مستقبلنا ما بعد البشري

25-01-2007

مستقبلنا ما بعد البشري

يعالج هذا الكتاب التداعيات السياسية والأخلاقية لتطور التقنية في المجالات الحيوية وفي الهندسة الوراثية، وما يمكن للدول والعالم فعله تجاه الأخطار المتوقعة بسبب الاستخدام الخاطئ والإرهابي لمثل هذه التقنية، والمؤلف هو فرانسيس فوكوياما، أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة جون هوبكنز، وصاحب الأطروحة المشهورة "نهاية التاريخ"
أدت التقنية المتطورة وصعود العنف إلى ظهور تحدي يتمثل في أن أخطر تهديد تمثله التقنية الحيوية المعاصرة هو احتمالية أن تقوم بتغيير الطبيعة البشرية، وبالتالي تنقلنا إلى مرحلة "ما بعد البشري" من التاريخ، ما الذي يجب علينا فعله إزاء التقنية الحيوية التي ستخلط في المستقبل بين الفوائد العظيمة المحتملة وبين تهديدات قد تكون مادية واضحة، أو روحية وخفية؟

الإجابة واضحة علينا أن نستخدم سلطة الدولة لتنظيمها، وإذا ثبت أن ذلك يفوق القدرة التنظيمية لأية دولة وطنية منفردة، فلا بد من تنظيمها على مستوى دولي.

علينا من الآن أن نبدأ التفكير واقعيا حول كيفية بناء المؤسسات التي يمكنها التفريق بين الاستخدامات الجيدة والسيئة للتقنية الحيوية وتطبيق هذه القوانين بفعالية، سواء على المستوى الوطني أو الدولي.

إن فكرة إيقاف تقدم التقنية أو التحكم فيها هي ببساطة فكرة خاطئة، فنحن في الواقع نتحكم في جميع أنواع التقنيات، وفي العديد من أنماط البحث العلمي، فلم يعد الناس أحرارا في إجراء تجاربهم على تطوير أسلحة بيولوجية جديدة، بأكثر من حريتهم في إجراء التجارب على البشر دون الحصول على موافقتهم الناتجة عن إلمامهم التام بفحوى التجارب.

وحقيقة أن هناك بعض الأفراد أو المنظمات التي تنتهك هذه القوانين أو وجود دول لا توجد فيها مثل هذه القوانين أو لا تؤخذ على محمل الجد ليست مبررا بعدم وضع تلك القوانين من الأساس.

ومن المهم وضع بعض السيناريوهات لأنماط المستقبل المحتملة التي تقترح عددا من النتائج التي قد يكون بعضها مرجحا، وربما بدأ ظهوره في أيامنا هذه، بينما قد لا يتحقق البعض الآخر أبدا في نهاية المطاف، فقد حققت التقنية الحيوية الحديثة بالفعل تأثيرات سيكون لها عواقب على السياسة الدولية في الجيل التالي، حتى لو فشلت الهندسة الوراثية في إنتاج الطلب قبل ذلك.

وقد أثار تشارلز موراي وريشتارد هيرنشتاين في عام 1994 عاصفة صاحبت نشر كتابهما "منحنى الجرس" ذلك الكتاب المكتظ بالإحصائيات ويستند بقوة إلى مجموعة ضخمة من البيانات في المسح الوطني الطولي للشباب.

ويطرح الكتاب اثنين من المزاعم المثيرة للجدل، أولهما أن الذكاء صفة موروثة إلى حد بعيد، والزعم الثاني فهو الحجة التي ساقاها عن أن الأميركيين من أصل أفريقي يحرزون درجات أقل من البيض بحوالي انحراف معياري واحد في اختبارات الذكاء، وليس عجبا أن يتسبب كتاب منحنى الجرس في مثل هذا الجدل، وقد اتهم المؤلفان بالعنصرية والتعصب.

لكن الكتاب لم يعد كونه القصف الأخير في الحرب المستمرة بين أولئك المجادلين بأن للذكاء درجة عالية من قابلية التوريث، وأولئك الذين يجادلون بأن الذكاء يتشكل بدرجة كبيرة بفعل البيئة، وكثيرا ما يتعاطف المحافظون مع الحجج القائلة بوجود فروق بشرية طبيعية لأنهم يرغبون في تبرير التراتبية الاجتماعية القائمة، وخصوصا فكرة أن هناك فروقا طبيعية بين الجماعات البشرية.

