ترجمة جديدة لأصوات مراكش كتاب الياس كانيتي الشاهد السماعي حين يقطع أذنيه السريتين

09-03-2012

ترجمة جديدة لأصوات مراكش كتاب الياس كانيتي الشاهد السماعي حين يقطع أذنيه السريتين

في العام 1953، قام الياس كانيتي، برفقة أصدقاء انكليز كانوا يصورون فيلماً في المغرب، بزيارة مدينة مراكش. رحلة، جاءت بمثابة «إلهام» لهذا الرجل، الذي سرعان ما حملته أعاصير الألوان المتفردة التي شاهدها في تلك المدينة، كما تنشق روائحها وسمع أصواتها، التي كانت تختلف عن كلّ ما خبره في لندن حيث كان يعيش.
عوالم بقيت عالقة في ذهنه، ليقرر في العام 1958، تأليف كتاب، يعتمد على الانطباعات التي وسمته هناك. فجاء كتاب «أصوات مراكش» ليحمل لنا عبق تلك الرحلة، عبر فصول صغيرة تستعيد الملاحظات والعواطف والنبرات وبالطبع تأملاته الفلسفية. كتاب مدهش، لكاتب، بقي يقف طوعياً على هامش المشهد الأدبي، ولولا جائزة نوبل للآداب التي أدركته عام 1981 لبقي اسمه «مجهولا» من قبل الشريحة الواسعة للقراء. لكن ذلك لا يعني مطلقاً أننا أمام كاتب عادي، بل نحن أمام كاتب متفرد له صوته الخاص والساحر.
تعيد «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، تذكيرنا بهذا الكتاب، عبر ترجمة جديدة له، قام بها كامل يوسف حسين، صدرت حديثاً. سبق أن عرفنا الكتاب، في بداية الثمانينيات بترجمة ممتازة للكاتب حسونة المصباحي (منشورات «توبقال»). يومها كان الكتاب الأول الذي صدر لكانيتي بالعربية، والذي عرّف بصاحب نوبل. لكن لم يستمر هذا التعريف، إذ لم يصدر لكانيتي بالعربية، سوى كتاب آخر (على حدّ علمي) في العام 2009، وهو «شذرات» الذي قام بنقله إلى العربية رشيد بو طيب (منشورات «كلمة»، في الإمارات العربية المتحدة)، وإذا استثنينا بالطبع مقالته «وظيفة الكاتب» ترجمة حسين الموزاني في مجلة «فكر وفن» العدد 54).
بمعنى آخر، لم نر لا روايته الهائلة «الإعدام حرقا» ولا بحثه المهيب «الحشد والسلطة» بالعربية (وأرددّ على حدّ علمي). من هنا، أول سؤال يطرأ على بالي، مع هذه الترجمة الجديدة، ألم يكن من الأفضل ترجمة كتاب آخر لكانيتي، بدلاً من استعادة كتاب موجود وبترجمة جيدة؟ في أي حال، كتاب، يجعلنا نتذكر مجدداً هذا الكاتب المتفرد فعلا، في تاريخ الأدب في القرن العشرين.

