ربيع الفتن مصر نمو ذجاً

13-04-2013

ربيع الفتن مصر نمو ذجاً



بدأ ربيعاً عربياً. أو هكذا قالوا. ثورات لاستعادة كرامة مفقودة. رغيف وحرية. أو هكذا قالوا. ازدهار ورخاء موعودان. عودة الإنسانية إلى الإنسان. حد أدنى من مقومات الحياة. استقلال وطني. أو هكذا قالوا. فوضى واضطرابات. اعتقالات بالجملة. تعذيب وعذاب. أو هكذا حصل. ديكتاتورية واستبداد. شلالات من الدماء. تكفير بلا تفكير. أو هكذا حصل. تعميق للتبعية. تكريس للروح الانهزامية. تسليم بالكيان الصهيوني. نبش للتاريخ وتلاعب بالجغرافيا. أو هكذا حصل. ربيع العرب سرعان ما تحول إلى خريف إسلاموي لم يسلم منه أحد. من طنجة إلى دمشق، مروراً بليبيا وتونس والجزائر ولبنان والأردن والخليج والعراق. بل «ربيع الفتن» الذي أزهر حقداً دينياً، ونزعات استئصالية مذهبية، لم توفر مسيحيين ولا شيعة. وهْم الهلال الشيعي تحوّل قناعة. بات المسيحي غريباً في أرضه. وكله تحت راية ثورات الحريّة والديموقراطية. ثورات تجرعتها الشعوب سموماً، حتى كادت تترحم على طغاة الماضي القريب. ما يحصل في مصر قد يكون نموذجياً. صحيح أنه لم يبلغ حد التطهير المذهبي الذي تشهده سوريا، لكنه الأصدق تعبيراً عما فعلته تلك الثورات في مجتمع متجانس، لطالما عرف بتسامحه، وبأزهر كان عنواناً للتقارب بين المذاهب في المنطقة