أما إذا كان هناك شيء مثير للجدل السياسي أكبر من ربط الوراثة بالذكاء، فسيكون هو الأصل الوراثي للجريمة، وقد كان لمحاولات رد السلوك الإجرامي إلى علم الأحياء تاريخ طويل وإشكالي مثله في ذلك مثل علم القياس النفسي.

كما تحملت الأبحاث التي أجريت في هذا المضمار نصيبها من المنهجية الرديئة، كان أشهر العلماء السيئي السمعة في هذا التقليد هو الطبيب الإيطالي سيزار لمبروزو، الذي قام في أوائل القرن العشرين بفحص بعض المساجين الأحياء والأموات.

ووضع نظرية تقول بوجود نمط جسدي إجرامي يتسم بجبهة منحدرة ورأس صغير، إضافة إلى بعض الخصائص الأخرى، وتحت تأثير داروين اعتقد لمبروزو أن "النماذج" الإجرامية ما هي إلا ارتدادات إلى مرحلة مبكرة من التطور البشري تمكنت على نحو ما من البقاء حتى وقتنا الحاضر.

جاءت النظريات الحديثة حول الأصول البيولوجية للجريمة من المصدر نفسه الذي نبعت منه نظريات الوراثة والذكاء، وهو علم الوراثة والسلوك، وقد نتج عن عدد من الدراسات التي أجريت على التوائم الأحادية الذين ربُّوا منفصلين، أو غير الأقارب الذين تربُّوا معا، لتأكيد وجود ارتباط بين الجينات والسلوك الإجرامي.

بطبيعة الحال، يمكن للأفراد التحكم في دوافعهم، وخصوصا إذا تعلموا العادات اللائقة عند العمر التطوري الصحيح، ويمكن للمجتمعات بدورها أن تفعل الكثير لتقوية التحكم الذاتي، كما يمكنها مكافحة الجرائم ومعاقبة مرتكبيها إذا فشلت جهود ضبط النفس.

وأيا كانت العلاقة الدقيقة بين الجينات والبيئة وأثرهما في الجريمة، فمن الواضح أن أية مناقشة عقلانية عامة لهذه القضية ستكون أمرا مستحيلا من الناحية السياسية في الولايات المتحدة الأميركية المعاصرة ويرجع السبب في ذلك إلى حقيقة أن الأميركيين الأفارقة ممثلون بطريقة غير متناسبة في مجتمع الجريمة الأميركية, ولذلك فإن أي اقتراح بوجود مكون وراثي للجريمة سيؤخذ على أنه يعني ضمنيا أن السود مؤهلون وراثيا بصورة ما لأن يكونوا مجرمين.

وهناك مجال ثالث كان لتراكم المعرفة الوراثية فيه مضامين سياسية مهمة، وهو النشاط الجنسي ربما يكون الأمر كذلك مستقبلا.

فقليل من الناس سينكر أن للنشاط الجنسي جذورا بيولوجية قوية، كما أن قضية تأثر الكثير من الفروق بين الذكور والإناث بالعوامل البيولوجية أكثر من البيئة المجتمعية تعد أقوى من مثيلتها فيما يتعلق بالفروق العرفية.

ربما كان المفكر الذي تعرضت أعماله لأعظم صعود وانهيار خلال القرن العشرين هو مؤسس التحليل النفسي فرويد، والذي وضع فرضياته تنادي بأن المرض العقلي بما في ذلك أمراض خطيرة مثل الهوس الاكتئابي والفصام ذو طبيعة نفسية في المقام الأول.

أي أنه نتيجة اختلالات وظيفية عقلية تحدث في مكان ما فوق الركيزة البيولوجية للدماغ، وقد قوض هذه الفكرة دواء الليثيوم، الذي اكتشفه بالمصادفة عالم النفس الأسترالي جون كيد عندما أعطاه للمرضى النفسيين المصابين بالهوس الاكتئابي، وشفي عدد من أولئك المرضى.

وبالتالي بدأت عملية أدت إلى استبدال العلاج الدوائي شبه الكامل في غضون الجيلين التاليين بعلاج الكلام الفرويدي، وتزامن ظهور الأدوية النفسية التأثير مع ما أطلق عليه اسم ثورة الناقلات العصبية أي زيادة هائلة في المعرفة العلمية بخصوص الطبيعة الكيميائية-الحيوية للدماغ وعملياته العقلية.

