الشرق يطرد مسيحييه والسّوريّون يتابعون مسلسلَ الهجرة

12-08-2015

الشرق يطرد مسيحييه والسّوريّون يتابعون مسلسلَ الهجرة

«كلّما حدثت حربٌ في بلدٍ عربيّ، نقصَ عدد مسيحييه». هذا عرفٌ لا يحتاجُ إلى أكثر من مراجعةٍ تاريخيّة بسيطةٍ لإثباته، لكنّه يحتمل استفهاماتٍ كثيرة تتعلّق بمفهومِ الانتماءِ لدى مسيحيّي الشّرق. هل تغوّلت الأسلمة السياسية في مجتمعاتنا إلى درجةٍ جعلتِ الأرض تضيق بالمسيحيين؟ هل هم، أي المسيحيّون، مستضعفون إلى درجةٍ تجعلهم يجدون في الغرب، الّذي احتلّ أوطانهم لقرون طويلة، محجّاً يهاجرون إليه كلّما أطلقت في بلادهم رصاصة؟
 هزّت الحرب الأهليّة، الّتي استمرّت لعقدٍ ونصف العقد، كيان لبنان، وأدّت إلى هجرة طيفٍ لا بأس به من مسيحييه، فتقلّصت نسبتهم إلى 40 في المئة من التعداد السكّانيّ العام (بحسب تقريرٍ نشرته وكالة المخابرات المركزية الأميركية)، وظلّ لبنان، برغم ذلك، البلد العربيّ الوحيد الّذي يمنح المواطن المسيحيّ حقوقه كاملةً ويجيز له، دون سواه، وبموجب أحكام اتفاق الطائف 1989، أن يشغل منصبَ رئيس الجمهورية وهو التفرّد الّذي لم تُجزه الدّول العربيّة الباقية.
لم يسلَم المسيحيّون العراقيّون من داءِ الهجرة، فالحروب المتلاحقة الّتي هزّت بغداد دفعت مسيحيي الرافدين إلى مغادرة وطنهم والالتحاقِ بموجاتِ المغتربين الّتي استوطنت أوروبّا. وبحسب تصريحٍ لمسؤول المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري، فقد انخفض تعداد المسيحيين في العراق (من 1,500,000 نسمة العام 2002 إلى 300,000 مسيحيّ آخذين بالتناقص في نهاية العام 2013. يُمكننا أن نعزوَ هذا الانخفاضَ إلى الفوضى الّتي رافقت الاحتلال الأميركيّ للعراق، حيث ترافق سقوطُ بغداد مع انهياراتٍ وتداعياتٍ حوّلت العراقَ إلى شبه بلدٍ بشبه جيشٍ وشبه حكومةٍ وشبهِ موارد. ونذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، استهدافَ الكنائسِ بعيد سقوط نظام «البعث» حيث تعرّضت أكثر من 70 كنيسة عراقية لاعتداءاتٍ ممنهجةٍ بين عاميّ 2003 و2012 كان أبرزها وأكثرها تأثيراً في الوعي الجمعي المسيحي المجزرة الّتي قام بها مسلّحو «الدولة الإسلاميّة في العراق» العام 2010، حيث قاموا بتفجير أنفسهم حين حاولت قوات الشرطة العراقية اقتحام كنيسة سيدة النجاة في الكرادة لتحرير رهائنَ احتُجزوا فيها، وحصدت هذه العملية أرواح أكثر من خمسينَ مسيحياً عراقياً دفعةً واحدة.
يُدرك الباحث في التاريخ الحديث لمصر أنّ أقباطها كانوا، بصورةٍ عامّة، من أغنياءِ البلاد وكبار مُلّاكها، الأمر الّذي جعلهم أكثر المتضرّرين من «ثورة يوليو» الّتي قادها اللواء محمّد نجيب العام 1952، قبلَ أن ينقلبَ عليه جمال عبد النّاصر ويضعه في الإقامة الجبريّة، حيث رفض (والحديث هنا عن عبد الناصر) تسليم السّلطة إلى كتلةٍ مدنيّة بعيد إسقاط الملكيّة المتمثّلة بشخص الملك فاروق الأوّل. سارع عبد النّاصر إلى تأميم وتمصير التجارة والصناعة وأنزل المُلكيّات الزراعية من عروشها متسبّباً بإفقار كثيرٍ من أقباطِ مصر الّذين هاجروا إلى أوروبا على شكلِ موجاتٍ، استمرّت لاحقاً لمسبّبات كثيرة، وكان آخرها العام 2011، حيث فرّ أكثر من 10,000 قبطيّ خارج البلاد خوفاً من ممارسات الإسلاميين المتشدّدين وذلك بعدما جاهرَ كثيرٌ من الدعاة بتكفير المسيحيين وطالبوهم بدفع الجزية. هذا كلّه دفع البرلمان الأوروبيّ، العام 2011، إلى تبنّي قرارٍ اتّهم فيه مصر «باضطهاد السكّان المسيحيين».
خارج مربّع الدول السابقة الذّكر، مُضافاً إليها فلسطين المُحتلّة وسوريا، لا يجد المسيحيّون مستراحاً لهم في البلاد العربية. فلا حضور مسيحيا في الخليج، مع استثناءاتٍ خجولةٍ تخصّ الإمارات والكويت وسلطنة عُمان. أمّا السعودية، فقد كانت وما زالت تكفر بالوجود المسيحيّ على أراضيها، حيث تمنعُ قوانين البلادِ تشييدَ الكنائس وتحاصر المسيحيّ في عمومِ محافظات المملكة وخاصّة في مكّة الّتي يُحرّم دخولها لغير المسلمين.
