رمضان ولقاء المعاني بدل صراعها

20-06-2015

رمضان ولقاء المعاني بدل صراعها

انبلج رمضان الكريم في مبرّات الخير، وأهل الكتاب ينتظرونه معًا، فهو يحمل الله إلى القلوب في كلمات تنزّلت في جوف التاريخ، فسكنته في دنيا العرب، لتمتدّ إلى القلوب فتحيا في بشريّة يشاؤها الله وجهه السّاطع.
ليس المسلمون وحدهم في شوق لحلوله، بل معظم من ولدوا من الله، أأمسكوا عن الطعام خلال هذا الشهر أو لم يمسكوا. وقد تعلمنا في لحظات الحوار الذي طاب لكثيرين أن يطلقوه ويقيموا في مفرداته بين المسيحيين والمسلمين، أنّ المسيح كلمة الله وفي التعبير القرآني "قول الحقّ"، هو قرآن المسيحيين إن فهمنا أنّ القرآن الكريم هو كلمات منزلة. الله يتحرّك واحدًا في الكلمة المتجسّد أو الكلمات المنزلة، وهو لا يتمزّق كما شاءه كثيرون من الحروفيين الطالعين من الرؤى الغربيّة في صراعاتنا على الأرض. الصورة تلك وردت في فكر صموييل هانتنغتون، المتدفّق من كتابه "صدام الحضارات وظهور العالم الجديد"، فجعل من صدام الحضارات لبوسًا لصدام الأديان، وأكّد بنوعيّة هذا الصدام على تمزّق الله وموته في التاريخ متماهيًا بتلك الرؤية مع فرانسيس فوكوياما.
في محاضرة ألقيت مرّة، طرح سؤال كبير وجوهريّ، يجدر طرحه ونحن في ظلال الموت وظلمته، مع انغراس القوى التكفيريّة في المدى العربيّ، "هل الله يتصارع مع نفسه؟ إذا كان الله يتصارع مع نفسه فهو إله ممزق، وإذا كان قد تمزّق يكون قد مات، وإذا كان قد مات يكون التاريخ كلّه قد مات؟" سياق الكلام عبثيّ. وما يحدث في الإقليم الملتهب من سوريا إلى العراق فاليمن وفي معظم دنيا العرب، ليس سوى التجسيد المطلق لهذا السياق العبثيّ عينًا. الخطورة الفلسفيّة والروحيّة-الدينيّة والثقافيّة، أنّ هذا التراب العربيّ التهب بتلك العبثيّة المحتشدة عناوينها بمعايير الصراع الدينيّ والذي آل في الآونة الأخيرة إلى صراع مذهبيّ وبنيويّ.
أهل الكتاب وإن اختلفوا في الأسس الفقهيّة واللاهوتيّة، كما هو بين المسيحيين والمسلمين في مسائل عديدة كألوهة المسيح وصلبه وموته وقيامته أو التثليث، وهم في العمق اللغويّ غير بعيدين عنه، أو كما هو أيضًا بين السنّة والشيعة بالعودة إلى الخلافة والإمامة ومقتل عليّ والحسن والحسين. في مواقع عديدة، إلاّ أنّهم أكرموا ويكرمون الله إن ذاقوا وحدانيّته وحريّته في أن يترجم نفسه في اللغة التي يشاؤها، من دون أن يحدّه أحد أو يحدّد حضوره الأولي والتاريخيّ. لقد قال الإمام عليّ بن أبي طالب، في بيان رائع: "أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة: فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه..." وبغضّ النظر عن طرائق قراءته من بعضهم، فإنّ نصًّا مسيحيًّا آخر كتبه قديس عظيم هو باسيليوس الكبير (+ 379) قال فيه عن الله: "غير الموصوف غير المدرك الكائن هكذا هو هو..." ما يهمّ فهمه بأن تلك صفات جامعة ويمكن التماسها في أدبيات التواصل بين المسيحيين والمسلمين، في فهم الذاتيات الخاصّة، والخلوص منها نحو الفضاء المشترك الجامع بيننا.