أما الموجه الثانية من الأدوية العصبية لثورة التقنية الحيوية، فقد جاءت بالفعل تهدر من حولنا، عندما أنتجت أدوية للتحكم في الأطفال اجتماعيا، وهي حبوب تبدو أكثر فعالية بكثير مما حققته التنشئة الاجتماعية في الطفولة المبكرة والمعالجات الفرويدية التي تعتمد على الحديث، والتي ظهرت في القرن العشرين.

وقد شاع استخدامها بين الملايين والملايين من الناس حول العالم مع نشوء قدر كبير من الخلاف حول عواقبها الصحية المحتملة على المدى البعيد على الجسم، لكننا لا نكاد نجد جدلا حول ما تعنيه ضمنيا بالنسبة إلى الفهم التقليدي للهوية والسلوك الأخلاقي.

ويوضح انتشار الأدوية النفسانية التأثير في الولايات المتحدة الأميركية وجود ثلاثة اتجاهات سياسية قوية ستعاود الظهور مع الهندسة الوراثية، أولها رغبة الناس في معالجة أكبر قدر ممكن من سلوكياتهم، وبالتالي التقليل من مسؤوليتهم عن أفعالهم، والثاني هو ضغوط أصحاب المصالح الاقتصادية القوية للمساعدة في هذه العملية كالمدرسين والأطباء ومزودي الخدمات الاجتماعية.

وأما الاتجاه الثالث فهو ينزع إلى توسيع المجال العلاجي ليشمل عددا أكبر من الحالات باستمرار، وهذا كله يدعو إلى القلق حول ما إذا كانت التقنية الحيوية الحديثة ستتحول عما قريب إلى عمل يوفر طرقا بيولوجية مختصرة جديدة وقوية للوصول إلى أهداف لائقة سياسيا.

وهناك سبيل ثالث ستؤثر به التقنية الحيوية المعاصر على السياسة، وهو إطالة الحياة، ما يستتبع ذلك من تغيرات ديموغرافية واجتماعية، وكان من بين أعظم إنجازات الطب بالولايات المتحدة الأميركية في القرن العشرين ارتفاع العمر المتوقع عند الولادة من 48.3 سنة للنساء عام 1900إلى 79.9سنة عام 2000.

كان علم الشيخوخة، أي دراسة عملية التقدم في السن، هو واحد من الميادين الأكثر تأثرا بالتطورات في علم الأحياء الجزيئية، فإذا كان هناك سبيل وراثي للخلود فإن السباق للعثور عليه قد بدأ بالفعل في أروقة صناعة التقنية الحيوية، عندما قامت شركة جيرون باستنساخ براءة اختراع وتسجيلها للجين البشري للتيولوميراز.

كما أنها تملك برنامج نشطا يستهدف الخلايا الجذعية الجنينية، هي خلايا الجنين في أولى مراحل تطوره، وتمتلك الخلايا الجذعية القدرة على التحول إلى أية خلية أو نسيج بالجسم، وبالتالي تعد بإنتاج أجزاء جديدة تماما من الجسم تحل مكان تلك التي تبلى بفعل عملية الشيخوخة.

وقد أدى ارتفاع مستوى العمر إلى نشوء قضايا متعلقة بالتقاعد والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي لكبار السن، وبالطبع فإن للمسألة أبعادا سياسية، فماذا على سبيل المثال لو بقى فرانكو ديكتاتور إسبانيا على قيد الحياة؟

وفي مجال الهندسة الوراثية فإن التقنية الحيوية المعاصرة لاتزال بعيدة عن القدرة على تعديل الجينات البشرية بالطريقة التي تعدّل بها جينات الذرة على سبيل المثال، فالجينيوم البشري يتكون من نحو ثلاثة مليارات زوج من القواعد.

ولا يعني التعرف البسيط على الجينات الموجودة في الجينوم أن أحدا يعرف مهمة هذه الجينات، لكن الخطوة الأولى نحو منح الآباء قدرا أكبر من التحكم في التركيب الوراثي لأبنائهم لن تأتي من الهندسة الوراثية، بل من التشخيص والتحري الوراثي، فقد أمكن فحص العيوب الخلقية في الأجنة مثل التليف الكيسي.

