سيمور هيرش: سارين من؟ (2 ـ 4)

11-12-2013

سيمور هيرش: سارين من؟ (2 ـ 4)

الجمل ـ سيمور هيرش ـ ترجمة محمد صالح الفتيح: احتاج البيت الأبيض إلى تسعة أيام حتى يقوم بتجميع قضيته ضد الحكومة السورية. في 30 آب (أغسطس) دعى مجموعة منتقاة من صحفيي واشنطن (اسُتثني منهم على الأقل مراسل واحد ناقد وهو "جوناثان لانداي"، مراسل الأمن القومي لصحف ماكلاتشي (1))، وقامت بتسليمهم وثيقة عنونت بعناية "تقييم الحكومة"، وليس تقيماً من قبل منظومة الاستخبارات. حددت الوثيقة ماكان في جوهره مجرد محاججة سياسية لمساندة قضية الإدارة [الأمريكية] ضد حكومة الأسد. ولكنها كانت أكثر تحديداً من أوباما لاحقاً، في خطابه في 10 أيلول (سبتمبر) حين قال: صرحت الاستخبارات الأمريكية بأنها علمت بأن سورية قد بدأت "تحضير الذخائر الكيميائية" قبل ثلاثة أيام من الهجوم. قدم جون كيري في خطاب عدواني في وقت لاحق ذلك اليوم المزيد من التفاصيل. فقال أن طواقم الأسلحة الكيميائية السورية كانوا على الأرض في تلك المنطقة للقيام بالتحضيرات حتى يوم 18 آب (أغسطس). "نحن نعلم أن عناصر من النظام السوري قد أبلغت بالاستعداد للهجوم من خلال وضع أقنعة الغاز والقيام بالاجراءات الاحترازية المصاحبة للأسلحة الكيميائية". جعل "تقييم الحكومة" وتعليقات كيري الوضع يبدو كما لو أن الإدارة [الأمريكية] كانت تتابع هجوم السارين في أثناء حصوله. كانت هذه هي رواية الأحداث، غير الحقيقية ولكن غير المشكك بها، التي انتشرت على نطاق واسع في ذلك الوقت.
أتى خبر صحيفة "الدايلي مايل" أكثر صراحة فقالت "يقول تقرير الاستخبارات أن المسؤولين الأمريكيين عرفوا بهجوم غاز الأعصاب في سورية قبل ثلاثة أيام من قتله لأكثر من 1400 شخص – بمافيهم أكثر من 400 طفل." (يتفاوت عدد الوفيات المنسوب للهجوم بشكل كبير، من 1429 على الأقل، كما ذكرت في البداية إدارة أوباما، إلى أقل بكثير. أحد مجموعات حقوق الإنسان السورية ذكرت 502 وفاة؛ منظمة أطباء بلا حدود وضعت الرقم عند 355؛ وتقرير فرنسي سجل 281 حالة وفاة معروفة. ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن الرقم الأمريكي الإجمالي والدقيق بشكل صاعق إنما قد بني ليس على إحصاء فعلي لعدد الجثث وإنما على تقدير استقرائي قام به محللو وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الذين قاموا بتفحص أكثر من مئة مقطع فيديو على اليوتيوب من الغوطة الشرقية بواسطة برنامج كومبيوتر بحث عن صور الموتى. بتعبير آخر، لم يكن الموضوع أكثر من رجم بالغيب).
