها اللحظي"، وتواصل سناء صليحة:" الأدب الجيد لا يمكن عمله بالدعاية لأنه لو لم يكن جيدا سيسقط بالتقادم، أنا شخصيا لم أنشر في الأهرام ولا قصة واحدة، ولا حتى خبرا عن إصداراتي. أعتقد أن الاستفادات التي يتحدث البعض عنها ترجع لطبيعة الشخصية، لكن في كل الأحوال لا أتصور أن يشرف على الصفحة الثقافية إلا متذوق للأدب"، غير أن كلمات سناء صليحة قد تتحول في المستقبل إلى حلم غير قابل للتطبيق:" الواقع يقول أن الصفحات الثقافية والأدبية في الجرائد تعتبر في نهاية قائمة الأولويات، لذلك تصبح (الجراج) الذي نلقي فيه بمن لا عمل لهم!!". في ظروف كهذه، وفي ظل غياب قراء الصفحات الثقافية، هل يمكن أن تظل فكرة ترويج المبدع الصحافي لنفسه قابلة للطرح؟ سؤال ترد عليه قائلة:" أعتقد أن هذا غير وارد. ففكرة الإلحاح على القارىء غير مطروحة في الأدب تحديدا، والمحك الأساسي هو التواصل مع الناس. والقارىء ذكي يرفض ويقبل لاعتبارات أدبية، خاصة أن القراء يتناقصون، والباقون هم الذين يتعاملون مع الأدب بجدية ولا يمكن التأثير عليهم بقوة فرض النفس. أنا أعتقد أن المبدع الصحافي يعاني نفس مشكلات المبدع الطبيب أو المحامي. هناك أزمات نشر ومحدودية قراءة، ونقد قليل". لكن وجود المبدع على رأس صفحة ثقافية ربما يجعل النقاد أكثر ليونة مع أدبه، تعقيب تعلق عليه: «بالعكس، ربما يكون هذا ضد المبدع. فهناك نقاد أشادوا بمجموعاتي القصصية لكنهم تحرجوا من الكتابة عنها لكي لا يتهموا بمجاملتي، المشكلة الحقيقية في المناخ العام. فلكي يقرأ الناقد لا بد أن تعطيه مساحة لينشر ما كتبه، فأين المساحات؟ أضف إلى ذلك غياب القارىء والمجلات غير المنتظمة التي لا أعرف أنا مواعيد صدورها رغم كونى مشرفة على قسم ثقافي. كل هذا ولد إحباطاً لدى المبدعين وجعلهم لا يرون الصورة كاملة. فبدأ البعض ترويج مقولات الاستغلال. ربما تكون هناك أخطاء لكنني ضد التنميط والتعميم. وقبل أن نتحدث في ذلك ينبغي أن نعيد النظر في أوضاع الصفحات الثقافية بصفة عامة».

إيهاب الحضري
المصدر: الشرق الأوسط

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...