نزف الطوائف نهاية «الكوزموبوليتية»
 «وكان العشرات من الطالبات المقيمات في المدينة الجامعية بأزهر أسيوط قد تظاهرن أمس، احتجاجاً على اعتناق إحدى الطالبات المذهب الشيعي». هذا جزء من خبر نشرته صحيفة «الشروق» المصرية في عددها الصادر في الثالث من الشهر الجاري، تحت عنوان «إحالة طالبة متهمة بالتشيّع على التحقيق وإقالة مديرة المدينة الجامعية في أزهر أسيوط».
تحولت مصر على مر العقود من دولة تجمع كل الأديان الى أمة لأهل «السنة والجماعة» (خالد دسوقي ــ أ ف ب)
وعلى ما يبدو من العنوان، فقد اتخذت الإدارة إجراءات حاسمة ضدّ التشيّع المزعوم للطالبة الأزهرية. في الماضي، كانت صيغة «الاتهام» تراوح بين «نشر المذهب الشيعي» إلى «العمالة لإيران»، لكن في ظل الدستور المصري الجديد، ذهبت مسألة «الاتهام» الى أبعد من ذلك؛ فالدستور الحالي لم يكتف بما نصت عليه الدساتير السابقة بأن «الإسلام دين الدولة»، بل أضيفت إليه المادة 220، التي تُعيد «تفسير الشريعة» إلى «مصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة»، لتتحوّل بذلك مصر رسمياً، من «دولة مسلمة» إلى «دولة سنيّة»؛ فليس مفاجئاً أن يصير مجرد اعتناق مذهب آخر، اتهاماً.
طريق طويل قطعته مصر منذ تشكيل لجنة دستور 1923، أول الدساتير المصرية. اللجنة التي شُكلت من 30 عضواً، منهم 6 مسيحيين، وعضو يهودي، جاءت تجسيداً لـ«الوحدة الوطنية» التي سعت إليها ثورة 1919، وشعارها الشهير «الدين لله والوطن للجميع».
لكن اللجنة، مع ذلك، لم تعجب الوفديين. وسمّاها سعد زغلول في حينه «لجنة الأشقياء». فيما انتقد الليبراليون تعيين «دين رسمي للدولة». ومع أن صيغة «الإسلام دين الدولة» جاءت في موقع متأخر من الدستور الأول، المادة 149 منه، لكنّها تقدّمت مع الزمن، ومع الدستور تلو الدستور، الى أن ارتفعت الى المادة الثانية من الدستور، وأُضيف اليها «مذهب أهل السنة والجماعة»، في ظل حكم إخوانيّ يواجه أحداثًا طائفية تتسارع وتيرتها.
في السابع من الشهر الجاري، كان اعتداء القوات الأمنية بالخرطوش والغاز على مقر الكاتدرائية المرقسية في القاهرة، الحدث الأول من نوعه في تاريخ مصر. كانت الكاتدرائية تستضيف تشييع ضحايا أحداث الخصوص شماليّ القاهرة؛ آخر الحوادث الطائفية في مصر، عندما هاجمت الشرطة الجمع لمنع تحرّكه وردّاً على الهتافات الغاضبة ضدّ «حكم المرشد»، فسقط قتيل جديد. وأعلن البابا الجديد، تواضروس الثاني، اعتكافه، في حدث يبدو أنه سيتكرّر في ما بعد؛ إذ بينما تعصف الحساسيات الطائفية المتواترة في مصر منذ سنوات، يأتي الحُكم الإخواني تتويجاً لتلك الحالة؛ فالجماعة، الطائفية حُكماً، ترى خصومها أيضاً كطوائف لا كسياسيين أو أحزاب؛ ولا تراهم كيساريين أو ليبراليين، بل كـ«مسيحيين» أو «فلول» أو «ألتراس» أو «بلطجية».
وضعٌ بائس بالمقارنة مع ما كان يسميه المؤرخون «مصر الكوزموبوليتانية»، التي خلت من تنوّعها بالتدريج، بداية من حرب الـ48 ونزوح اليهود المصريين، تحت وطأة اعتداءات نفّذها ضدّهم الإخوان المسلمون، أشهرها تفجير حارة اليهود في القاهرة في أيار 1948. وتصاعدت هجرة اليهود أكثر مع ثورة تموز، قبل أن يسهم العدوان الثلاثي على مصر وسياسات التأميم في رحيل الجاليات الأجنبية تباعاً، وأبرزها اليونانيون والأرمن، ليرحل معها جزء من التنوع الديني والمذهبي.
ثم جاء عام 1960، الذي أغلق خلاله جمال عبد الناصر «المحفل المركزي للبهائية» المسجّل في المحاكم المختلطة منذ عام 1934. مع ذلك، ظل البهائيون المصريون يستخدمون أوراقهم الرسمية بصفة عادية، إلى أن صدر في 2004 قرار إداري ضمن مشروع «الرقم القومي» يقصر خانة الديانة على ثلاث فقط: مسلم، مسيحي، يهودي، لتُستبعد بذلك البهائية من الهوية تماماً.
