عن الدكتور عبد الكريم الأشتر

16-10-2011

عن الدكتور عبد الكريم الأشتر

«هو أصغر أولاد أبيه الثلاثة: قدري 1925 وصالح 1927 وعبد الكريم 1929، ولد في رمضان 1348 هـ 1929م وهي سنة الولادة الصحيحة وإن سجلت في السجلات الرسمية 1928 من أسرة متوسطة الحال، قدم أجدادها من اليمن منذ نحو قرنين من الزمان». هكذا بدأ أستاذي الدكتور العلم عبد الكريم الأشتر ترجمة حياته بقلمه عندما كتب عن نفسه في سيرته الذاتية المعتمدة، وقد اعتمد الدكتور الأشتر الحكائية في كتابة سيرته الذاتية في الحديث عن الآخر الذي هو ورحلته في الحياة، وبدأ من الميلاد وحقيقته إلى دراسته في كتّاب الشيخ صالح، ثم في مدرسة رسمية، ثم في المدرسة الهاشمية، والتحاقه بالتجهيز الثانية قريباً من سوق القطن. ويستعرض الدكتور الأشتر أساتذته عبد الوهاب الصابوني ومظفر سلطان وإلياس زحلاوي وعبد السلام الترمانيني، وجلهم من المشاهير الذين تركوا أثراً في الأشتر والوسط الثقافي.
 
الأشتر والتدريس
بدأ الأشتر تدريسه مبكراً 1946 بعد حصوله على الشهادة المتوسطة في مدرسة عندان، وفي هذا العام مارس الأشتر مهمة المعلم الوحيد في المدرسة، وفي أثناء تدريسه حصل على الشهادة الثانوية ليلتحق بجامعة دمشق عام 1948، حيث بدأت ملكات الأشتر كما يقول في سيرته الذاتية التي كتبها بقلمه تكتمل، وتكوينه الفكري والأدبي يتبلور شيئاً فشيئاً.
وفي مرحلة الجامعة يقف الأشتر أمام أساتذته الذين كونوا شخصيته وأدبه فيذكر: الأستاذ النحوي سعيد الأفغاني، الدكتور إبراهيم الكيلاني، والدكتور جميل صليبا، والأستاذ الشاعر شفيق جبري، والدكتور أمجد الطرابلسي وذكر أثر كل واحد منهم في حياته ومسيرته فكان الأكثر تأثيراً الأستاذ سعيد الأفغاني، والدكتور الكيلاني الذي أشرف على بحث الليسانس عند الأشتر وهذا البحث الذي استمر معه حتى مراحل متقدمة.

الأشتر والدراسات العليا
عاد الأشتر إلى حلب عام 1952 للعمل والحياة، فعين مدرساً، وتزوج عام 1953 من السيدة بثينة الصابوني، وبدأ حياته التدريسية والصحفية، كما بدأ رحلة نشر الدراسات والكتب. وفي عام 1956 نجح في مسابقة لإيفاد بعض المدرسين إلى معهد الدراسات العربية العالية في القاهرة وكان ترتيبه الثاني بعد الدكتور شاكر الفحام وقبل الدكتور عمر الدقاق.
وفي هذا المعهد ظهر الدكتور محمد مندور الأستاذ الذي أحبه الأشتر وترك فيه أثراً كبيراً، سواء كان ذلك في الكتابة أم في الطباع، ولا أذكر مرة جلست فيها مع الأستاذ الدكتور الأشتر إلا وكان مندور في الجلسة، وفي سيرته يذكر محطات غالية عليه من محطات أستاذه في هذا المعهد.
ويذكر من أساتذته الدكتور عبد القادر القط، الدكتور إسحق الحسيني، الدكتور عبد العزيز الأهواني، الأستاذ أمين الخولي، الأستاذ شفيق جبري، الأستاذ سامي الكيالي، الأستاذ محمد شفيق غربال.
وفي هذه المرحلة اشترك الأشتر بتأليف ثلاثة كتب مدرسية (التسهيل في دراسة الأدب العربي الحديث) مع صديقه الأستاذ عاصم بهجة البيطار وكتاب (الدليل) مع خليل الهنداوي والدكتور مازن المبارك، وكتاب (المنهج) مع الأستاذ عاصم بهجة البيطار.
وقد كان أثر هذه المرحلة، وأثر الدكتور مندور واضحين في أستاذنا الدكتور الأشتر رحمه الله، وأذكر أن الدكتور الأشتر عرف بالأدب الحديث ونقده أكثر من معرفته بالأدب العباسي، وفي تدريسنا للأدباء والنقد في العصر الحديث كان الدكتور الأشتر حميمياً إلى درجة بعيدة، ويكاد يستخرج هؤلاء الأدباء من شخصه وروحه، وفي هذا أثر واضح وكبير للدكتور مندور.
وكذلك فقد استمرت علاقة الدكتور الأشتر بالتأليف والتدريس حتى تقاعده، وبقي متواصلاً مع الإعلام والمقالات والكتب حتى سنواته الأخيرة عندما كنت أتواصل معه بشكل شبه أسبوعي، وقبل أن يحول السفر والمشاغل بيني وبين أستاذي الراحل.