بعد خمسة أيام استجاب المتحدث باسم مكتب "مدير الاستخبارات القومي" للشكاوي. فقال في تصريح لوكالة "أسوشيتد برس" أن المعلومات الاستخبارية التي استندت عليها تأكيدات الإدارة [الأمريكية] لم تكن معروفة في وقت الهجوم وإنما تم استخراجها في وقت لاحق فقط: "دعونا نكون واضحين، الولايات المتحدة لم تكن تشاهد وبشكل حي ذلك الهجوم الفظيع وهو يحصل. إن منظومة الاستخبارات استطاعت جمع وتحليل المعلومات بعد الواقعة وحددت أن عناصر من نظام الأسد قد قاموا في الحقيقة بخطوات الاستعداد السابقة لاستخدام الأسلحة الكيميائية". ولكن سلك الصحفيين الأمريكيين كان قد حصل على روايته، ولم يحظ التراجع سوى باهتمام ضئيل. قدمت صحيفة "الواشنطن بوست"، بالاستناد إلى وثيقة "تقييم الحكومة"، وعلى صفحتها الأولى في 31 آب (أغسطس)، رواية غنية بالتفاصيل التي تصف كيف كانت الاستخبارات الأمريكية قادرة على تسجيل "كل خطوة" من هجوم الجيش السوري بشكل حي "بداية بالتحضيرات الواسعة مروراً بإطلاق الصواريخ وصولاً إلى تقييمات مابعد الهجوم التي قام بها مسؤولون سوريون". لم تقم الصحيفة بنشر تصحيح "أسوشيتد برس"، واستمر البيت الأبيض بالإمساك بخيوط روايته.
وهكذا عندما صرح أوباما في 10 أيلول (سبتمبر) أن إدارته علمت أن طواقم الأسلحة الكيميائية التابعين للأسد قد قاموا بالتحضير للهجوم بشكل مسبق، فهو كان يبني تصريحاته ليس على معلومات حصل عليها في لحظة الأحداث ولكن على محادثات جرى تحليلها بعد أيام من 21 آب (أغسطس). يشرح المسؤول الكبير السابق في الاستخبارات أن البحث عن المحادثة ذات الصلة بالهجوم امتد إلى ماقبل التدريب الذي اكُتشف في شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، عندما صرح أوباما بشكل علني بعد ذلك أن الجيش السوري قد قام بتحريك طواقم الأسلحة الكيميائية ووزع أقنعة الغاز على قواته. إن وثيقة "تقييم الحكومة" التي أصدرها البيت الأبيض وخطاب أوباما لم يكونا وصفاً للأحداث الدقيقة المؤدية إلى هجوم 21 آب (أغسطس)، ولكنهما كانا سرداً للخطوات التي كان الجيش السوري ليتبعها في حالة أي هجوم كيميائي. "قاموا بتجميع أحداث سابقة قديمة" يتابع المسؤول السابق بالقول "وكان هناك الكثير من الأجزاء والقطع المختلفة. والنموذج الذي استخدموه كان النموذج الذي يعود إلى شهر كانون الأول (ديسمبر)". من الممكن بالطبع أن أوباما لم يكن مدركاً أن روايته لم تجمع من دليل مباشر بل جمعت من تحليل الإجراءات المتبعة من قبل الجيش السوري عند القيام بهجوم بالغاز. وفي كلتا الحالتين فقد كان قد توصل إلى استنتاج متسرع.
لعبت الصحافة نفس اللعبة. كان تقرير الأمم المتحدة في 16 أيلول (سبتمبر) المؤكد لاستخدام غاز السارين حريصاً على ذكر أن دخول محققيه، بعد خمسة أيام من استخدام الغاز، إلى مواقع الاعتداء كان تحت سيطرة قوات المتمردين. ينوه التقرير إلى أن "هذه المواقع، كما هو حال غيرها، كانت قد شهدت مرور أفراد آخرين قبل وصول بعثة المراقبين... وخلال الوقت الذي أمضوه في تلك المواقع فإن هؤلاء الأفراد وصلوا حاملين أنواع ذخيرة أخرى مشتبه بها [على أنها أسلحة كيميائية] ممايشير إلى أن أدلة مهمة قد تم نقلها وربما التلاعب بها". بالرغم من ذلك تلقفت صحيفة "نيويورك تايمز" التقرير وكذلك فعل المسؤولون الأمريكيون والبريطانيون وادعوا أنه يقدم دليلاً جوهرياً يدعم تأكيدات الإدارة [الأمريكية]. أعاد ملحق بتقرير الأمم المتحدة تقديم صور مأخوذة من اليوتيوب لبعض الذخائر التي تم استخراجها بما في ذلك صاروخ "يشابه من حيث الأثر" مواصفات قذيفة مدفعية صاروخية من عيار 330 مم (2). كتبت صحيفة "النيويورك تايمز" أن وجود مثل هذه القذائف الصاروخية يثبت بشكل مادي أن الحكومة السورية كانت مسؤولة عن الهجوم "لأن الأسلحة المعنية لم يتم توثيقها في السابق أو يذكر أنها في حوزة المتمردين".
قام "ثيودور بوستول"، بروفيسور التكنولوجيا والأمن القومي في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" بمراجعة صور الأمم المتحدة مع مجموعة من زملاءه وخلصوا إلى الصاروخ ذو العيار الكبير كان عبارة عن ذخيرة بدائية من المرجح جداً أنها قد صنعت محلياً. أخبرني أن القذيفة كانت "شيئاً يمكنك أن تنتجه في ورشة ذات قدرات متواضعة". وأضاف أن الصاروخ في الصور لايطابق مواصفات صاروخ مشابه، ولكن ذو عيار أصغر، موجود في الترسانة السورية. قامت "النيويورك تايمز"، ومرة أخرى من خلال اعتمادها على المعلومات في بيان الأمم المتحدة، بتحليل مسار تحليق اثنين من الصواريخ المطلقة التي يعتقد أنها حملت السارين، وخلصت إلى أن زاوية الهبوط "تشير مباشرة" إلى أنهما قد أطلقا من قاعدة للجيش السوري تبعد اكثر من تسعة كيلومترات من منطقة السقوط. يقول "بوستول" الذي عمل كمستشار علمي لقائد العمليات البحرية في البنتاغون [وزارة الدفاع الأمريكية] أن التأكيدات المنشورة في "النيويورك تايمز" وأماكن أخرى "لم تكن مبنية على مشاهدات حقيقية". ويختتم بالقول أن تحليلات مسار التحليق على وجه التحديد كانت، كما وصفها هو في بريده الإلكتروني، "غبية تماماً"، لأن أي دراسة متعمقة ستظهر أنه من المستبعد أن يكون مدى القذائف البدائية اكثر من كيلومترين اثنين. نشر "بوستول" وأحد زملائه، "ريتشارد إم. لويد"، تحليلاً بعد أسبوعين من 21 آب (أغسطس) يقدرون فيه وبشكل صحيح أن الصواريخ المعنية إنما احتوت حمولة من السارين أكبر بكثير مما قدر سابقاً. كتبت "النيويورك تايمز" عن هذا التحليل واصفةً "بوستول" و "لويد" بـ "خبيري أسلحة بارزين". أرسلت لاحقاً دراسة هذين الشخصين حول مسار تحليق الصاروخين ومداهما، والتي تناقض تقرير "النيويورك تايمز"، إلى نفس الصحيفة الأسبوع الماضي؛ وحتى الآن لم يتم ذكرها.

---------------------
الهوامش
(1) يتبع لشركة ماكلاتشي للنشر مامجموعه 30 صحيفة يومية تنشر في 15 ولاية أمريكية ويبلغ عدد قرائها اليوميين حوالي 3 مليون قارئ (المترجم).
(2) يشار إلى الصواريخ التي تستخدم في سورية اليوم باسم قذائف المدفعية الصاروخية أو مايتعارف عليه العامة باسم "صواريخ الراجمات" (المترجم)
كل ما هو موضوع بين [] ضمن النص هو إضافة من قبل المترجم للتوضيح عند الالتباس.
رابط المقالة الأصلي:
http://www.lrb.co.uk/2013/12/08/seymour-m-hersh/whose-sarin

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...