حربٌ جديدة في الشرق تدور رحاها اليوم في سوريا، نجم عنها، كما حصل ويحصل على الدوام، هجرةٌ لمسيحيي البلادِ الّذين توافدوا إلى أوروبّا وأميركا خوفاً من الموت الّذي يترصّدهم كلّ يومٍ ألف مرّة. يُشكّل المسيحيّون أقليّة دينية في سوريا، وبرغم كون الدستور قد حجب عنهم بعض الحقوق حين حصر دين رئيس الجمهوريّة بالإسلام (المادة 3/ الفقرة 1) واعتبر الفقه الإسلاميّ مصدراً رئيساً للتشريع (المادة 3/ الفقرة 2)، إلّا أن السوريّ المسيحيّ لا يعاني من تضييقات تُذكر في وطنه، حيث تصونُ الدولة ممارسة الشعائر الدينية بما فيها من صلواتٍ وطقوسٍ ومظاهر احتفاليةٍ وكرنفالات، لكنّ هذا كلّه لم يكن كافياً لوقف هجرة المسيحيين من البلاد. القولُ السابق يشكّل جزءاً من مشهدٍ واسع ولا يصحّ تعميمه على كامل المسيحيين السوريين الّذين بقي طيفٌ منهم داخل سوريا يعيش يوميّاتها الساخنة، ولم يتردّد بعضُ هذا الطيف في الالتحاق بالجيش السوريّ الّذي يخوضُ حربه الأقسى منذ تأسيسه (1 آب 1946). لكنّ واقع الحال يقول إنّ «الثورة السورية» تسبّبت بهجرةِ عددٍ لا بأس به من الأقليّات، ذلك أنّها لم تحمل تطميناً واحداً للمسيحيين الّذين لم يترددوا، والاستثناءات هنا حاضرةٌ على قلّتها، في الالتفاف حولَ الدولة الّتي وجدت نفسها منذ تشكيل «الجيش السوري الحرّ» (29 تمّوز 2011) تقاتل كتائب وألوية يكاد لا يحمل واحدٌ منها اسماً يُدلّل على «سوريّةِ» الحراك أو مدنيّته. ولم يحتجِ الأمرُ إلى وقتٍ كثيرٍ قبل أن يفهم، من أرادَ أن يفهم، أنّ أسماءَ الكتائب والألوية يجب أن تكون إسلاميّة جداً حتّى تتناسب مع مصادرِ تمويلها. هذا كلّه كان «شهرَ عسلٍ عسكريّا» إذا ما قيسَ بالوقائع الّتي رافقت دخول تنظيم «داعش» إلى محددات الصراع في سوريا، حيثُ لم يتوانَ التنظيم عن تكرارِ سيناريوهاتٍ سابقةٍ كان قد طبّقها على مسيحيي العراق، فعمد إلى تخيير مسيحيي سوريا بين دفع الجزية أو الموتِ بحدّ السّيف، الأمر الّذي ضاعفَ مبرّرات هجرة المسيحيّ السوريّ نحو بلادٍ تقيه جرائمَ هذا الوحش «الإسلاميّ».
قد نقترب من الصّواب أو نُطابقه حين نقول إنّ الأيديولوجية العقائديّة تُشكّل أولوية الانتماءِ لدى السواد الأعظم من المشرقيّين. هذا ما أثبتته الحروب المتتابعة الّتي مرّت على المنطقة. وضمن هذا النّطاق نستطيع أن نقدّم واحداً من الأسباب الّتي تُبرّر لهاث المسيحيين خلفَ الهجرة إلى أوروبا. فالمهاجرون يشعرون أنّهم يستوطنون بقعاً آمنةً تكفل حريّة المُعتقد حيث لا سطوة للمتشدّدين الإسلاميين عليهم، ناهيكَ عن الفوارق العلميّة واختلافِ قيمةِ المواطنة بين عمومِ الشرق وعموم الغرب. هذا كلّه يُقال على سبيل تشخيصِ أسباب الهجرة. أمّا عن نتائجها، فإنّ القول بأنّ المسيحيين هم ضامن أساسي لاستمرار ما تبقّى من حضارةٍ في هذا الشرق، وبرغم كونه قد يستفّز الكثيرين من القرّاء الّذين سيفّسرون الأمر على أنّه انتقاصٌ من قيمة غيرِ المسيحيّ في بلادنا، إلّا أنّه يُحاكي الحقيقة بصورةٍ نستطيع أن نبرّرها حين نقول إنّ المسيحية اقتربت من المدنيّة المُشتهاة بعدما حيّدت المؤسّسة الكنسيّة عن الشُغل السياسيّ. هذا الطّلاق قطعَ الحبل السريّ بين الكنيسة وجرائمها الّتي ارتكبت مراراً باسم الدين، وجعل أغلب المسيحيين، الّذين يُشكّلون نواة أوروبا المزدهرة اليوم، صمّاماً لأمان الشرق الّذي لمّا يكتفِ من «عرسِ» الموت بعد. ربمّا لن يتمكّن أحدهم من إثباتِ الافتراضِ السّابق خارج نطــاق التجربة، لكنّ هذه التـــجربة، إذا قُدّر لها أن تطبّق، فإنّها سوف تحيل الشـــّرق بعامّة، وســــوريا بخـــاصّة، إلى كتلةِ رمادٍ ودمٍ لا حياة فيها.

رامي كوسا

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...