الأشتر والأدب العباسي
انتسب عام 1960 للحصول على الدكتوراه من جامعة القاهرة ثم تحول إلى جامعة عين شمس لأسباب إدارية، وسجل في دعبل الخزاعي مع الدكتور مهدي علام وناقش أطروحته في الأدب العباسي عام 1962 ليعود عام 1963 ويبدأ تدريسه في جامعة دمشق، ويذكر الدكتور الأشتر في سيرته أنه مع الإعداد للدكتوراه بقي على علاقة وطيدة مع الأدب المهجري والحديث، وطبع أبحاثاً ودراسات في المرحلة ذاتها، وأعطى هذه الحقبة حلاوة ما تخللها من حدث الوحدة بين سورية ومصر، وقد كان للأشتر كتابات ومشاركات في الوحدة وما تمثله، حتى وقع الانفصال الذي يقول فيه: «كان يوماً أسود مشؤوماً، سافر الشاب بعده إلى القاهرة ليلتحق بعمله في معهد الدراسات العربية العالية، كان منكسر النفس مشتت الخاطر، وهو إلى اليوم يذكر ما اعتراه من ذل ذلك اليوم وانكساره».
وفي جامعة دمشق شارك الأستاذ سعيد الأفغاني، والدكتور شكري فيصل والدكتور مازن المبارك والأستاذ أحمد راتب النفاخ في تدريس طلاب قسم اللغة العربية وفي أكثر من مادة.

التدريس في البلدان العربية
تنقل الدكتور الأشتر بين عدد من البلدان العربية من عام 1969- 1973 في جامعة وهران الجزائر، وهناك تعرف إلى عدد من بلدان المغرب العربي وإسبانيا وفرنسا، وفي السنوات الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية شارك في التدريس والإشراف على طلبة الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية مع الدكتور إحسان النص والدكتور محمود الربداوي والدكتور أحمد طربين.
وأعير إلى جامعة الإمارات العربية المتحدة- العين مدة سنتين، وعاد ليدرس في جامعة دمشق حتى عام 1988 حين ألحّ في قبول استقالته، وعند عودته بداية الثمانينيات درس كاتب السطور وأبناء دفعته مادة النقد العربي الحديث، وعرفنا أول مرة القيمة الحقيقية لشوقي والعقاد والمازني وكتاب الديوان، كما عرفنا بميخائيل نعيمة وغرباله، وأسهم في توصيل محمد مندور بمكانته النقدية اللائقة.
ولا تزال صورة الدكتور الأشتر ماثلة وهو يجهز نفسه للحديث الهامس الذي يصل إلى الجميع عن علم من أعلام النقد العربي.
وعلاوة على التدريس فقد شارك الأشتر في لقاءات ومؤتمرات وزيارات شملت القدس ومناطق الضفة الغربية صيف 1965 قبل سقوطها بيد المحتل وزار ألمانيا للاحتفال بوفاة كارل بروكلمان، والمغرب والأندلس برفقة صديقه الدكتور عبد الرحمن عطبة، ويذكر الأشتر فيما كتبه كيف أذّن عطبة في كاتدرائية إشبيلية- جامعها السابق.. وزار روما ولندن وبغداد والهند والسعودية وطهران والكويت.