المسيحيون، الذين نجوا نسبياً في العهد الناصري، بدأت معاناتهم على يد أنور السادات وبدء عصر الجماعات الإسلامية. «الرئيس المؤمن» نقل «الإسلام دين الدولة» من المادة الثالثة في دستور 1956، إلى المادة الثانية في دستور 1971. وأضاف عبارة «ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر أساسي من مصادر التشريع». وفي عام 1980، أضاف إليها (الـ) التعريف، لتصبح (المصدر الرئيسي للتشريع)؛ فلا يبدو غريباً ان افتُتح عهد السادات بفتنة «الخانكة» 1972، واختُتم بأحداث «الزاوية الحمراء» 1981. وفي أيامه الأخيرة، قبل اغتياله، وصل الخلاف بينه وبين شنودة الثالث، بابا الأقباط، الى حدّ أن أصدر السادات أمراً بتحديد إقامة البابا في وادي النطرون.
الفتنتان الكبيرتان في عهد السادات، انقلبتا إلى سيل من الفتن والاعتداءات الطائفية في العهد التالي. الصراع المفتوح بين نظام حسني مبارك والجماعات الإسلامية، أجّجته فتاوى تُتيح قتل الصاغة الأقباط ونهبهم لتمويل «الجهاد». كذلك أسّست سلطة مبارك نهجاً يعالج الفتن الطائفية وفق «الصلح العرفي»، بدلاً من قانون العقوبات. لقد طوّر ذلك مزيداً من الاحتقان مع الزمن؛ لأن الجروح ظلت مفتوحة، ولأن ما سُمّي «الفتنة الطائفية» كان في حقيقة الأمر اعتداءً متواصلاً على الأقباط.
انتصر مبارك أمنياً على الجماعات الإسلامية، لكنّه خسر معركة الوعي؛ فلقد هيمن على الساحة الداخلية تأسلم وهابي بدعم سعودي هائل، روّجه له دعاة سلفيّون اعتمد عليهم أمن مبارك لمواجهة الإخوان. لقد نجح السلفيّون، أكثر من اللازم، في المهمة الموكلة إليهم، حتى طغى التسلّف على جماعة الإخوان نفسها. في ظاهرة شرحتها دراسة «تسلّف الإخوان» للراحل حسام تمام.
لكن «القطبية الإخوانية»، نسبة إلى سيد قطب، والسلفية الوهابية، بقيتا وجهين لعملة واحدة، ومصدراً لوعي يناهض الدولة الحديثة من حيث كونها مؤسسة مساواة بين المواطنين، ويرفض جوهر الديموقراطية بوصفها عملية تساوي المسلم والمسيحي، الرجل والمرأة، ما يناقض التراتبية الدينية التقليدية. وكان من آثار هيمنة الأفكار الأصولية الرافضة للحداثة، تفجير مزيد من الفتن، ومزيد من الاعتداءات والعداوات ضدّ «الأغيار» أياً كانوا: أقباطاً، سياحاً، أو مفكرين.
هكذا اندلعت «ثورة يناير»، في ظل احتقان طائفي مستمر، آخر مسبّباته تفجير كنيسة القديسين ليلة رأس سنة 2011. خففت الثورة مؤقتاً من الاحتقان، لكن اندفاع الإسلاميين العاصف إلى السياسة وبدئهم مبكراً معركة «الدستور الإسلامي»، واختفاء القبضة الصارمة لجهاز أمن الدولة، رفع الاحتقان إلى مستويات كبرى. أسهمت فيه حوادث، كهدم كنيسة أطفيح في آذار 2011، ثم حادثة ماسبيرو تشرين الأول 2011، التي قُتل فيها عشرات المسيحيين على يد الشرطة العسكرية أمام مبنى التلفزيون. لينغلق باب الانفتاح المسيحي الخجول على الثورة، ويندفع غالبية الأقباط إلى تأييد المرشح أحمد شفيق في الانتخابات الرئاسية ضدّ الإخوان. لكن «الفريق» يخسر؛ فيجد المسيحيون أنفسهم في مواجهة المجهول. لم يكونوا وحدهم في ذلك؛ فبعدما نصّ الدستور الجديد على عدم الاعتراف إلا بالديانات السماوية، تبخّرت آمال البهائيين في كسب معركتهم لإعادة تسجيل هويّتهم في أوراقهم الشخصية. وفوجئ النوبيون بتصريح غريب للقيادي الإخواني عصام العريان يحتفي فيه بـ«الجالية النوبية» في مصر. وصار الشيعة المصريون، وغالبيتهم من الإثني عشرية، أمام ضغوط أكبر، عمّقتها العلاقة الملتبسة بين الإخوان والحُكم الإيراني، وهي علاقة هاجمها السلفيون الى أن تراجع الإخوان عن إعادة خط القاهرة ـ طهران. وهذا يعني أن الجماعة ستبقى في إطار خط «الاعتدال» الأميركي الذي كان مبارك أحد رموزه، مع خطوة إضافية هي صداقة دولة قطر بدلاً من عداوتها.
لكن ذلك «الاعتدال» يبقى وجهاً واحداً من وجوه تتشابه فيها الجماعة مع العهد السابق. وآخرها، أنها، تماماً كمبارك، أدارت «صلحاً عرفياً» جديداً، لإنهاء أحداث الفتنة الأخيرة في منطقة الخصوص. الا أن القبلات التلفزيونية بين الشيخ والقسيس، لن تُداوي سقوط سبعة قتلى، مسلم وستة أقباط؛ ستظل دماؤهم جمراً تحت الرماد، في انتظار الفتنة التالية.