القدر

«يمكنكم أن تعيشوا طويلا كي تحصلوا على كلّ ما لم يكتبه لكم القدر». هكذا يختم الياس كانيتي كتابه «قلب الساعة السريّة»، وهو أحد كتبه الأخيرة. كتاب ينتمي إلى ما يسمى «الأفوريسم» (الشذرات) وهي كتابة مارسها بشكل كبير في نهاية حياته مؤكداً من خلال «اصطياده التناقضات» بأنه كان «صاقل الشكوك». لكن ما الذي لم يكتبه القدر لكانيتي؟ المجد؟ جائزة نوبل للآداب عام 1981. اجتياز طويل لعصره في رحلة استغرقت 89 عاماً. لقاء مع جمهوره الواسع حيث عرف الشهرة، وإنّ متأخرة، حين أصدر مذكراته «قصة شباب» و«قصة حياة» بين 1977 و1985 مبتعدا بشكل طوعي عن «كتابة المتخيل» منذ ثلاثينيات القرن العشرين. وحتى قبل أن يموت، اختار كانيتي مقبرته بنفسه، في مدافن «فلوترن» بالقرب من جيمس جويس في زيوريخ، إذ كما كان يقول، إنه اختار أن يكون طيلة حياته صامتاً كمقبرة رافضاً خلال مشواره الأدبي الطويل إجراء أي مقابلة صحافية (سوى واحدة). كان يعتبر هذا النوع من «تقديم النفس» بأنه لا يزيد عن «أمر فاسد» مصرحاً عام 1979 ومستعيداً جملة فوكنر «لن أقول الحقيقة للصحافيين أبداً». كان كانيتي قد صرح قبل ذلك «إن أتعس الأمور أن تكون على الموضة قبل أن تموت».
لم يخاطر كانيتي للحظة في حياته، في أن يكون على الموضة، فهو لم يكن أكثر موتاً كما كان حين كان لا يزال بعدُ على قيد الحياة. ناثر من طراز فريد، مسرحي، روائي (له رواية واحدة بعنوان «الإعدام حرقاً» صدرت له عام 1935)، لم يتوقف أبداً عن أن يكون «تقي اللغة»، لكنه لم يعجب أبداً بأولئك الذين يرغبون في تفجيرها. باحث وفيلسوف له كتاب «الحشد والسلطة» (الكتاب المنارة في الستينيات). جرب الانتروبولوجيا المعاصرة، لكنه لم يرتكز أبداً على ماركس وفرويد. يقع كانيتي في مقدمة نجوم وكواكب الذين يكتبون بالألمانية، لكنه بالتأكيد لم يكن الأكثر ألفة وشهرة بينهم. فمؤلفاته وحياته، تشهدان على هذا الحشد وهذه القوة، لكن لم تكن لساعته إلا «الضربات الخطرة»، كانت تدق «بإيقاع غير معقول للنوع البشري» وهي إن كانت تعلن عن ساعات الكارثة، عن دقائق المشاريع القاتلة، فإنها كانت في الوقت عينه حساسة تجاه السخرية الأكثر حدة، تجاه الكوميديا والعبث، وإن كانت أحياناً، تتلون بأفكار ميتافيزيقية غير مهادنة. ففي رواية «الإعدام حرقاً»، على سبيل المثال، يجد القارئ نفسه أمام عالم مجانين، بينما يجد في آخر أعماله، «قلب الساعة السرية» بأنه أمام حفل صراعات فردية. بالتأكيد هي صراعات أقل اتساعاً ولكنها الأكثر إدراكاً.

جوهر الحياة

«يشغلني جوهر الحياة كلياً». بهذا الشكل يلخص كانيتي أفكاره في السبعينيات، لكننا نعود لنجد في كتب تأملاته الأخرى («حقل الإنسان على سبيل المثال، عام 1973) مئات التحديدات الأخرى لعمله ككاتب ولمفهوم مهمته التي دفعته إلى أن يتبدل ويتجدد باستمرار، متنقلا من المسرح إلى كتب الرحلات «أصوات مراكش» (1953)، ومن النظريات إلى السيرة الذاتية «اللغة الناجية» (أو «اللسان الناجي») ثم «المشعل في الأذن» و«لعبة النظرات». عناوين كتب سيرته المتتابعة. مذكرات تشير إلى أراضيه التي أكملها عام 1974 بكتاب «الشاهد السماعي» و«خمسون صفة صوتية وأخلاقية». عن هذا الشاهد، يقول كانيتي: «يثابر الشاهد السماعي على أن لا يرى، لكنه يسمع بشكل أفضل، يصل، لا يتحرك يتسمر في الزاوية، متوارياً، ينظر إلى كتاب أو إلى رف كتب بشرود، يسمع ما عليه أن يسمعه ويبتعد. غائب وليس معنياً بما يجري، يقال إنه لم يكن هنا أبداً ما إن يختفي... وما أن يصل إلى الخارج حتى يصيخ السمع. يعرف كل الأمكنة حيث هناك أمور عليه أن يسمعها. إنه يجمع كل شيء ولا ينسى شيئاًَ. وحين يقطع أذنيه السريتين، يصبح رجلا لطيفاً، يثق به الجميع، ينادمه الجميع ويبادلونه الأحاديث التافهة. لا يشك أحد في كون ذلك ممكناً، كم أن الناس أبرياء حين لا يترصدونه...».
فمع هذه الطفولة التي شهدها، لم يكن كانيتي يستطيع أن يكون مهووساً باللغة وبرهاناتها، بسحر كلماتها. إنه كاتب نمساوي (الصفة التي أعطتها له لجنة نوبل حين منحته الجائزة)، لكنه أيضاً كان مواطناً بريطانياً (هرب من النازية عام 1938 وعاش في لندن في منفى مستمر) مثلما عاش في زيوريخ وسويسرا منذ 1971، أي في جنته التي سلخ عنها رغماً عنه وهو في السادسة عشرة من عمره. كل هذه التنقلات المفروضة عليه، تقبلها بالقول: «لم آسف أبداً، حين كنت طفلا، في أن أكون منذوراً إلى انطباعات قوية وغنية بالتناقضات. كل مكان جديد كان يسحرني لأنه كان يترك عليّ خاصيته من خلال تشعباته اللامرئية».