الأشتر والإعلام
يعدّ الدكتور الأشتر من القلة المتواصلين مع الإعلام من أبناء جيله من العلماء، وهو لم يكف حتى أخريات أيامه عن التواصل مع الإعلام والكتابة له، وهو صاحب رأي في تأثير الإعلام، وأذكر لأستاذي الأشتر رحمه الله مقالة مهمة كتبها عن التعليم العالي قبل أكثر من عشرين سنة في جريدة البعث، وقد أحدثت ردود فعل بعضها كان سلبياً، ولو عملوا بما جاء نتيجة تجربته لكانت الدنيا بألف ألف خير. يومها اقترح الدكتور الأشتر عدم الركون إلى التعليم الجامعي العام المجاني، وطلب من الدولة أن تقوم بافتتاح فروع مأجورة بأجور معقولة تتيح للطلبة متابعة الدراسة، وأخرى بأجور أعلى يدرس فيها الطالب الفرع الذي يريده كما لو كان في بعثة خارجية، وأشار الأشتر يومها إلى ضرورة هذه الخطوة وقيمتها، فهي من جانب تبقي الطالب في بلده وتحت رعاية أهله ودولته، والمادة العلمية التي يتلقاها تكون مدروسة ومعروفة، وتبقيه كذلك في بيئته، أما على الجانب الآخر فإنها تؤمن للأساتذة السوريين من حملة الماجستير وما فوق دخلاً مادياً جيداً ومهماً، وتغني الكثيرين عن السفر والإعارة والتدريس في جامعات أخرى غير سورية.
وبعد مرور أكثر من ربع قرن على هذه المقالة لا تزال طموحات الدكتور الأشتر أعلى بكثير مما وصل إليه حال التعليم العالي السوري. ترى لو كانت الأمور خاضعة للنقاش والمداولة كما أرادها هو وأمثاله أين نحن الآن؟
وهذا الإيمان هو الذي جعل الدكتور الأشتر يكتب لجريدة البعث وتشرين، وتشرين الأسبوعي والبيان الإماراتية، ومجلة المعرفة السورية التي غادر الدنيا وأبحاثه تطبع في مطابعها، إضافة إلى مشاركات مهمة في محطات الإذاعة والتلفزة.
والدكتور الأشتر يبين أهمية وسائل الإعلام في إيصال المعلومة وتعزيزها في الوقت الذي لم يؤمن فيه كثيرون من أبناء جيله ومن تلاهم بأهمية الإعلام، وتراهم يبتعدون عنه.

الأشتر والتأليف
إن أسلوب الدكتور الأشتر أسلوب رائق سهل، ومؤلفاته مرغوبة من القراء والمتخصصين لما تحمله عن فوائد كثيرة يصعب أن نجد مثلها في مؤلفات أخرى، وللدكتور الأشتر طبيعة في نشر مؤلفاته فهو يجمع المتشابه منها في الموضوع والمرحلة ليخرجه ولو في كتب صغيرة، لذلك نجد أسماء مصنفات الدكتور الأشتر عديدة وقد تنوعت مصنفاته بين:
الأبحاث الأكاديمية، الأبحاث التعليمية، المقالات العلمية، المقالات الوجدانية، المقالات الحياتية، الحوارات والأحاديث.
ولا حاجة لتعداد مصنفات الدكتور الأشتر فهي كثيرة، ومتعددة أماكن الطباعة داخل سورية وخارجها، كلها ينطبق عليها اسم (ألوان) الاسم الذي اختاره الدكتور الأشتر لأحد كتبه اللطيفة. وقد يكون كتابه ديوان العرب الذي نشر في ثلاثة أجزاء من أكثر كتبه فائدة ورؤية نقدية، وقد كان من المتوقع أن ينشر في خمسة أجزاء صغيرة، ثم عدل الدكتور الأشتر إلى طباعته في ثلاثة أجزاء كبيرة بعد أن أعلن عنه في كتبه. وهو عبارة عن أحاديث قدمها الدكتور الأشتر في الإعلام المسموع ثم جمعها دون تعديلات كبيرة في كتاب من الأهمية بمكان لما فيه من رؤى نقدية ونظرات تفرد بها الدكتور الأشتر.
وهذا الكتاب على قيمته طبع جزآن منه في دار الرضا للنشر بدمشق وحالت الظروف الاقتصادية القاسية للنشر الخاص دون نشر الجزء الثالث الذي نشر في دار أخرى، ما أدى إلى فقدان الكثير من الأهمية لعدم اكتماله بثوب واحد.