92.600 مسجد و3126 كنيسة
يبلغ عدد الكنائس في مصر، وفقاً لدليل الكنائس، 2626 كنيسة، من بينها 1326 كنيسة أرثوذكسية و1100 كنيسة بروتستانتية و200 كنيسة كاثوليكية. فيما يقول باحثون من بينهم المستشار حسين أبو عيسى، إن هناك قرابة 500 كنيسة تعمل تحت اسم جمعية قبطية يجري إشهارها في وزارة التضامن الاجتماعي، ليكون العدد الإجمالي 3126 كنيسة، وهو الرقم الأقرب لترجيحات الباحث في شؤون المواطنة سليمان شفيق. ويضاف إليهم، وفقاً للباحث في الشؤون القبطية يوسف رامز، 21 ديراً للرجال يضم 2100 راهب و9 أديرة للسيدات تضم 600 راهبة، وهي تابعة للطائفة الأرثوذكسية.
أما عدد المساجد، فيبلغ ـ وفقاً للإحصاءات الرسمية ـ قرابة92.600 مسجد، منها 64676 مسجداً تحت ولاية وزارة الأوقاف، والباقي مساجد أهلية وصغيرة أو ما يطلق عليها في مصر «زاوية».
ووفقاً لسليمان شفيق، فإنه ما بين نيسان 2011 والشهر نفسه عام 2013، قُتل نحو 59 قبطياً، بينهم 28 في ماسبيرو و4 في أبوقرقاص و6 في إمبابة و12 في منشية ناصر وواحد في ليبيا وآخر في دهشور و7 في الخصوص، إضافة إلى جرح 714 آخرين في الحوادث نفسها، أي ما يعادل قتيلين و18 جريحاً كل شهر، فضلاً عن نهب ممتلكات 114 أسرة، في 580 حادثاً طائفياً منذ عام 1972 وحتى الآن.

محمد خير

الحرب الأهلية: ناقوس خطر يدق الأبواب
أحداث العنف الطائفية لم تعد مستغربة في مصر، لكنّ الحادثة الأخيرة في مدينة الخصوص التابعة لإحدى محافظات القاهرة الكبرى، كان لها وقع وأثر مختلف، بعدما رسم أحد شباب الأقباط صليباً معقوفاً على معهد أزهري، وهو ما قابله المسلمون باعتداءات على الجنازة والكاتدرائية، التي تعد من أهم الرموز الدينية المسيحية في مصر.