الدانوب

ولد الياس كانيتي في 25 تموز عام 1905، في روستوك بلغاريا على الدانوب السفلي. يقول في «قصة شباب» إن صفة بلغاري هي صفة محددة بوضوح «هناك أناس من أصول متعددة كانوا يعيشون هنا، كنا نستطيع سماع 7 أو 8 لغات مختلفة في اليوم الواحد». ذكرياته الأولى كانت «مغمسة بالأحمر»، كان في الثانية من عمره، حين مرّ مجهول بقربه وطلب منه أن يمد لسانه كي يقطعه له. لكن اللسان الأمومي كان لغة «اللادينو» أي إسبانية القرن الخامس عشر. والداه يهوديان شرقيان، جداه جاءا من تركيا (كان لكانيتي جواز سفر تركي يسمح له بالبقاء في فيينا بعد «الأنشلوس»). يتخاطب والداه بالألمانية وبالطبع كانت هذه اللغة، لغة الذاكرة: «كل مشاهد الحياة كانت إما بالإسبانية وإما بالبلغارية، خلال هذه السنوات الأولى، وهي بذاتها كانت تعبر عن نفسها بالألمانية فيما بعد. فقط، كانت هناك بعض الوقائع التراجيدية بخاصة... بقيت محفورة بالإسبانية في رأسي، لكن من خلال تفاصيلها الصغيرة».
كانت الأم تلعب الدور المركزي في حياته، فهي تنتمي إلى عائلة غنية، لكن علاقتها بأهلها لم تكن جيدة. كانت تخشى الموت، وبعد ستين سنة، حلل كانيتي موقف والدته بالقول: «حللت وشرحت السلطة التي زرعتها أمي فيَّ وسط العائلة وبشكل شرس. ليس لديََّ سوى الشر لأصف به الإنسان والإنسانية لكنني لست أقل اعتداداً بنفسي منها مع أنني لا أكره إلا شيئاً واحداً حقيقياً، عدوها: الموت».
هذا الموت حاربه طيلة حياته، معتبراً إياه بأنه مسألة غير ميتافيزيقية: «نكره موت أي كائن كموتنا الخاص، أن نهادن كل شيء، لكن ليس الموت أبداً». التقى هذا الموت بداية مع موت والده الذي أصيب بنوبة قلبية وهو في الثلاثين من عمره. بقي موته هاجس كانيتي إلى أن كشفت له والدته قبيل وفاتها السبب: «كانت خانت زوجها وتباهت بالأمر أمامه».
في العام 1911، هربت عائلة كانيتي مع أطفالها الثلاثة لتعيش في مانشستر في انكلترا. كان والده يتكلم الانكليزية مع أطفاله. كان في السابعة حين مات والده، فرحلت أمه إلى فيينا، إلى «حلمه» وخلال الصيف كان يعيش في لوزان، حين انهمكت الوالدة بتعليم ولدها الألمانية كي يتمكن الطفل من الذهاب إلى المدرسة في وطنه الجديد «فيما بعد، فهمت جيداً أن ليس لحالي فقط، حين زرعت الألمانية داخلي بشدة وعذاب. كانت هي أيضا بحاجة كبيرة إلى أن تحادثني بالألمانية، لأنها كانت لغتها الحميمة». وبين الأم والابن، أصبحت الألمانية «لغة حبنا»، وبعد أن تعلمها بصعوبة «أصبحت ذلك التعلق الصعب الذي من الصعب فكاكه».