علاقاته الأدبية وغناها
من حسن الحظ أن الدكتور الأشتر اختار للماجستير وبإشراف محمد مندور بحثاً عن الأدب المهجري، ولم يكتف بالكتابة، بل راسل وحاور، وبما أنه كان شخصاً منظماً، فقد احتفظ بكل ما لديه من أوراق وحوارات ومراسلات، فقدم لنا هذه الشخصيات الأدبية كما لا يمكن أن يقدمها سواه، فهو المعاين للنص، المعايش للأديب أحياناً، لذلك كانت أبحاثه شكلاً مختلفاً وموثقاً علمياً..
فانظر إلى ما ينقله عن ميخائيل نعيمة وهو غير موجود إلا في حديثه له:
«ما الأديان- على كل ما فيها من تفاوت في الطقس والعقيدة- غير وعود للإنسان بالانعتاق من ربقة الأرض وشهواتها، ومن الموت ومخاوفه وأوجاعه».
«المحبة قوة شاملة لا تقبل الحصر والتجزئة».
«الكون كالحب وحدة لا تتجزأ، فمن أحبه بكامله كان حبه كاملاً، وكان مبصراً أبداً، ونحن لو كان لنا أن نبصر كل ما في الكون من نور الحب لما أبصرنا غير الجمال، لأن عالم الحب لا مجال فيه للمتناقضات».
وفي حديثه عام 1960 مع عبد المسيح حداد صاحب مجلة السائح يتناول الأشتر كتاب نعيمة عن جبران وما لقيه من نقد قاس ومن حداد نفسه، ومما جاء وفيه شهادة ضمنية لنعيمة..
«كان بين جبران ونعيمة تنافس أدبي محمود، ولكن كتاب نعيمة عن جبران أسيء فهمه، وكنت قاربت أن أشترك مع نعيمة في كتابة كتابه في نيويورك ثم انفرد هو به، والحق أنه كان يستطيع أن يعرّض ببعض المواقف في حياة جبران دون أن يؤذيه بالتصريح، لكنه لم يفعل لأنه ناقد صارم.
مات جبران وقراؤه لا يعرفون شيئاً عن حياته الخاصة، وهم أحبوه من خلال ما كتب.. وقد كان لجبران مثل ما للناس جميعاً من نقائص، ألا تظن أنه إنسان؟ فهو إذاً يحب ويكذب ويخدع ويسكر. إن الأميركان يذكرون لموتاهم الحسنات والسيئات، ولكننا نحن هنا في الشرق نجعل موتانا كلهم ملائكة، من هنا كان غضب بعض الغاضبين على نعيمة..».
ومراسلات د. الأشتر تحفظ لنا بعض الوثائق، وها هو جورج صيدح يقول في إحدى رسائله له:
«الرابطة القلمية أسطورة لا تصمد أمام التاريخ إلا بثلاثية من أركانها: جبران ونعيمة وأبو ماضي، الأول خلعوا عليه لقب عميد الرابطة مراعاة لشعوره الرقيق لكونه كالولد الصغير يتأثر لكل كلمة انتقاد، ويبكي، والثاني المحرك العامل الوحيد الذي يبشّر باسم الرابطة وينشر الدعاية لها، أما الثالث فقد خالفت دربه دربها من الوجوه كافة وقلما حضر اجتماعاتها، ولكنهم كانوا يحشرون اسمه بينهم لاكتساب ثقة الجمهور..».
ما قاله صيدح في هذا الجزء من الرسالة كما دونها واحتفظ بها الدكتور الأشتر، ونشرها في كتابه (أوراق مهجرية) يعطي إجابات حقيقية لكل راغب، وقد وجدت إجابات طالما تنازعتني أسئلتها عن الرابطة وطبيعتها.
والأمر في هذه المراسلات لا يقف عند حد معين، ويذكر للدكتور الأشتر أنه لم يبخل على قارئه، ولا على أدبائه..
وعجيب أمر الكثيرين ممن يدرسون حياة الأدباء، فيكتفون بجانب دون آخر، وها هو جورج جريج الدكتور يعلق على ما جاء في كتاب الأشتر (النثر المهجري.. إن جبران لم يكن ينتسب إلى الماسونية مدة وجوده في بوسطن كما جاء في مقال الأب لويس شيخو اليسوعي).
فيقول: «القول: إن جبران لم يكن عضواً في جمعية الحلقات الذهبية مخالف للواقع جملةً وتفصيلاً، فجبران كان من مؤسسي وأعضاء جمعية الحلقات الذهبية، الجمعية التي لم تكن على شيء من التكتم والسرية ولا سياسية.
ولم يكن مقصدها تحرير منطقة ما من النير العثمانية، بل كانت جمعية أدبية ثقافية غايتها إظهار السوريين للأميركان بأنهم من الشعوب الراقية السامية» في هذا النص يدافع جريج عن جبران لكن لا يخفي الحقيقة، ويقدم الرؤية العربية تجاه الأميركان منذ ذلك الوقت..
وأظن أن الأيام القادمة ستنصف أستاذنا الدكتور الأشتر الذي سيظهر مستقبلاً أنه الكاشف الحقيقي للأدب العربي في المهجر، وأن ما قدمه من أبحاث ودراسات يعدّ في مكان الذروة بشهادة ميخائيل نعيمة وسواه.