وستكون الجائزة الكبرى للتقنية الوراثية الحديثة هي "طفل حسب الطلب" أي أن اختصاصيي الوراثة عندما يتمكنون من تحديد الجين الخاص بصفة الذكاء والطول ولون الشعر والعدوانية أو احترام الذات يمكنهم أن يستخدموا هذه المعرفة لصنع نسخة أفضل من الطفل.

وبعيدا عن الجدل في هذا المجال وفرصه التقنية والأخلاقية والقانونية فإن ما تحقق من تطور في التقنية الوراثية وعلم الأدوية العصبية وزيادة سنوات الحياة ستؤثر كثيرا على سياسات القرن الحادي والعشرين.
تستمد الحقوق من حيث المبدأ من ثلاثة مصادر: الحقوق الإلهية، والحقوق الطبيعية وما يمكن للمرء أن يسميه الحقوق الوضعية المعاصرة التي توجد في القانون وفي العرف الاجتماعي.

وأبسط وسيلة لتحديد مصدر الحقوق هي أن ننظر حولنا لنرى ما يعتبره المجتمع نفسه حقا، من خلال قوانينه وإعلاناته الأساسية، وقد أدت المؤسسات البشرية المتطورة والترتيبات الثقافية إلى إنتاج مواقف إنسانية وأخلاقية متباينة، لكن الطبيعة تضع قيودا على أنواع التعديل الذاتي التي أمكن تحقيقها حتى الآن.

وبعد مائة عام من وفاة نيتشه لم نستوعب بعد سوى القليل مما تنبأ به عن الإنسان المتفوق، وذات مرة وبخ نيتشه جون ستيورات ميل ووصفه بأنه "ساذج" لأنه اعتقد أنه من الممكن أن يمتلك الفرد ما يشبه الفضيلة المسيحية في غياب الإيمان برب النصارى.

ومع ذلك ففي أوروبا وأميركا اللتين أصبحتا علمانيتين ما زالت هناك بقية من إيمان بمفهوم الكرامة الإنسانية الذي اقتلع حاليا من جذوره الدينية تماما، فالنظام الأخلاقي بقي متماسكا وقويا بعد التخلى عن الدين في الغرب لأن النظام الأخلاقي ينبع من داخل الطبيعة البشرية ذاتها، وليس شيئا تفرضه الثقافة على الطبيعة البشرية.

بعض التقنيات الحيوية الحديثة يثير الرعب منذ البداية، ويخلق إجماعا فوريا على الحاجة لإقامة ضوابط سياسية على تطويرها واستخدامها، وتبدو بعض التقنيات الحديثة الأخرى أكثر لطفا بكثير، وبالتالي فلن تخضع إلا لقليل من التنظيم.

ويجب على الدول تنظيم التقنية وتطويرها واستخدامها سياسيا، وإنشاء مؤسسات تقوم بالتمييز بين التطورات التقنية التي تعزز الازدهار البشري، وبين تلك التطورات التي تمثل تهديدا للكرامة والرفاهية الإنسانية.

ولكن هل يمكننا التحكم في التقنية؟ الطريقة الوحيدة للتحكم في انتشار التقنية هي إيجاد اتفاقيات دولية بشأن القواعد المقيدة للتقنية، وفي غياب مثل هذه الاتفاقيات الدولية فإن أية أمة تختار تنظيم نفسها ستمنح ببساطة الفرصة للدول الأخرى لتتفوق عليها.

هناك الكثير من التقنيات الخطرة أو المثيرة لجدل أخلاقي، والتي أخضعت للسيطرة السياسية الفعالة، فقد قام المجتمع الدولي بتنظيم إجراء التجارب على البشر، وبرغم الزلات التي تقع فإن المجتمع الدولي قادر في الواقع على فرض قيود فعالة على الطريقة التي يتم بها إجراء البحوث العلمية، بطرق توازن بين الحاجة لإجراء الأبحاث واحترام كرامة البشر الخاضعين لتلك الأبحاث.

ويفترض كثيرون أن عالم ما بعد البشرية سيكون أفضل في الحرية والمساواة والرخاء والرعاية والتعاطف والرفاه والصحة والذكاء، ولكنه أيضا قد يزيد الصراعات الاجتماعية.

إن الحرية الحقيقية تعني حرية المجتمعات السياسية في حماية أغلى قيمها، وتلك الحرية التي نحتاج إلى ممارستها فيما يتعلق بثورة التقنية الحيوية اليوم.

إبراهيم غرايبة

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...