الانشداه الميتافيزيقي

بعد فيينا جاء دور زيوريخ من 1916 و1919 ثم فرانكفورت في العام 1922. تلقى المراهق تجربته الأولى من خلال الحشد، كان العمال يتظاهرون ضد مقتل رايثنو، وزير الخارجية، الذي قتله «المتعاملون مع الألمان». «إن ذكرى هذه التظاهرة الأولى التي شهدتها بطريقة واعية، بقيت حاضرة أبداً. إنها المشعل في الأذن. كانت انشداهاً ميتافيزيقياً بحيث لا أستطيع أن أنسى ما دفعني إلى أن أكون جزءاً من هذا الحشد. فيما بعد، وحين وجدت نفسي داخله، انتابني إحساس بأن الأمر يتعلق بأمر جسدي يدعي المركز. بالطبع ليس الأمر شرحاً لهذا الأمر المدهش. لأن ليس لدينا شيء جامد، لا قبل، حين كنّا معزولين ولا بعد حين صرنا في الحشد. ما يحصل لك، حين تكون داخل ذلك، وهو تحميل وعيك بالكامل وهو تحول جذري أكثر منه تحولا سحريا».
تحليل هذا التبدل الذي يكتنفه الغموض، سيكون حاضرا في كتاب «الحشد والسلطة» وسترفده تجربة أخرى في فيينا حيث ذهب لدراسة الكيمياء. 25 تموز 1927: «إنه النهار الأكثر تأثيرا في حياتي منذ موت والدي: حريق قصر العدل. تسعون قتيلا من بين المتظاهرين، الذين رفضوا الخضوع أمام مسؤولي الحزب الاشتراكي الديموقراطي وأصروا على المطالبة بالثأر للعمال الموتى، حيث أخلي سبيل القتلة». يلاحظ كانيتي «القوة المفتوحة» لهذه الكينونة التي ليست في حاجة إلى الفوهرر كي تتشكل لديها قوانينها الخاصة: عنف الرغبة في العيش وخلفية الرعب في المنطقة: إنها أساس هذه الظاهرة.
جاء كتاب «الحشد والقوة» كجواب على حربين عالميتين، على الفاشية وبعض الثورات، وهو ينتهي بهذه الكلمات: «الموت بصفته تهديداً هو عملة القوة. من السهل وضعها فوق بعضها البعض لتجمع رأسمالاً عارماً. لكن الذي يرغب في أن يكون مأخوذاً بالقوة، عليه أن ينظر إلى الأمر رأساً. في عينيه، بدون خوف وفي أن يجد الوسيلة كي يسحر عقربه». في العام 1979 وفي مقابلته الصحافية الوحيدة التي وافق على إجرائها، ونشرت في مجلة «أوسترايكا» الجامعية وقد خصص العدد عن حياته وأدبه، قال كانيتي عن هذا الكتاب: «في الأساس، إنه كتاب تحليل للاشتراكية الوطنية (النازية»).
في عام 1924 التقى كانيتي في فيينا، بكل من كارل كراوس وفيزا كالديرون، أي من الشخصين أثر فيه أكثر من غيره؟ يبدو كراوس من أكثر الكتاب الذين لعبوا دوراً مهماً في حياته مع سويفت وأريستوفان وثربانتس وستاندال وغوغول وليشنبرغ وبوخنر وكافكا. لقد جلب له كراوس «التكوين والثقة الداخلية». لكن الصحيح أيضاً أن فيزا أوحت إليه «بالايمان بنفسه»، تركها مؤقتا اعام 1928 و1929 في فيينا، كي يعيش قليلا في برلين، حيث تردد على بريشت وبابل وغروز. تزوجها عام 1934 واستمر في إهدائها كتبه لفترة طويلة بعد موتها عام 1963.
«الإعدام حرقاً» رواية مجاز كبير عن هذا العالم، حيث الافراد يناجون أنفسهم ولا يتحاورون أبداً. وفيها نجد كل مستويات اللغة التي تؤلف أيضاً مادة جميع مسرحياته «عرس» (1932)، «كوميديا الغرور» (1950)، وهي تروي قصة شخص يبدد ثروته في شراء 25 ألف مخطوط نادر، فيغلق الباب على نفسه ليبدأ بالقراءة وليبتعد عن الواقع، وينتهي به الأمر إلى أن يحرق مكتبته بنفسه وكأن الكتب هنا، كناية عن الانفصال عن الواقع، والدافع إلى الموت. هل كانت الوسيلة كي يبقى حياً وطويلاً من خلال كلماته على الرغم من قوله: «يأتي الموت وينسلُّ في ساعاتنا الأشد عزلة، الخاصة إلى أقصى الحدود. كيف يمكن ألا نستسلم له في النهاية؟».

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...