الأشتر والحياة العامة والسياسة
يعترف الأشتر في سيرته المحفوظة لدي بخط يده أنه ما أحب على طريقة المراهقين، وأول حب يذكره لزميلة في الجامعة، لكن ارتبط بأسرته الأولاد والأحفاد، وأخلص للتأليف في الكتب الدراسية والعامة.
وترك الأشتر نفسه للمحاضرة على المنابر وفي المنتديات لأنه يجد نفسه في هذه الأنشطة.
أما السياسة، فقد كتب يقول «أكره العمل في الميدان السياسي المكشوف لأني أخاف غدراته، وإن كنت أحمل آلام أمتي وآمالها في القلب، على أني كتبت كثيراً، فيما يحوم من حوله، تلميحاً في أكثر الأحيان، وتصريحاً في أقلها..».
أزعم أن الأستاذ الدكتور عبد الكريم الأشتر يمثل نموذجاً مهماً للأستاذ والأديب الموسوعي المتنور والمتواصل مع المحيط دون كلل أو ملل، وأعرف عنه تقديره للجميع، وعندما كتبت عنه مقالة في السيرة (كما عرفتهم) تعامل الدكتور الأشتر مع المادة بروح العلماء ولم يعترض على أي شيء. وبرحيل الدكتور الأشتر خسرت الساحة الثقافية والأكاديمية واللغوية علماً من الأعلام الذين يتحاملون على أنفسهم ولا يقبلون أن يتعاملوا مع الناس إلا بإحساس عال.

من مؤلفات د. الأشتر
- التعريف بالنثر العربي الحديث وفنونه, معالم في النقد العربي الحديث, الرواية في أدب النكبة, شعر دعبل بن علي الخزاعي, دعبل بن علي شاعر آل البيت, تحقيق كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ, أوراق مهجرية, ألوان, فواصل صغيرة, ديوان العرب.