ما بين وجوه عابسة وقلقة ولاهية، التقت «الأخبار» عدداً من المواطنيين للوقوف على آرائهم وتوقعاتهم لأزمة الفتنة الطائفية في مصر. جميعهم أبدوا تخوفهم على مستقبل العلاقة بين المسلمين والأقباط، وخشية من استمرار العداء والفتنة وتحولهما الى حرب أهلية.
سلمى الطويل، طالبة دراسات عليا، رأت أن المصريين يمارسون الفتنة الطائفية في تعاملاتهم اليومية، وتقول: «أنا كفتاة مسلمة، لاحظت أن هاتفي المحمول لا يحتوي على اسم واحد لزميل أو زميلة قبطيين؛ فاكتشفت أنني أيضاً أعاني فتنة طائفية». سلمى تشبّه الفتنة الطائفية في مصر بالجرح المكشوف، مؤكّدة على ضرورة الاعتراف أولاً بجروح الفتن الطائفية ومعرفة أسبابها ومن ثم إجراء جراحة لها، رافضة الاكتفاء بمنطق «إننا نبوس راس بعض ونكتفي بالهتاف مسلم ومسيحي إيد واحدة»، داعية إلى تنظيف الجراح أولاً لمداوتها. «مش هنسيبها للإخوان. هما عايزين كل معارضيهم يسيبوا وده مش هيحصل»، ثم يعلو صوت سلمى فجأة كأنها تخاطب المواطنيين قائلة: «مصر مش محتاجة تولع، كفاية كده. ارحموا هذه البلاد الطيبة». وتعلن تخوّفها بشدّة من أن تقود هذة الأزمات المتكررة البلاد إلى حرب أهلية.
أحمد عبد المنعم، طالب بكلية هندسة، يرى أن الحديث عن الفتنة الطائفية في مصر بهذا الشكل «الفظ»، ما هو إلا تحريض إعلامي وشحن للمواطنيين كي يواجهوا بعضهم بعضاً، محملاً الداخلية الجزء الأكبر من وزر ما يحدث لـ«تواطئها وعدم تحركها لتأمين الجنازة في الكاتدرائية وجمع السلاح الذي انتشر أخيراً في البلاد». أحمد، الشاب الذي تلفحه سُمرة مصرية، يقول إن تخلف الشعب المصري وجهله هم ما يزيدان من الفتن: «المواطنون يريدون أن يُصلحوا حال البلاد في يوم وليلة. وهذا أمر غير طبيعي بعد ما خلفه النظام السابق من فساد وأزمات مصطنعة». ويرى أن المسألة لا تتعدى كونها اختلاف عقيدة لا أكثر ولا أقل. مع ذلك، يحمل أحمد هاجس الحرب الأهلية أيضاً، مبدياً خشيته من أن تطول الأزمة في البلاد، وتتطور الى حرب أهلية، ويضيف «وقتها هنقول على البلد يا رحمن يا رحيم لو قامت حرب أهلية».
وفيما يُحمّل أحمد عبد الجواد، مدرّس التكنولوجيا، الجيل الجديد من الشباب مسؤولية ما يحصل، يصف هذا الجيل بأنه «بلا أخلاقيات ولا احترام للعادات والتقاليد». ويقول إن مثل هذه الأزمات تصيب البلاد بسبب ارتفاع نسبة البطالة بين شبابها، الذين بات العنف أداتهم الوحيدة في المطالبة بحقوقهم ورفضهم وجهات النظر الأخرى.
عبد الجواد يرى أن الفتنة الطائفية مدبرة، وأن عوامل خارجية هي التي تسببت في حدوثها، وأن الشباب على استعداد للاستجابة لأية ردود فعل عنيفة لتنفيس طاقاتهم المكبوتة. يقول «الفتنة الطائفية قد تدمر الشعب اذا ما نجح من هم وراءها في تأجيجها، وسيحمل كل منا السلاح في وجه الآخر». فاطمة عبد العليم، مواطنة سلفية منقبة، تتمسّك بنظرية المؤامرة، وتؤكّد بكل جوارحها أنّ الحادثة خارجية ومدبرة، وتحاول عرض صورة عن اللحمة الوطنية بالقول «إحنا المسلمين والمسيحيين إيد واحدة. إحنا علينا الآن أن ندعو الله بأن يزيل هذه الغمة عن مصر». وتشارك رفاقها الخوف من قيام حرب أهلية نتيجة هذه الأزمة. أميمة سيدة في أوخر العقد السادس من عمرها تبكي بحرقة وهي تتحدث عن «أبناء الوطن الواحد الذين تفرقوا. أخ بيضرب أخوه بالنار»، وهو ما تخشى أميمة من أن يصبح واقعاً بين المصريين، أقباطاً كانوا أم مسلمين. أما أم محمد، فهي سيدة من الباعة الجوالين في مصر، لا تعرف كثيراً عن أحداث الفتن الطائفية، فهي تسكن في حي إمبابة بجوار جاراتها المسيحيات، ولا تتبادل معهن إلا كل ود ومحبة. بكل تلقائية تقول: «يا بنتي اللي بيعمل كده ناس متعرفش ربنا، وعايزين يفرقونا بأي شكل، بس لسه فيه جدعان في مصر مش هتفرقهم أي حاجة».

رانيا ربيع العبد


«المتهم الخفي» في الأحداث الطائفية
عدّد كثيرون أسباب اندلاع الأحداث الطائفية في مصر، لكن ثمّة دائماً «متهم خفي» يقبع في الخلفية الذهنية لدى المصريين، لا يجري استدعاؤه إلا عند الحاجة للتمترس خلف قناعة ما تبرّر لكل طرف فعله. هذا المتهم هو «الصورة الذهنية» المرسومة عند كل طرف عن الآخر، التي لا تظهر عند التعاملات اليومية التي يغلب عليها الجري خلف «لقمة العيش». وهو أمر يشمل المسيحيين والمسلمين على السواء، وربما كان مردّها عدم وجود أنشطة كثيرة بين مسلمين ومسيحيين تجري على قاعدة مدنية، غير لقمة العيش والاشتراك في الهموم اليومية.

وعلى الرغم من ضعف الضوء المسلّط على الممارسات اليومية للقساوسة ورجال الدين المسيحيين، وابتعاد الكنائس أو إبعادها عن دائرة الضوء، فإن المتتبع للهتافات التي خرجت من بعض المسيحيين أثناء التظاهرات أمام الكاتدرائية الأسبوع الماضي وزلّات بعض الرموز الكبرى للكنيسة كالأنبا بيشوي، سيجد أن ثمة نظرة مترسخة عند المسيحيين تدور حول جملة من الأمور، أوّلها أنهم أصحاب الأرض وأن المسلمين ضيوف عليها، وأن عمرو بن العاص ما هو إلّا محتلّ. وهذا ما تجلى في هتاف «قالوا علينا بلطجية وإحنا أصحاب الأرض دية». والثانية هي أنّ المسلم غير المتديّن هو الأكثر تسامحاً، بحجة أنّ الدين الإسلامي لم ينتشر طواعية أو بسلمية،
والثالثة هي أنّ المسلمين لا همّ لهم سوى أسلمة الفتيات المسيحيات أو الزواج بهن.
لا يختلف الحال كثيراً عند المسلمين، الذين ينظر بعضهم إلى الأقباط على أنهم «بيتمسكنوا لحد ما حيتمكنوا». لذا كان الهتاف الثاني أمام الكاتدرائية «انسى القبطي بتاع زمان بكرة حنضرب في المليان»، يشير إلى فكرة لدى العديد من المسلمين مفادها أنّ الأقباط يمتلكون أسلحة في كنائسهم، أما الصورة الثانية، فهي تتعلق بأنّ المسيحيين محبون للغرب وتابعون له.
ورغم أن الصور الذهنية لدى كلا الطرفين متعددة، وتمتد إلى الرائحة وطريقة الاحتفال والتعامل مع المرأة، وغيرها، إلا أنّ المرصود منها على نحو أكبر منسوب إلى المسلمين بحكم أغلبيتهم العددية التي تتيح حرية وجرأة الجهر بها، فضلاً عن أن الكنائس والمسيحيين ليسوا تحت دائرة الضوء الإعلامي على نحو مكثف، لكنّ كثيراً منها ظهر في السنوات الأخيرة، حينما قوبلت الحلقات التلفزيونية للقمّص زكريا بطرس، الموجود خارج مصر، التي كان يتهكم فيها على الإسلام باحتفاء من قبل دوائر غير رسمية قبطية، رغم تبرؤ الكنيسة منه.
الشيء المشترك بين كلا الطرفين هو اتهام الدولة بالانحياز إلى الطرف الآخر، مع الدفع بشواهد متعددة، تبدأ من الاحصاءات مروراً بالوضع الاقتصادي وعدد دور العبادة مقارنة بتعداد كل طرف في المجتمع.
ومن ثم فإنّ أي حادث بسيط ما زال قابلاً للتطور إلى فتنة طالما ظلت هذه الصورة الذهنية قابعة لدى كل طرف، حتى لو لم تظهر علانية، وظلّت حبيسة الأحاديث الجانبية، تطبيقاً للقاعدة المصرية الشهيرة «اللي في القلب في القلب».