الصراع الدائر في الإقليم الملتهب، سالب بجوهره لتلك الحقيقة التي نشأنا عليها بدءًا من اللقاء الاجتماعيّ بلوغًا نحو المسالك الحواريّة العميقة. فمن عاش في المدن المختلطة كبيروت وطرابلس وصيدا وصور، أو في دمشق وحمص وحلب في سوريا، ذاق تلك الخصوصيّات الفريدة وقد اشترك في تأليفها والتأسيس عليها مسيحيون ومسلمون، من الأعياد إلى الحياة بتفاصيلها التجاريّة والاقتصاديّة والثقافيّة... كان ذلك مبعث سرور وحبور لكثيرين، وفي عصر التمزّق الذي نعيشه قد غدا توقًا مع تدمير مناطق كبرى كحمص وحلب... وخشينا غير مرّة على طرابلس وصيدا وقد رسمت الأعياد فيهما حياة مشتركة وأجواء تشاركيّة، ما كان هذا الأمر ليكون لولا المشاركة المسيحيّة الإسلاميّة في معيّة واحدة.
سلب تلك الحقيقة المشتركة، والتي نشأ عليها المؤمنون بالله الواحد، لا تضع العلاقة المسيحيّة-الإسلاميّة في أزمة كيانيّة أو وجوديّة، بل تضع الإسلام كلّه والحقيقة الإسلاميّة برمّتها في أزمة وجود وكيان. ذلك أنّ الإسلام ليس كمًّا بل النوع والمعنى. سلب المعنى القرآنيّ من السياق الإسلاميّ هو أخطر ما يعانيه الإسلام، وهو ما يجعل المسلمين إن شاؤوا إسلامهم خطاب الله في الوجود في مواجهة مع السالبين، الممعنين قتلاً وتدميرًا وتشريدًا.
المفارقة أنّ معظم الفلاسفة المسلمين الليبراليين الذين رأوا خطورة ما يعانيه الإسلام في علاقة المعنى مع الحياة، مع الناس، مع الأنظمة السياسيّة مع القوميّات. وحين شخّصوا المرض ووضعوا إصبعهم على الجرح تمّ نفيهم أو قتلهم أو تطليقهم من زوجاتهم، كما حصل على سبيل المثال لا الحصر مع نصر حامد أبو زيد، الذي رأى خطورة ما يعانيه الإسلام بجمود المعنى وعدم حراكه ورنوّه إلى المستقبل. ظنّت القراءة بأنّ جمود المعنى يفقد الإسلام خطاب الوجود، ويجعله إسلامًا حروفيًّا وقابعًا في ثقافة الحروف المغلقة وفيها يبيت الإنسان مقيّدًا خارج الضياء، فيختنق حتى الموت. وجمود المعنى يفقد الإسلام بهاءه القرآنيّ المتحرّك في الوجود، ويبتر تلك المساحة المشتركة الجامعة بين أهل الله وخلاّنه. خطورة المنظمّات التكفيريّة المتغلغلة في المشرق العربيّ، والمتبنّاة من بعض الدول العربيّة والإقليميّة، بأنّها تحوي تلك المصطلحات الجامدة، وقادرة على استغلال جمود المعنى للقيام بعمليّة التأويل بالطريقة التي تحلو لهم. ويقول بعض المفكرين المسلمين، بأنّ خطورة الوضع الظاهر عند تلك التنظيمات يتبلور، ومن خلال إرادتهم، بتراجع الإسلام إلى نمطيّات جاهليّة، تفقد الإنسان إنسانيّته، والمرأة حضورها، وتجعل الإسلام كلّه في مواجهة كاملة مع الحياة والوجود، مع الغرب والشرق، فبدلاً من الولوج نحو حوار المعاني نكون قد دخلنا في مفهوم هؤلاء في صراع المعاني. ويوصّف هؤلاء بأنّ النظام السياسيّ بحسب عقيدة القوى التكفيريّة هو الحالة الأخطر في المديين السياسيّ والإسلاميّ، والتي بدورها تستوجب المواجهة الكاملة. ويتطلّع هؤلاء المفكرون إلى المراجع الإسلاميّة في العالم كلّه ومنها إلى مرجعيّة الأزهر الشريف، وهو المرجع الدقيق الذي يملك القدرة التوظيفيّة بالرؤى الدينيّة والسياسيّة والفقهيّة على حياكة المواجهة وأخذها نحو سياقات واضحة مع هؤلاء، وقد شجب الأزهر غير مرة كل عنف صادر عن تلك المنظمات التكفيريّة، وكانت قمّتها حرق الطيار الأردنيّ منذر الكساسبة.
ويتطلّع كثيرون إلى النموذج المصريّ الذي أجهض "الإخوان المسلمين" وأسقطهم من الحكم، وأعاد مصر إلى وجودها الطبيعيّ في المدى العربيّ والإسلاميّ، ويعتقد هؤلاء أنّ التيارات الإسلامية السالبة للمعنى الإسلاميّ المتحرّك أو الحركيّ، ستتدحرج بسبب لفظها المطلق من جوف المجتمعات المركّبة أو المتطورّة بالعمق الليبراليّ، أو الدينيّ-الليبراليّ. العمليّة التي يقودها التكفيريون، تجسّد بإطار إخراج الإسلام من المعنى الكامل، ومن التراث الكليّ كما كتب المفكر محمد أركون، وقد حذّر غير مرّة في كتابين له هما الإسلام وأوروبا، والإسلام والغرب من سلب المعنى الكامل للإسلام وسكبه في حروفيّة مطلقة وقاتلة.
صوم رمضان مساحة للتفكير وليس للتكفير. الصراع هو هنا بين التفكير والتكفير. والمسيحيون المحبون للإسلام يتطلعون إلى ثورة المعنى في الإسلام، فتعيده إلى سياقه الحقيقيّ المتجّه إلى فضاءات مشتركة نعيشها معًا في الطاعة الكاملة لله ومحبّة بعضنا بعضًا. التوق في رمضان عند من يمسك عن الطعام أو لا يمسك أن نبني معًا مدينة السلام لنذوق بهاء الله في عناق المعاني، وفي التلاقي المطلق بين كلمته المتجسّد وكلماته المنزلة، فيقبل العيد وقد بتنا في مبرّات الخير والبرّ والمحيّة وكلّها تقول بوجود الله فينا بل وجودنا في الله الواحد.

جورج عبيد

المصدر: النشرة الالكترونية اللبنانية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...