الأشتر وفاجعة الصمت
ثلاثون عاماً بالتمام والكمال مرت على لقائي الأول بأستاذي العلامة الدكتور عبد الكريم الأشتر رحمه الله في جامعة دمشق، كنا ندخل إلى قاعة الدراسة والمحاضرة ويدخل بعدنا مباشرة الدكتور عبد الكريم ليأخذ مقعده ويبدأ رحلة في التعليم والمحاضرة لم تشبه غيرها من قبل، ولن تقترب من أسلوب آخر لاحقاً.. وأذكر لأستاذنا في ذلك اليوم أنه قبل أن يسجل عدد من الطلاب معه حلقات بحث، وبسبب الوقت وضيقه وهيبة الدكتور اقتصر العدد على خمسة طلاب كنت واحداً منهم..
اخترت موضوعاً عن أعلام عصر النهضة العربية (جمال الدين الأفغاني- محمد عبده) وفي أثناء تنقيري في المصادر والمراجع عثرت على خطب لهما في كتاب عمر الدسوقي عن الأدب الحديث، وفي الخطب كلام يحتاج إلى نقاش، ومنها أن السيد جمال الدين الأفغاني يخاطب المصريين منبهاً من المحتلين لهم عبر التاريخ، والعرب والمسلمون ضمن هؤلاء المحتلين.. وعندما عرضت الأمر على أستاذي أبدى استغرابه وطلب مني المرجع، ولا أملك إلا أن أكبر هذا الأستاذ العلم فقد قال لي: هذا الكتاب لدي وقرأته مرات عديدة، لكنني لم أتوقف عند هذه العبارة في كلمة الأفغاني، وشجعني منذ ذلك اليوم على البحث والدراسة كما لم أكن أتوقع..
وحال العمل والسفر بيني وبين أساتذتي ومنهم الدكتور الأشتر، الذي اعتزل وتقاعد في حلب ولكنني كنت أتواصل معه من خلال كتاباته في مجلة المعرفة وغيرها من الدوريات. وفي محنة أستاذي الدكتور الراحل نعيم اليافي رحمه الله كنت حريصاً على التواصل معه لحب واختلاف واتفاق، ولاحترام شديد أحتفظ به لأستاذي اليافي.. زرته في بيته في حلب محطة بغداد، وفي زيارة إلى حلب لم يكن الدكتور اليافي في بيته، ولم تكن السيدة أم حسن زوجه موجودة، فاهتديت إلى الدكتور الأشتر ولقيته في حلب ليخبرني بأنه في طريقه لزيارة الدكتور اليافي في المشفى.
وفي مشفى فريشو في حلب كنت ألتقي الدكتور اليافي، وغالباً ما كان ذلك بمرافقة الدكتور الأشتر، وهنا أكبرت أستاذي الدكتور الأشتر على تواصله الدائم مع الأصدقاء والزملاء، وإن لم يكونا على توافق تام في الآراء والأفكار، وما أزال أحتفظ بأطيب الذكرى لتلك اللقاءات التي غالباً ما كانت تنتهي بجلسة هادئة في مكتب الدكتور الأشتر في المشفى الذي يقوم عليه أبناؤه وبناته، وعبارته: الله يرضى عليهم تركو لي هذا المكتب لأكون معهم.
حاولت تعميم أبحاث أستاذي الأشتر وإخراجها من الأدراج فتشرفت بطباعة كتاب (ألوان) وكتاب (ديوان العرب 1-2) ولم أتمكن من متابعة خدمة الثالث لأسباب اقتصادية تتعلق بالناشر.. كما لم أتمكن من إقناع أستاذي بوجهة نظري ونظر الناشر، فخسرت تواصلاً مهماً مع واحد من أحب أساتذتي إلى روحي وفكري.. سألني أستاذي الدكتور عبد النبي اصطيف عن مآل الجزء الثالث، فسألته عن أخبار أستاذي الذي لم أعد أحصل على أي من أخباره!!
لم يكن الأشتر إلا علماً وأستاذاً وهادياً لطلابه ووطنه في كل ما قدمه وكتبه وحاضر به.. وكما يفعل العظماء، لم يحتمل الأشتر رؤية وطنه وسط تجاذبات فآثر الرحيل بهدوء وصمت.. ومع صمته كان رحيله فاجعة الصمت والألم المؤرق..

اسماعيل مروة

المصدر: الوطن

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...