عبد الرحمن يوسف


سياسات الهوية والمسألة الشيعية

منذ عهد الدولة الفاطمية (969 - 1171م) لم تعرف مصر مسألة شيعية، ولم يبرز الشيعة كموضوع للسجال الحاد إلا بعد الثورة، التي في ما يبدو كشفت عن خلل كبير يعتري مراكز الإدراك في العقلية المصرية. ومرة أخرى عاد النداء لعودة صلاح الدين، لا لتحرير القدس كما اعتاد أن يراه المصريون، بل لتطهير مصر من «الشيعة الحثالة»، أو هكذا اشارت إليهم جموع السلفيين المتظاهرين أمام منزل القائم بالأعمال الإيراني مجتبى أماني، في الأيام الماضية، التي اتهمت الرئيس محمد مرسي الملتحي حافظ القرآن بالسماح لهم بدخول مصر.لم يكن للأزهر نصيب من الجدل المذهبي الإسلامي إلا سعيه للتوحيد والتقريب بين المذاهب (أ ف ب)

ورغم وجود الأزهر على أرضها، الذي يُعدّ أكبر جامعة سنية في العالم الإسلامي، مع أن تأسيسه كان شيعياً منذ ألف عام، إلا أن المصريين لم يعرفوا أنفسهم على أنهم مسلمون سنة، ولم يكن لهم تصور العوام عن الشيعة في العراق وإيران وغيرهما، غير أنهم مسلمون على مذهب مختلف.
وربما شاب هذه التصورات خرافات شعبية ناتجة بالضرورة من الجهل بهذا الآخر الذي لم يكن يشكل أزمة هوية في بلد متجانس. لم يكن من المستغرب زواج مسلم سني مسلمة شيعية أو بالعكس. ولا يعرف كثير من المصريين مثلاً أن السيدة تحية كاظم زوجة الزعيم جمال عبد الناصر ابنة تاجر إيراني، ولم يكن ليدهشهم هذا. ولا ينبئنا إعلام الثلاثينيات بجدل مذهبي، عندما تزوج الشاهبور محمد رضا بهلوي ولي عهد إيران الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق. لم يكن للأزهر نصيب من الجدل المذهبي الإسلامي إلا سعيه للتوحيد والتقريب بين المذاهب، فأنشئت تحت رعايته دار للتقريب المذهبي عام 1947. وفي الستينيات، أصدر شيخ الأزهر المؤسس لدار التقريب سابقاً، الشيخ محمود شلتوت، فتواه الشهيرة بجواز التعبد على المذهب الجعفري.
لم تكن الدولة لتتبنى خطاباً مذهبياً وهي تُعبّر عن مجتمع غير متمذهب، لكن السياسة منذ هذه المرحلة وصاعداً أدت دورها في تشكل الرؤى الدينية للمجتمع. دخل عبد الناصر في صراع إقليمي مع شاه إيران، لكنه لم يستخدم الأزهر في هذا الصراع ولم يتصوره صراعاً مذهبياً بين شيعة وسنة.
وأشعل نجاح الثورة الإيرانية 1979 مشاعر الحماسة داخل المعارضات اليسارية والإسلامية في كل العالم العربي، رغم أن نظام السادات وقف ضدها واستضاف صديقه الشاه المخلوع لتبدأ القطيعة السياسية بين مصر وإيران.
وكان إغلاق جمعية آل البيت في مصر في العام نفسه إيذاناً بدخول المذهبية برأسها في الصراع، بينما رسخ الانغلاق الشيعي الذي بدأ يطغى على النظام الثيوقراطي الحاكم بولاية الفقيه، بحيث صار التشيع رديفاً لإيران، وبالتالي أثار حساسية أجهزة الأمن، وخاصة مع اشتراك مصر في الحرب العراقية الإيرانية إلى جانب بغداد.
ومن هنا جرى التضييق الأمني على كل أشكال التجمعات الشيعية في مصر، رغم وجودها على هامش المجتمع الذي ظل بعيداً عن هذا الصراع. مع أن الدولة سمحت للسلفية بالتغلغل فيه والعمل، وهو ما راكم تحولات ظهرت في بوادر تمذهب وتوترات طائفية بين المسلمين والأقباط.
تدور السلفية حول النقاء العقدي، وهو ما يتطلب الولاء والبراء من المخالفين في سبيل تنقية عقيدة زمرة المؤمنين. وكان عمل السلفية في المجتمع لترسيخ هذا الاتجاه الذي يستدعي رفض الآخر المنحرف، سواء من داخل الدين، أو الخارج عنه، فلا يصح الدين إلا بالتأثيم والتكفير. وعلى الرغم أن المسألة الشيعية لم تكن حاضرة بقوة في الخطاب السلفي، غير أنها لم تكن مستبعدة. وفيما كان المصريون في عام 2006 متحمسين للانتصار الذي حققه حزب الله على الجيش الإسرائيلي في حرب تموز 2006 يوماً، كرّس شيوخ السلفية جهودهم لحماية سنّة مصر من الافتتان بانتصار «الشيعة المنحرفين»، فظهرت تسجيلات ترفض الانتصار، ومحاضرات تحذر من المدّ الشيعي، وهو ما تزامن مع خطاب السلطة المتورطة في حرب التوازنات الاستراتيجية في مواجهة إيران وحلفائها بالتحالف مع دول الخليج راعية «التسلّف» في العالم العربي.
بعد الثورة، دخلت السلفية ميدان السياسة من المنطلق العقدي نفسه، بعد أن بنت لعقود وجوداً قوياً داخل المجتمع، وأسهمت مع بقية التيارات السياسية في نقل الصراع السياسي إلى ساحة «سياسات الهوية»، ونقلت التدافع السياسي من أهداف الثورة السياسية والاجتماعية الديموقراطية إلى ساحة الحفاظ على الهوية، ومناط شرعية وجودها.
غير انها خلال العامين اللذين تلا الثورة استطاعت أن تطور أجهزة سياسية تتسم بقدر كبير من التكيف والبراغماتية والبعد عن الأصولية الخطابية التي تركتها لحشد الجموع الغفيرة في المعارك السياسية مع الحلفاء وضد الخصوم من الجميع.
من هنا كان تصدّر السلفيين لمشهد رفض الوجود الشيعي في مصر أو التقارب مع إيران، وتصدى أكثر قيادات الحركة السلفية براغماتية لمواجهة المد الإيراني على أساس عقدي، فبرزت السجالات المذهبية التي تدور حول سبّ الصحابة وزوجات النبي، ونشر المذهب الشيعي داخل مصر.
كان قرار التقارب مع إيران قد جاء من النظام الذي أصبح الإخوان المسلمون يسيطرون عليه؛ يعرف عن جماعة الإخوان أنها لم تكن متمذهبة بحكم طبيعتها الشمولية وتعبيرها عن خصائص المجتمع المصري الدينية. غير أنها وجدت نفسها في صراع على اقتسام كعكة المجتمع مع السلفيين منذ السبعينيات فبدأت في التسلف هي الآخرى. وكانت حساسية الصراع المذهبي مع الشيعة إحدى دعاوى ابتعادها عن النظام الإيراني الذي تقاربت معه فور انتصار الثورة الإيرانية.
ولم يكن الخطاب الناضح بالمذهبية الذي ألقاه الرئيس مرسي في طهران الخريف الماضي إلا مزايدة على السلفيين ومغازلة لحسّ التمذهب النامي في المجتمع. وبالتالي ليست موجة التحريض الأخيرة على الشيعة وإيران في مصر بعيدة عن هذا التنافس الذي لم يصل إلى حد التصارع بعد بين الإخوان والسلفيين.
وفيما تدير السلطة الإخوانية صراعاً مع الأقباط، يتصدى السلفيون للحفاظ على الهوية السنية المدّعاة لمصر بالتحريض على الشيعة.
الجديد والمنبئ بالخطر في المشهد، أن الأزهر قد أصيب بعدوى الطائفية. فمع زيارة الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد، للقاهرة ومقابلته لشيخ الأزهر أحمد الطيب، وقياداته، ظهر التوتر بين الجانبين. وكان محور هذا التوتر القضايا المذهبية التي كان الأزهر بعيداً عنها. ولم تستطع المجاملات البروتوكولية إخفاء هذا التوتر في المؤتمر الصحافي، حيث خرج الأزهر ليطالب إيران بسن قوانين تمنع سب الصحابة.
ومقارنة بفتوى الشيخ شلتوت في الستينيات، ظهرت فتوى أزهرية صاحبها عميد كلية الدراسات الإسلامية ينفي فيها فتوى الشيخ شلتوت، ويحرّم التعبد على مذهب من «يعتقد بتكفير الصحابة وتحريف القرآن، ورمي أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها وأرضاها بما برأها الله منه، ومن اعتقد ذلك فهو كافر».
الأجواء في مصر مسممة بالطائفية، وهذا أسوأ ما خلفته سياسات الهوية كما تمارسها تيارات الإسلام السياسي بكل ما تحمله من تضمينات عقدية ودينية ومذهبية، وما جرّته من وبال على المجتمع المنهك بسبب عقود التخلف والاستبداد والثورة المتعثرة.
وفيما يتصاعد التوتر القبطي ــ الإسلامي، تدور معركة أخرى جانبية منهكة وغير ذات قيمة، حيث يضع كثيرون ممن يعتقدون بخطر التشيع في مصر المسألة السورية سبباً لرفض التقارب مع إيران. وقد يصدق هذا على الجموع البعيدة عن تعقيدات الحرب والثورة الدائرة والمدفوعة بعاطفة دينية مذهبية متّقدة وربما إنسانية متعاطفة مع مأساة السوريين. غير أن هذا أبعد ما يكون عن القيادات السلفية وجماعة الإخوان التي استخدمت هذه الملفات أسوأ استخدام للحشد والتجييش في سبيل الصراع على السلطة، فيما لم تزل أسباب الثورة الأولى باقية من دون علاج وتهدد بتفجير الأوضاع مرة أخرى.

محمد العربي

من عبدالناصر إلى «الإخوان»
أعادت الأحداث الطائفية التي شهدتها مصر خلال الأيام الماضية طرح تساؤلات عديدة عن جذور الفتنة الطائفية بين المسيحيين والمسلمين، وهي تساؤلات قديمة تتجدد مع كل حادثة

يبدو أن حالة الارتباك والتضارب التي تعاملت معها مؤسسة الرئاسة المصرية في قضية معالجة المشكلات بين المسلمين والأقباط أخيراً، سواء الرئيس محمد مرسي أو مساعديه، أعادت طرح تساؤلات عن الجذور السياسية للفتنة الطائفية في مصر.
لقد تعامل رئيس الدولة كممثل أعلى للسلطة السياسية في مصر، والبابا كممثل أعلى للسلطة الكنسية، التي بدأت جيدة ومتفاهمة مع الدولة، في بداية الأزمة. إلا أن هذه العلاقة تغيرت مع بيان مساعد الرئيس للشؤون الخارجية عصام الحداد، إذ أعلن البابا اعتكافه.

وقد ذهب آخرون الى أن تعامل مساعد الرئيس وبطء الرئاسة راجع إلى خشية هجمة الإسلاميين عليه، نظراً إلى تشابك تفسيرات ما حدث في العباسية بين مهاجمين للكاتدرائية، وسط وجود الأمن واستخدام بعض الأقباط من داخلها لأسلحة وقنابل مولوتوف، وتعدي بعضهم على ممتلكات أهالي العباسية وسط هتافات أغضبت كثيرين من المسلمين.
الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، يسري العزباوي، يؤكد أن «المقاربات في التعامل مع الملف القبطي برمته لم تختلف منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر حتى اليوم؛ فالجميع ينادون بتطبيق القانون، ولكن لم يقدم حتى الآن أحد للمحاكمة، ولا تزال طريقة التعامل تجري عبر المحور الأمني والديني».
ويبيّن أنه ما لم يُحاسَب الجاني والمحرّض ولم يُطبّق القانون على الجميع، فلن يكون هناك حل لجذور الفتنة على المدى المنظور.
ويضيف العزباوي سبباً آخر لوجود جذور للفتنة، هو عدم وجود تجديد للخطاب والفكر الديني الإسلامي والمسيحي، وهو ما يوفر بيئة خصبة ثقافية واجتماعية لتجدد الفتنة في كل حين.
وعن الجذور السياسية، يلفت إلى ضعف مشاركة الأقباط في الحياة البرلمانية المختلفة منذ عهد عبد الناصر حتى الآن، مع ضعف المشاركة في الأحزاب والمجتمع المدني، فضلاً عن وضع الأنظمة كلها مشاكل الأقباط في يد الكنيسة والبطريرك، وهو ما كُرِّس في عهد البابا شنودة الراحل؛ وهي أمور جميعها غيبت الكفاءات القبطية عن المشاركة في المجال العام للمجتمع، معتبراً أن النظام الانتخابي في مصر عقيم.
وينوه العزباوي إلى أن «تقوقع» الأقباط ساعد على عزلتهم، وترسيخ مفهوم أن الكنيسة أصبحت دولة داخل الدولة. فمن جانب لم تكن استراتيجية الدولة طوال العقود الماضية تحث على الخروج من هذا التقوقع، ولا كانت الكنيسة بجعلها القساوسة يتولون شؤون الأقباط في كل صغيرة وكبيرة تساعد على هذا الأمر. ويشير إلى أن جماعة الإخوان المسلمين موجودة منذ عام 1928، أي ما قبل ثورة تموز 1952، وبالتالي تأثير الحركات الإسلامية لم يظهر إلا بعد محاولة استغلال الرئيس الراحل أنور السادات، لها في مواجهة الناصريين، الأمر الذي جعل بعضها يستخدم خطاباً مهيئاً لانسحاب الأقباط.
بدوره، رأى الخبير في الشؤون القبطية، عبد الله الطحاوي، في حديثه مع «الأخبار» أن خلال الحقبة الناصرية، كانت الدولة قوية ولها سطوة، وبالتالي لم يكن مسموحاً بأي ممارسة خارج السياق العام للنظام، الذي يمكن وصفه بأنه نظام شبه علماني، حيث لم يكن هناك صبغة محددة لسلوك السلطة في هذا الوقت، وهو ما كان يمثل مؤشر اطمئنان للأقباط، هذا فضلاً عن أن المجتمع نفسه كان أكثر انضباطاً، بمعنى أن المجال العام كان لا يستطيع الخروج بممارسات تخلّ بأهداف المشروع الاشتراكي القومي.
وكانت الجماعات الدينية كلها منضبطة بهذا الأمر، إما بالوجود في السجن أو بالتزام خط الدولة. وفي المقابل، كان لدى الأقباط رجل دين يهتم بالصلاة ولا يدفع بالكنيسة في أمور سياسية، فكانت المعادلة آنذاك زعيماً قوياً ذا سطوة ورجل دين تقليدياً ومجالاً عاماً منضبطاً.
ويتابع الطحاوي أن أولى التحولات التي حدثت كانت بعد نكسة 1967، إذ أصاب المجتمع وقتها هزيمة روحية ومادية، واهتزت عنده الكثير من المسلّمات كالقومية والاشتراكية وقرر العودة إلى الدين بمسلميه ومسيحييه، للحفاظ على تماسكه الوجداني. وذلك حتى جاء عصر السادات والبابا شنودة معاً في أول السبعينيات؛ فالبابا شنودة رجل له رؤية ومشروع اجتماعي تعكس خلفيته التاريخية كرجل شارك في العمل السياسي في الأربعينيات داخل الكتلة الوفدية. أما السادات، فكان صاحب توجهات انفتاحية أدت إلى تفكك المشروع الوطني العام وغيابه، فضلاً عن أنه جاء على رأس سلطة غير متجانسة، اضطر معها إلى البحث عن بدائل تقلل من سطوتها، وهو ما ظهر في توظيفه لحركة الصحوات الإسلامية.
أما في عصر الرئيس المخلوع حسني مبارك، فانتقل ملف الأقباط من خزانة الرئاسة إلى خزانة الأمن، وأصبح رأس السلطة السياسية ذا علاقات موسمية وروتينية. وإذا احتاج الأمر إلى تعامل كبير، يكون من خلال وسطاء كزكريا عزمي ومصطفى الفقي وأسامة الباز. بيد أن البابا شنودة اصبح أكثر هدوءاً وغيّر من استراتيجية الصدام مع الدولة إلى المهادنة، نظراً إلى دخول الدولة في حالة مواجهة مع التنظيمات الإسلامية التي يعدها الأقباط العدو الأكبر لها، ونظراً إلى أن أي مواجهة طويلة المدى مع الدولة ليست في مصلحة الأقباط.
ويتابع الطحاوي انه «لم تستمر هذه الفترة طويلاً، حيث دخل أقباط المهجر على الخط في أواخر التسعينيات، الأمر الذي أعاد فكرة الصدام جزئياً، وحالة التوتر مرة أخرى».
أما مرحلة بعد الثورة، فيرى الطحاوي أن «مصر كانت أمام نموذجين: الأول نموذج ميدان التحرير، وأُعيد فيه إنتاج الجماعة الوطنية من خلال تلاحم كافة الانتماءات في الميدان. أما النموذج الثاني، فهو الذي ظهر بعد فترة من الثورة، وتمثّل في الصراع الوهمي الذي أجج الاستقطاب في المجتمع على خلفيات متعددة من بينها الديني والمدني».
وعلى المستوى القبطي، تغير رجل الدين ولم يعد يستطيع أن يقول إلا ما يرضي الشباب، وظهرت حركات قبطية جديدة تسيطر على المشهد، كثير منها التحم مع الحركات الراديكالية اليسارية.
ورغم موافقة الطحاوي على أهمية سيادة القانون، إلا أنه رأى أن في الفترة الحالية، وفي ظل ضعف الدولة الشديد، تبقى الجلسات العرفية حلاً ناجزاً لنزع فتيل الأزمة حتى العمل على تغيير واستئصال جذور الفتنة من المجتمع؛ لأن أحداً لن يقبل من المسلمين والمسيحيين أن يُسجَن على خلفية صراع طائفي.
من ناحيته يقول منسق التيار العلماني في الكنيسة الأرثوذكسية، كمال زاخر، لـ«الأخبار» إن الفتنة زارت مصر في أحداث الخانكة عام 1972، ثم عادت أخيراً من خلال أحداث منطقة الخصوص، المجاورة للخانكة، وكأن الفتنة بدأت في نقطة وعادت إليها. ويرى أن السادات أعاد إحياء الخلايا الراديكالية النائمة، وبمجرد أن أخذت الضوء الأخضر، نالت من الأقباط بوصفهم حجر العثرة أمام المشروع الاسلامي.
وعن طريقة معالجة الفتنة قبل الثورة وبعدها، يرى زاخر أنها لم تختلف بالنظر إلى أول واقعة بعد الثورة التي بدأت بكنيسة صول في أطفيح، عُقدت الجلسات العرفية وذهب الشيوخ والقساوسة، ومارسوا نفس الأنماط والأنساق المُرحّلة للمشكلة لا المعالجة لها من جذورها.

عبد الرحمن يوسف

أسباب الخشية من إيران
ربما كان الكثير رافضاً التصعيد الكبير الذي يقوم به السلفيون ضد «المد الشيعي» في مصر، معتبرين انه مبالغ فيه، إلا أن السلفيين يجادلون بأن فكرتهم لها وجاهة، مستندين في ذلك إلى عدد من الأسباب يمكن تلخيصها في القوة الناعمة الكبيرة لإيران، التي ظهرت بوضوح في عدد من دول الخليج كالبحرين والكويت وشرق السعودية وبعض أجزاء من اليمن، فضلاً عن العراق.

وهم في ذلك يخشون من خلق أتباع كثر لإيران تكون بمثابة بؤر توترات مذهبية في مصر، في ظل انفتاح تكنولوجي ودولة شبه غائبة في كثير من الأحيان داخل مصر. وهم يضعون أمام الناس تجارب قالوا انها كاشفة، كمساندة إيران لأميركا، ولو من طرف خفي، في غزو أفغانستان والعراق، أي إنها دولة لا غرض لها إلا مشروعها الكبير، ويعتبر هؤلاء الجمهورية الاسلامية «عدواً» أو «خصماً» خفيّاً، يفتتن الناس به، وخاصة مع «استخدام الشيعة لمبدأ التقية»، بما يُصعب اكتشاف أي نية قد تكون سلبية.
الأمر الأخير هو أن الفكر الشيعي «يتقبل ممارسة العنف ضد الذات» كما يحدث في المواسم الدينية من أعمال دموية بدعوى ذكرى قتل الحسين، وهو ما قد يفتح الباب لتطور هذا العنف.
ورغم أن السياسة الدولية والعلاقات الخارجية تقوم على مصالح الدول وشعوبها، إلا أن السلفيين يعتبرون هذه العلاقة غير مجدية لضعف القدرة الاقتصادية لإيران، مقارنة بما تحتاجه مصر في ظل الحصار المفروض عليها.

 

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...